أخبار رئيسية إضافيةمقالات

“صادق مُضر خير ألف ألف مرة من كذاب ربيعة”

ساهر غزاوي

كان بنو حنيفة، وهم بطن من بطون بكر بن وائل، وهي إحدى قبائل ربيعة، وكان مسكنهم اليمامة، يعلمون علم يقين أن “مسيلمة”، مُدعي النبوة، كذاب مهرج ومع ذلك اتبعوه، ليس حبًا فيه، ولكن تعصبًا للقبيلة ونصرة للعشيرة، وحتى لا يقعوا وهم أبناء ربيعة تحت إمرة قبيلة أخرى من مُضر وهي قريش، وقالوا مقالتهم الغيورة على حسبهم ونسبهم: “كذاب ربيعة خير عندنا من صادق مُضر”. فكذاب ربيعة هو مسيلمة مُدعي النبوة، وصادق مُضر هو خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم الذي هدم العصبية الجاهلية وعنصرية العرق واللون والقائل: (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية).

مقولة “كذاب ربيعة خير عندنا من صادق مُضر” هي صورة من صور التعصب للقبيلة/ الحمائلية والحزبية أيضًا، هذا التعصب الذي يُعمي الأبصار عن رؤية الحق ويعطل اللسان عن النطق به. ونقول هذا الكلام ونحن على بُعد أشهر قليلة من انتخابات السلطات المحلية التي لنا فيها كمجتمع تجربة مريرة من حالة النزعة العائلية والحمائلية بمفهومهما السلبي والمسيطر- بالمقابل، العائلية والحمائلية لها مفاهيم إيجابية تعود بالخير على الأفراد والمجتمع إن أُحسن توظيفها- فإن أكثر ما يُخشى ويعمل له ألف حساب، هو مشهد تجديد إثارة العنف وتفاقمه وتصفية الحسابات الشخصية والعائلية في انتخابات السلطات المحلية. خاصّة في ظل استفحال آفة العنف والجريمة التي تُعد من أخطر التحديات التي تواجه المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني، وإن لم تكن الانتخابات هي السبب الرئيس للعنف في المجتمع العربي، لكنها تعكس حالة التشظي المجتمعي المريع وتآكل المنظومة القيمية.

في ظل هذا الواقع الذي نعيشه في هذه المرحلة من ترسيخ للنزعة العائلية والحمائلية بمفهومهما السلبي والمسيطر والتي غدت هي الحالة السائدة والحاضرة في مشهد انتخابات السلطات المحلية، وهي الحالة المسيطرة والمتنفذة على معظم المجالس المحلية العربية كونها سلطة تنفيذية لها ميزانيات كبيرة وتوظف عددًا كبيرًا من الموظفين ومصدر تأثير كبير في المجتمع العربي، في ظل ذلك نسأل: كيف نستطيع تفسير مقولة “لسنا قلقين طالما أنهم أشباه مثقفين”؟!، رغم أن المجتمع الفلسطيني في أراضي الـ 48 يمر في السنوات الأخيرة بموجة تعليم متزايدة من المفترض أن تنعكس على ثورة مفاهيم تنتشر وتذوت وترسخ في الوعي المجتمعي، ومنها اختيار ذوي الكفاءات والمهارات لمناصب في السلطات المحلية ليصبح العمل فيها أكثر مهنية والترشيح لهذه المناصب يكون مبنيًا على أساس القدرات والصالح العام وليس الانتماء العائلي الحمائلي الضيّق؟!.

لقد كشفت الوثائق الإسرائيلية التي أزيلت السرية عنها، وهي عبارة عن بروتوكولين لمداولات قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، من العامين 1960 و1965، التي اعتبر فيها رئيس الشاباك في حينه، عاموس مانور، بالمجتمع الحمائلي التقليدي العربي أنه أفضلية بالنسبة للحكم الإسرائيلي. وقال إنه “يجب ألا نحرك تحولات. ويجب الحفاظ على الإطار الاجتماعي الموجود… كأداة سلطوية”. وأضاف أن المثقفين العرب سيشكلون “مشكلة”، وشدد على أنه “لسنا قلقين طالما أنهم أشباه مثقفين”. ودعا إلى أن تحافظ إسرائيل على “النظام الاجتماعي التقليدي” لأنه “يُبطئ وتيرة التقدم والتطوير”، معتبرًا أنه كلما كانت عملية تقدم العرب أسرع “ستكون لدينا مصائب. وبعد 40 عامًا ستكون لدينا مشاكل يستحيل حلها”.

فبعد غياب الحكم العسكري (ظاهريًا)، سعت المؤسسة الإسرائيلية لإبقاء أدوات سيطرتها على المشهد من خلال السلطات المحلية وفضلت التعامل مع الأجسام العائلية، على اعتبار أنها لا تملك رؤى سياسية أو أيديولوجية أو برامج عمل، بالإضافة إلى أن العائلة لا تتجاوز حدود البلدة التي “تحكم” فيه، والأهم أن المؤسسة الإسرائيلية تغض الطرف عن فساد ومحسوبيات السلطات المحلية المدارة حمائليًا والتي تنفذ أجندات عائلية لصالح تمرير سياسات سلطوية، وهذا ليس مجرد قراءة تحليلية، إنما هي حقيقية مرة يؤكدها الواقع المُعاش في مجتمعنا.

والحديث في هذا المضمار عن الأحزاب السياسية والوطنية في المجتمع العربي بالداخل الفلسطيني، فإن دورها قد تراجع على الصعيد القطري بالأساس، قبل أن يتراجع دورها على الصعيد المحلي لصالح “قوة العائلة” والنزعة الحمائلية في انتخابات السلطات المحلية لأسباب عدة، لا مجال لذكرها في هذا المقام، فالأحزاب السياسية هي التي من المفترض أن يكون لها النشاط الحزبي والدور في الحياة العامة كفاعل أساس في عمليتي التثقيف السياسي والتنشئة السياسية وحمل هموم المجتمع والدفع به، لكن مع شديد الأسف عملت الأحزاب في الكثير من البلدات العربية على تسييس العائلة تسيسًا مشوهًا بسبب العلاقة “المصلحية” التي حدثت بين الأحزاب والحمائل، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل عملت الأحزاب أيضًا على الاستقطاب العائلي الحمائلي في ماراثونات انتخابات الكنيست الإسرائيلي حتى بتنا نشهد في العديد من البلدات العربية الولاء الانتخابي للعائلات/الحمائل مقسم بين الأحزاب الكنيستية، غير أن هذا لا يلغي الاستثناءات هنا وهناك.

والسؤال هنا أيضًا عن النخبة المثقفة والأكاديمية والنخبة المحسوبة على مشاريع الإصلاح الديني والمجتمعي كذلك المأمول منها الخير، فهل سيكون لهذه النخب الدور في التغيير واختيار ذوي الكفاءات والمهارات لمناصب في السلطات المحلية المبني على أساس القدرات والصالح العام وليس الانتماء العائلي الحمائلي والحزبي الضيّق؟ أم أنها نخب غالبيتها مُشبعة بالتعصب العائلي والحزبي و”أشباه مثقفين” مستعدة أن تنصر مرشحها ظالمًا أو مظلومًا ومستعدة لمعاونته على الظلم والبغي والفساد الأخلاقي والإداري والمالي وحتى لو كان مرشح الطرف الآخر المنافس ذو كفاءة ومهارة وقدرات عالية يشهد له القاصي والداني؟ وهل ستنطلق هذه النخب من قاعدة “صادق مُضر خير ألف مرة من كذاب ربيعة”؟ أم من قاعدة التعصب الحمائلي والحزبي “كذاب ربيعة خير عندنا من صادق مُضر”!!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى