تقارير ومقابلاتمحلياتمرئيات

الوقف الخيري ودوره التمويلي.. “مال وأعمال” مع د. أنس سليمان اغبارية.. الحلقة 5

في الحلقة 5 من برنامج “مال وأعمال” مع الدكتور أنس سليمان أحمد اغبارية، تحدث عن “الوقف الخيري ودوره التمويلي”. ويبثّ البرنامج على قناة “موطني 48” عبر منصة “يوتيوب” وعلى صفحة “موطني 48” على “فيسبوك”.

يقول د. أنس “يعدّ الوقف الخيري فصل آخر من فصول الحضارة الإسلامية المشرقة، والوقف أو الحبس: يشير إلى التصرف الذي بموجبه يتنازل المالك عن ماله أو منفعة ماله طاعة وقربة، لتعمم هذه المنفعة على المجتمع أو شريحة منه، ومن هنا كان تعريف الوقف الذي لقي قبولًا واسعًا عند الباحثين: تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. فالوقف بهذا المعنى، مال تنازل مالكه عن منافعه لصالح المجتمع أو شريحة منه. والوقف والحبس مترادفان ولهما الدلالة ذاتها، على أن المفهوم المتقدم للوقف يخص الوقف الخيري الذي ينشأ بإرادة الواقف ولا يشمل وقف الشارع ووقف السياسة الشرعية. وإذًا فالوقف الخيري يكون بإرادة منفردة يعقدها (صاحب المال) على نفسه تقربًا إلى الله تعالى وإحسانًا إلى خلقه. وهذا الوقف ضرب من ضروب الطاعات التي ندب إليها الشارع الحكيم، وحبب فيها إجمالًا فهو ما يندرج تحت عموم الإنفاق المحمود الذي يرجى ثوابه. أما خصوصيته فتتمثل في كونه: (صدقة جارية) تدوم بدوام الأصل من المنتج للمنفعة المُتصدق بها، وهذه الصورة من الوقف هي التي تواضع الفقهاء على تعريفها بـحبس العين وتسبيل الثمرة أو المنفعة”.

وأضاف: “والأصل في الوقف حرية الواقف وتسلطه شرعًا على المال الذي يملكه، هذه الحرية التي تجيز له كل التصرفات المباحة فضلًا عن المندوبة ومنها الوقف، وفي هذا السياق كان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا عمر رضي الله عنه عندما أصابَ عمرُ ابنُ الخطَّابِ أرضًا بخيبرَ فأتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فاستأمرَه فقالَ يا رسولَ اللَّهِ: إنِّي أصبتُ مالًا بخيبرَ لم أصِبْ مالًا قطُّ هوَ أنفَسُ عندي منهُ فما تأمرني بِه، فقالَ: “إن شئتَ حبَستَ أصلَها وتصدَّقتَ بِها. فعمِلَ بِها عمرُ علَى أن لا يباع أصلُها ولا يوهَبَ ولا يورثَ وتصدَّقَ بِها للفقراءِ وفي القُربى وفي الرِّقابِ وفي سبيلِ اللَّهِ وابنِ السَّبيلِ والضَّيفِ لا جناحَ علَى من وليَها أن يأكُلَها بالمعروفِ أو يُطعِمَ صديقًا غيرَ متموِّلٍ، وهو توجيه يؤصل لأحكام الوقف الخيري بالجملة”.

 

إسهامات الوقف الخيري للمجتمع الإسلامي

وحول كيفية إسهام الوقف في تمويل احتياجات المجتمع المختلفة، يتابع الدكتور أنس سليمان: “يظهر من الاستقراء التاريخي واستقراء الموروث الفقهي كذلك؛ أن الوقف نهض بتمويل جزء كبير من العرض العام الذي تمُسُ حاجة المجتمع إليه، ولعل من أوضح المجالات التي برز فيها دور الوقف الخيري في:

– تمويل بناء المساجد والزوايا والمقابر، وتمويل الإنفاق الجاري عليها: رواتب القائمين عليها ونفقات الإنارة والنظافة والفرش والتجهيز والترميم.

– تمويل بناء المدارس والكتاتيب ودور العلم، وتمويل الإنفاق الجاري عليها مثل: رواتب المدرسين والقائمين على خدمتها ونفقات إسكان الطلبة وإعاشتهم وكسوتهم ونفقات تجهيزها بالقرطاسية، وأصل هذا البر الدعوة إلى العلم والتعلم والرحلة في طلبه والبذل في تيسيره.

– تمويل نفقات استنباط العيون وتمديدات الماء خاصة في المشاعر المقدسة وداخل المدن، وبناء الاستراحات في الطرق الخارجية لا سيما طرق الحجيج، وقد دشنت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتحريضه على وقف بئر (رومة) وتعميم نفعها، جهدًا لم ينقطع في التاريخ الإسلامي.

– تمويل بناء المشافي (البيمارستانات) وتمويل إنفاقها الجاري مثل: إعاشة المرضى وكسوتهم فضلًا عن معالجتهم والإنفاق على تمريضهم وإجراء رواتب المنشدين الذين يرفهون عنهم.

– تمويل القرض الحسن بوقف النقود فيما يمكن تسميته بـ (بنوك التسليف الوقفية) تفريجًا لكربات المحتاجين، وهو مقصد رغّب الشارع فيه، وفي وقف النقود استجابة لتطور المجتمع المسلم، وقد نقل النووي عن الإمام الشافعي جواز وقف الدنانير والدراهم.

– تمويل التسليف العيني فيما يمكن تسميته بـ (بنوك البذور) لمن لا يجدها من المزارعين وهي قضية لم يغب عن الاجتهاد الفقهي النظر فيها.

– تمويل بناء المياتم ودور العجزة والأرامل؛ فكافل اليتيم قرين النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة والسعي على الأرملة والمسكين قربة من أبر القربات.

– تمويل الجيوش المسلمة وتجهيزها استجابة لأمر الله تعالى جهادًا بالمال وإعدادًا للقوة، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا خالد رضي الله عنه فضله في هذا السياق، ففي الحديث المتفق عليه: “وأما خالد فقد أحتبس أدراعه وعتاده في سبيل الله”، وقد رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في ربط الخيل وفي احتباسها في سبيل الله تحقيقًا للغرض ذاته.

– تمويل مرافق الضيافة للغرباء وقرى أبناء السبيل وتمويل المّبرات والموائد الرمضانية.

– تمويل مرافق الخدمة الاجتماعية؛ فبيوت إصلاح ذات البين التي تستقبل المتخاصمين من الأزواج، وبيوت المطلقات والمهجورات، وبيوت العميان، كل ذلك مؤسسات اجتماعية أُنشئت بمبادرات خيرية فردية، ومثلها أوقاف الرفق بالخدم فقد عرف المجتمع المسلم بنكًا عجيبًا هو بنك (الآنية المكسورة) الذي تخصص بإبدال الآنية التي تكسر في أيدي الخدم دفعًا للملامة ورفعًا للحرج عنهم!!. – أوقاف مرصدة لتحرير الأسرى ولعتق الرقيق، وهي جهة للبر تأكدت أصولها بمباني الإسلام التشريعية ومنظومته القيمية.

– أوقاف تحسينية اهتمت بها (بنوك الحلي)؛ فقد رُوي أن أم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنها ابتاعت حليًا وحبستها على نساء آل الخطاب، وقد تقرر فقهًا صحة وقف الذهب والفضة لأجل اللبس والعارية.

– أوقاف ترفيهية مثل الحدائق العامة والبرك والمتنزهات التي يتاح لعموم الناس الاسترواح بها.

– أوقاف الرفق بالحيوان، ومن ذلك أوقاف للخيول المُسِّنة، وأوقاف للطيور خاصة طيور الحرم؛ ففي كل ذي كبد رطبة أجر، وإكرام الصحبة والجوار من كرم السجايا”.

يكمل د. أنس “استطاعت مؤسسة الوقف بصبغتها الدينية الموقرة، وبالتوثيق القضائي لملكيات الأوقاف أن تحصّن الأموال العامة وتحافظ عليها بوجه الأطماع والتجاوزات في أحكم عملية توثيق عرفها الاجتماع الإنساني. ومما تقدم يتضح أن الوقف الخيري هجوم اختياري وانتقائي على الفقر وجيوب العجز في العرض العام اللازم للرفاهية، يتلخص هذا الهجوم في تشخيص موطن القصور أولًا، ومن ثم في رصد التمويل وتشكيل الإطار المؤسسي اللازم لاستدراكه تاليًا؛ فالوقف بهذا المعنى مرصد اجتماعي يشخّص مواطن الخلل في إشباع الحاجات العامة أو الخاصة من جهة، ثم هو بعد ذلك آلية تسعى لاستدراكها رفقًا وشفقةً بالموقوف عليهم، وقربة واحتسابًا عند ربهم. وما تقدم يعكس المدى الرفيع الذي وصل إليه نبل الحس الإسلامي الذي أخرج الإنسان من سجن أنانيته إلى آفاق الإيثار الرحيبة التي ميزت الاجتماع الإنساني الذي يستجيب لهدي الله تعالى في تنظيم معاشه ومعاده”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى