أخبار رئيسية إضافيةمقالات

الجانب الآخر لسياسة أردوغان البراغماتية

ساهر غزاوي

تصدرت الانتخابات التركية بشقيّها الرئاسي والبرلماني التي جرت الأحد الفائت، اهتمامات الرأي العام العالمي والدولي، والمنصات الإعلامية بمختلف مسمياتها، ولا سيّما العربية منها، ولا غرو أن تصبح انتخابات 2023 التركية الحدث الأهم عالميًا، نظرًا لما سوف يترتب على نتائج هذه الانتخابات من متغيرات على صعيد الداخل التركي والمحيط الإقليمي والعالمي، بالرغم من أنّ هناك من يرى في هذا الاهتمام والتفاعل بشكل واسع فيه من التهويل الزائد الذي لا يستحق كل ذلك.

وإن كان الاهتمام العربي الرسمي وتوابعه بدا بالظاهر وكأنه أقل اهتمامًا بهذا الحدث المثير، إلا أنه من وراء عدسات الكاميرات وشاشات المحطات التلفزيونية يتابع هذا الحدث متابعة دقيقة، ليس فقط لأن العملية الديمقراطية تحرج الموقف العربي الرسمي (صاحب براءة اختراع وحق الملكية للنسبة الاستبدادية 99,99%) أمام الشعوب، وإنما أيضًا لما ستسفر عنه نتائج هذه الانتخابات وأثرها في الأنظمة السياسية بالمنطقة، مع أهمية التذكير هنا أن ممارسة “اللعبة الديموقراطية” وسيلة بحد ذاتها ولا بد لمفاهيمها أن تخضع لضوابط وحدود.

لقد شهدت الانتخابات التركية حالة من التعقيد والتركيب، وبدت كمفترق طرق حاسم بين الاستمرار في المسيرة التي يقودها الرئيس أردوغان بحزم وثبات والتي حققت نجاحات وإسهامات فارقة في تاريخ الدولة التركية على جميع الأصعدة، خاصة الاستمرار بالعمل على ضمان لتركيا مساحة لائقة بين الأمم وموضعة نفسها في المكانة الإقليمية والدولية، وبين مسار مغاير تتبناه المعارضة وهو- بحسب وصف المفكر محمد مختار الشنقيطي- الرِّدة السياسية والثقافية، والعودة إلى عهد التبعية والهوان، والفساد المزمن، والركود الاقتصادي، والتسوُّل على موائد الغرب، والحكومات الائتلافية الهشة، والسياسات التلفيقية القاصرة، ووهَن العزائم السياسية، وتراجع المكانة الإقليمية والدولية.

في خضم ذلك، يُطرح السؤال حول ما الذي تغيّر في تركيا حتى يتصدر الحدث الانتخابي المثير اهتمامات الرأي العام العالمي والدولي والمنصات الإعلامية بمختلف مسمياتها؟ ولا شك أن هناك عوامل كثيرة مجتمعة يمكن من خلالها الإجابة عن هذا السؤال وتفرعاته بالتفصيل، غير أن الذي لا يدع مجالًا للشك أن شخصية الرئيس رجب طيب أردوغان خلال السنوات الأخيرة، وطموحه نحو تحقيق أهداف كبيرة فاقت التوقعات داخليًا وخارجيًا، قد تصدرت كل العوامل الكثيرة المجتمعة التي يضيق بنا المجال الحديث عنها في هذا المقام بالرغم من أهميتها.

لا يختلف أحد أن الرئيس أردوغان يُعد من أبرز الشخصيات السياسية الكاريزماتية الجذابة والمُلهمة، وكذلك لا يخفى أن معظم المُلهمين السياسيين بشخصية أردوغان-عرب ومسلمون- يتمحور جلّ تركيزهم واهتمامهم حول سياسته البراغماتية، حتى أن هناك من يحاول أن يستلهم سياسة أردوغان البراغماتية ويسقطها على عمله السياسي الذي يكاد يحصره قسم من الناس بالمسار الانتخابي بمختلف مسمياته، مع أن العمل في المجال السياسي واسع جدًا وكثير التشعّبات، ويخطئ من يحصره في المسار الانتخابي وصناديق الاقتراع، فلا يكاد ينجو ميدان من الاشتباك في موضوع السياسة وممارسة أدواتها ومفاهيمها ومنها “البراغماتية المنضبطة”، كحالتنا السياسية في الداخل الفلسطيني على سبيل المثال لا الحصر، مع أهمية المراعاة لاختلاف طبيعة المناخ السياسي من مكان لآخر، هذا عدا أن ممارسة السياسة البراغماتية غير المنضبطة صارت تصل إلى حد الانفلات السياسي والانحراف عن الجادة، مع أن سياسة أردوغان البراغماتية معتدلة ومتوازنة وتراعي القيم والمبادئ كما تسعى لتحقيق المصالح والمنافع وتدفع المفاسد والأضرار عن بلاده.

ومع أن المعظم يتمحور حديثه حول سياسة أردوغان البراغماتية (المعتدلة)، لكن هذا لا يعني أن هذا هو الجانب البارز والمهم من حياة أردوغان الشخصية ومشواره السياسي وتطوره الفكري وجهوده وتدرجه في أروقة السياسة وتجربته في العمل السياسي والتي تزيد عن الخمسين عامًا، ويوجد جانب لا يقل أهمية عن الجانب السياسي البراغماتي من حياة أردوغان السياسية منذ أن تولى دورًا بارزًا في الاتحاد الوطني للطلبة الأتراك والمنظمات الشبابية، وعندما كان في سن مبكرة انخرط في حزب “السلامة الوطنية” الذي تأسس عام 1972 بزعامة الراحل البروفسير نجم الدين أربكان إلى أن أصبح رئيسًا للدولة التركية ومرشحًا لولاية رئاسية أخرى عام 2023.

إن حياة أردوغان الشخصية ومشواره السياسي الطويل مليء بالتحديات والمطاردات السياسية والتحذيرات الدموية التي هددت حياته الشخصية، إلى جانب العديد من محاولات الاغتيال التي نجى منها بقدر من الله، ولا يتسع المجال هنا لعرض تفصيل التضييقات والضغوط التي تعرض لها أردوغان من الداخل والخارج، فضلًا عن التهديد المتكرر بالقتل والفترة التي قضاها في السجن السياسي، وهناك بعض الكتب التي تسلط الضوء على مثل هذه التفاصيل التي تخفى عن الكثير رغم أهميتها في حياة أردوغان الشخصية ومشواره السياسي، إلا أنني أنصح بشدة بقراءة كتاب (رجب طيب أردوغان قصة زعيم) من تأليف شخصيتان قريبتان من أردوغان وقد كتبا فصول هذا الكتاب من داخل الأحداث وهما، حسين بسلي وعمر أوزباي.

في النهاية لا بد من الإشارة إلى أن أصحاب المبادئ والأفكار سيبقون على محك الصدام والمواجهة مع من يكن لهم ولأفكارهم ومبادئهم العداء الدفين، ويمكن للسياسة البراغماتية (إن كانت معتدلة أو غير منضبطة) أن تؤجل المواجهة لكنها لن تستطيع منعها أو إلغائها كليًا إلا إذا سلم الراية أصحاب المبادئ والأفكار وتنازلوا عن مبادئهم وأفكارهم، فسياسة أردوغان البراغماتية (المعتدلة) لم تسطع حمايته من التهديدات والتحذيرات الدموية والمخاطر ولم تستطع إبعاده عن عين الاستهداف الداخلي والخارجي، مثلما أن براغماتية راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة في تونس لم تحميه من الاستهداف والملاحقة السياسية التي أفضت في نهاية المطاف إلى مصادرة حريته والزج به في السجن، ولا يكفي أن يكون أصحاب المبادئ والأفكار مدركين ومتنبهين جيدًا للتهديدات والمخاطر المحيطة بهم، بل من المهم كيف يُعدوا ويستعدوا لها، وكيفية التعامل معها عند وقوعها وينتصرون عليها كما انتصر أردوغان على الكثير من التهديدات والتحديات والتحذيرات الدموية ببسالة وشجاعة وتضحية عبر مشواره السياسي الطويل.

 

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى