أخبار رئيسيةمقالات

معركة الوعي (162) ملاحظات حول الرواية في معركة مخيم جنين

حامد اغبارية

انتهت جولة المراغمة الحالية بين إرهاب الدولة ممثّلا بالاحتلال الإسرائيلي، وبين تلك العِصابة التي تحمل راية الحق سعيًا إلى اجتراح طريق يؤدّي إلى خلاص هذا الشعب من مأساة القهر المستمرة منذ عقود طويلة.

انتهت الجولة لكن معركة المراغمة لن تنتهي حتى يصرخَ أحدُ الطرفين من الألم ويرفع الراية البيضاء. ستكون هناك جولات وجولات. وهو ما أكده نتنياهو شخصيا، معترفًا ضمنًا بفشل حربه الأخيرة على مخيم لا تزيد مساحته على كيلومتر مربع واحد، لأنه لو حقق ما زعم تحقيقه من أهداف الحملة لما بدأ التحضير للحملة القادمة التي ربما تمتد من جنين المدينة والمخيم إلى نابلس وغيرها.

أنا وأنت كفلسطينيين، ما الذي علينا أن نستوعبه ونضعه في قاموسنا ونحن نتفاعل مع الحدث الدامي؟

هذه جملة من الملاحظات الّتي قد تساعدنا في فهم حقيقة ما جرى في مخيم جنين:

1- هناك طرفان قدّما رواية إعلاميّة حول ما جرى في الميدان في مخيم جنين. أحد هذين الطرفين هو الاحتلال والآخر هو الضحيّة التي تعرضت للعدوان. فما الذي يجعلك تصدق رواية الاحتلال؟ بل ما الذي يجعلك تقول في نفسك: ربما ما يقولونه صحيحًا؟ لماذا نجد كثيرين يستبعدون تماما الرواية الأخرى؟  إنّ المنطلق الذي علينا أن نبدأ منه التعاطي مع الحدث هو أن الاحتلال يقدّم دائما روايات كاذبة مضللة. وهناك عشرات الأدلة على ذلك، وفي الروايات حول الحروب التي شنها الاحتلال على غزة منذ 2012 ما يكفي حتّى تدرك أنّ الكذب هو جزء من طبيعة الاحتلال. وهذا ليس اختراعا معاصرًا توصّل إليه خبراء الإعلام في القرن العشرين، بل هو رفيق تاريخي لكل احتلال فاشي، ولكل ممارِس للإرهاب ضد الشعوب الساعية إلى الحريّة والانعتاق. وهو قبل ذلك لصيق تاريخي مغرِقٌ في القدم لآباء وأجداد حملة المشروع الصهيوني. واقرأ التاريخ- إن شئت- حتى ترى العجب العجاب!

2- لسنا في العام 1948 ولا حتى في سنوات الستين أو السبعين، يوم كان المجرم يرتكب جريمته ويذرف الدموع متقمصا دور الضحية. يومها لم يكن هناك إعلام ينقل الحدث بالبثّ المباشر من موقع الحدث، بل كانت الجرائم تُرتكب دون أن تجد حتّى من يعلم بوقوعها. نحن اليوم في عصر تكنولوجيا الفضاء المفتوح، الّتي تنقل إليك ما يدور على الأرض بالصوت والصورة، وتنقل الروايات، وتضع روايات على محك الحقيقة. اليوم يستطيع طفل في العاشرة يحمل هاتفا نقّالا، قادتْه قدماه إلى موقع الحدث، أن ينسف بفيديو من بضع ثوان روايات الاحتلال مع كل ما يملكه من أدوات تكنولوجيّة ووسائل إعلام ومحللين مضللين… لذلك لم تعد الساحة خالية للاحتلال ليرتكب جريمته، ثم يبكي ثم يكذب ثم يجد من يصدقه ويبرر له جرائمه.

3- في مقارنة الروايتين؛ رواية الاحتلال ورواية الضحية متمثلة بشعبنا، سواء في غزة أو الضفة أو الداخل، ثبت عمليًّا أنّ كلّ الرّوايات الّتي قدّمها الاحتلال للجمهور كانت كاذبة ومضللة. ولست وحدي أقول هذا، بل إن إعلام المشروع الصهيوني كشف أكثر من مرة كذب روايات حكوماته المتعاقبة المتعلقة بكل حدث يتعرض فيه شعبنا للعدوان. ولاحِظ معي أن هذا الإعلام الصهيوني، هو ذاته الذي مارس التضليل أثناء وقوع الحدث، لأنه جزء من المعركة. والأهم من ذلك أنّه في الوقت الذي اجتمع العالم كلّه حول رواية الاحتلال وروّج لها وأفرد لها المساحات عبر كل وسائل إعلامه، وعلى لسان محللين وسياسيين من أصناف شتّى، صغيرها وكبيرها، اتّضح أنّ رواية الضحيّة، الّتي هي شعبُنا، كانت هي الرواية الصحيحة. بل والأعجب من ذلك أنّ تفاصيل الرواية كما وردت بحذافيرها في بيانات الضحية، الصوتية والمكتوبة، كانت دقيقة بصورة تثير الدهشة، حتى دهشة الاحتلال المصدوم. ومع ذلك فإننا نعيش في عالم فاسد من رأسه إلى أخمص قدميه، غارقٍ في مستنقعٍ أنتنَ من كثرة الكذب والتضليل. ولكن المصيبة أننا ما زلنا نجد من بيننا من يصدّق!!

ما زلنا نجد مثلا من يصدّق أن الاحتلال لم يتعرّض لأية خسائر ذات شأن في حملته الإرهابية تلك، بينما قدّمت الضحية الدليل، بل الأدلة بالصورة على كذب مزاعم الاحتلال. وفي مشاهد الأكياس البيضاء المغلقة ما يقول الكثير.

4- زعم نتنياهو أنّ حملته الدمويّة على مخيّم جنين قد حقّقت أهدافها الّتي وضعت مسبقا، لكنّه نسي أن يغلق الميكروفون وهو يقول: وستكون لنا جولات أخرى مع من يسميهم الإرهابيين!!

فهل فعلا حقّق الاحتلال أهدافه التي وضعها مسبقًا؟ وأين سمعنا هذا الكلام قبل ذلك واتّضح أنه يقطُر كذبًا؟ وما هي تلك الأهداف؟ لماذا لم يعلن عنها نتنياهو؟ لماذا لم يقل مثلا: أردنا قتل فلان وقتلناه وها هو الدليل بالصوت والصورة؟

حقيقة الأمر أنه لم تكن هناك أهداف محدّدة مسبقا. كانت هناك حملة عسكرية معدّة مسبقا، لكن دون أهداف محددة!! خرجت الحملة الإرهابية ضد مخيم جنين بزعم القضاء على العناصر المسلحة (فصائل المقاومة). فهل كان اغتيال 12 شابًّا من أبناء المخيم يحتاج كل هذا الحشد العسكري الذي يُحشد عادةً لشن حرب على دولة بحجم لبنان مثلا واحتلالها خلال ساعات؟

ولماذا لم يقف نتنياهو في مؤتمر صحافي، بعد انتهاء الجريمة، ليعلن تفاصيل بطولات جيشه وانتصاراته في المخيم؟ كيف خرست الألسن وامتلأت الأفواه ماء، حتى أفواه الإعلام الذي بدا أنه كان ينتظر إعلان الانسحاب من جنين ليطوي هذه الصفحة ويتخلص من مسلسل الأكاذيب والأضاليل؟

نعم، كان هناك شهداء، وكان هناك مئات الجرحى. هذه حقيقة. فهل هؤلاء كانوا هم هدف تلك الحملة الّتي جيّش لها نتنياهو كل تلك القوات؟ وكان هناك مئات المعتقلين، الذين زعم الاحتلال أنهم كانت لهم يد في مواجهة الاحتلال، دون أن يقدم دليلا واحدا على ذلك. مجرد أشخاص من أهل المخيم اعتقلوا في انتظار تلفيق ملفات ليكتمل المشهد التضليلي.

وكان هناك آلاف الأهالي الذي أجبرهم الاحتلال على مغادرة بيوتهم تحت التهديد بالقصف والقتل أو الاعتقال. وكانت هناك عشرات البيوت التي هدمت والشوارع التي جرفت والأحياء الكاملة التي سوّيت بالأرض، حتى لكأن المخيم ضربه زلزال. وكانت هناك منافذ مغلقة تمنع الدخول إلى المخيم، حتى أنها سدت الطريق أمام سيارات الإسعاف والإسناد الإنساني ومؤسسات الإغاثة المحلية والدولية من أداء دورها. هذا ما حققه نتنياهو وجيش احتلاله، وما سوى ذلك كذب وتضليل.

5- إنّ الانتصارات لا تقاس بحجم الدّمار ولا بعدد الضحايا، وإنّما بالنتائج الّتي تحققت من وراء ذلك. وخذ أوكرانيا على سبيل المثال. فقد تحولت مدن كثيرة فيها إلى ركام ومدن أشباح، وقتل من جيشها وشعبها الآلاف، فهل يمكن لبوتين أن يزعم أنّه حقق انتصارا، وأنَّ أوكرانيا قد هزمت ورفعت راية الاستسلام؟ فإن كان نتنياهو قد حقق نصرا في مخيم جنين الّذي لا تزيد مساحته على كيلومتر مربع واحد، فليُرِنا عضلات انتصاره؟

6- بكل هدوء أعصاب يمكنك أن تقول إن مخيم جنين انتصر على بطش الاحتلال وجبروته وقوته الفاشلة. كيف ذلك؟ الأمر يتعلق بكيفيّة النظر إلى المسألة. وفي قضية مخيم جنين، فإنّ صمود المخيم وإعلان فصائل المقاومة أنها ما زالت في الميدان، وأنها ما تزال قادرة على صدّ أي عدوان هو انتصار. بل هو انتصار كبير. وأعتقد أن نتنياهو وقادة جيشه الّذين هم أكذب منه يعرفون هذا ويستوعبونه، كما استوعبه أسلافهم عام 2002. وقد مضى أسلافهم إلى حيث تعرفون، ولا يزال مخيم جنين ينبض ويراغم الاحتلال رغم أنفه.

7- عودة إلى الرّوايات فيما يتعلق بالخسائر المادية والبشرية. فقد زعم الاحتلال أنّه لم تكن لديه خسائر كبيرة. وقالت بيانات الضحية إنها أوجعت الاحتلال وأثخنته. في هذا أجد نفسي أكذّب رواية الاحتلال حتى يثبت العكس، وأصدّق رواية الضحية حتى يثبت العكس. والأيام القادمة كفيلة بأن تقول كلمتها في هذا المسألة. فلا حاجة للاستعجال…

8- في خضمّ الروايات لا تقع في فخ الاحتلال وإعلامه الذي صوّر الحدث في مخيم جنين وكأنه معركة بين دولتين، بل هو جريمة ارتكبتها دولة احتلال تملك كل وسائل العدوان العسكرية والاستخبارية، ترافقها شبكة جواسيس لا مثيل لها تعيش كالفئران وسط أبناء شعبنا، ضدّ ضحية لا تملك إلا القليل القليل من الأسباب الماديّة، ترافقه الإرادة والرغبة في تحقيق الحرية والانعتاق من الاحتلال. لذلك من الظلم حتى المقارنة بين الروايتين بنفس المستوى وبنفس الأدوات. في هذه المقارنة فإن بقاء الضحية على قيد الحياة هو بحد ذاته انتصار، ناهيك عن أن الضحية ليست حيّة فحسب، بل لها صوت هادر يملأ الأسماع، ولها رواية. والمقصود بالضحيّة هنا مخيم جنين الذي مثّل في المشهد الأخير الضحيّة الأكبر: فلسطين.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى