أخبار رئيسيةمقالاتومضات

قراءة في السياقات السياسية لحكومة نتنياهو السادسة (4/4)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

 كشفت أحداث الأسبوع المنصرم، ابتداء من الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الخميس الماضي (26/1/2023) في مخيم جنين تاليًا لمقتل 33 فلسطينيًا وفلسطينية على يد قوات الاحتلال منذ مطلع هذا العام وإلى ما قبل مجزرة الخميس، عن حجم التغول الذي تمارسه هذه الحكومة ضد الفلسطينيين مستمرة في سياسات من سبقها من حكومة الرأسين وخطة “كاسر الأمواج”. وكان من المتوقع رد الفعل الفلسطيني على هذه الجرائم، كما كان متوقعًا ردّ الفعل الاحتلالي على رد الفعل الفلسطيني، لكنّ الملفت للنظر، حالة التخبط والتغول الفاشي الذي قامت به هذه الحكومة من أفعال انتقامية تحاكي رغبة الشارع المصوِّت لها لدغدغة عاطفة هؤلاء الرعاع، ليتضح لنا صدقية مقولة الفيلسوف اليهودي “زيجمونت باومان” في كيفية افتعال الساسة للشر لتحقيق تبعية المصوتين لهم، وأخالهم في طور اللا-أمان حتى يتحولوا إلى قرابين في السيطرة السياسية، ودفع هذه الجموع للمطالبة بأن تكون الحكومة ذات يد باطشة وسياسات خشنة (للتوسع انظر كتاب: الشر السائل، العيش مع اللا بديل). وحتى تتضح الصورة بشكل أوضح في تحقيق معنى تعميق الخوف وإحالته إلى قيمة سياسية مؤثرة وموجهة، أدعو القارئ الكريم لمتابعة- ولو لساعة واحدة- القناة الـ 14 ذات التوجهات القومية اليمينية وكيفية ضخ المعلومات لتحقيق سيطرتها على الناخب اليميني، عبر تعزيز هويته القومية. وتستغل هذه الحكومة والأعضاء في الكنيست، هذه الفترة لتعميق وجودها المجتمعي وتغلغلها داخل المجتمعات التي لا تصوت لهم عبر تفعيل ثنائية التاريخ والقيم. وتلعب ثنائيات “المعبروت” والإكراه السياسي الذي مارسته الحكومات العمالية على مدار ثلاثة عقود، دورًا كبيرًا في تعميق الوعي السياسي المناهض للنخبة الاشكنازية العلمانية.

 

الشعبوية السياسية الإسرائيلية..

منذ عام 2009 يقود نتنياهو البلاد، وتحول “الليكود” إلى “مباي” المرحلة السياسية الراهنة التي يعيشها الكيان، وامتازت سياسات نتنياهو الذي قاد الحزب بالاستناد إلى الميراث السياسي لمن سبقه من الليكوديين، وهذا الميراث متعلق بالاستبداد السياسي الذي تأسس على الحكم العسكري ومن ثم احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية وفرض الحكم العسكري وتوسيع الاستيطان وتحويل القانون إلى أداة سيطرة تركت آثارها على السياسات الداخلية الإسرائيلية، وإضعاف القيم الديموقراطية لصالح الأمنين القومي العام، والسياسي الحزبي.

هذه السياسات تجلت راهنًا في التهديدات التي أطلقها نتنياهو عشية أحداث مدينة القدس، وتوعده ومن معه من الفاشيين الشعب الفلسطيني عمومًا وأهالي مدينة القدس خصوصًا، وتكليف قوات من الجيش لتنتشر في نواحي مدينة القدس طمعًا في تطمين العامة من اليهود، ورفعًا للعصا الغليظة أمام الفلسطينيين، وهذا في جوهره هو جزء من السياسات الشعبوية التي لا يزال يراهن عليها، كقوله “الشعب قرر” في معرض حديثه عن التغييرات المزمع إدخالها في الصيرورة القضائية الإسرائيلية.

الشعبوية السياسية الإسرائيلية، تتضح معالمها باستمرار، إذ يقود نتنياهو هذه السياسة منذ عام 2009 ويعتبر نفسه أحد المنظِّرين لهذه السياسة، وخلاصتها إسرائيليًا، تعاظم العداء والانتقاد للنظام السياسي، متجليًا في تغيير دفة القضاء وسبل سن القوانين في الكنيست، والحيلولة دون تدخل المحكمة العليا في تصاريف القوانين إذا ما ناقضت “مجلة الاستقلال” أو أحد قوانين الأساس أو فيه احتمالية عالية تناهض قوانين مقاربة، وانتقاد وسائل الإعلام متجليًا في الحرب على الإعلام عبر اتهامه بالعداء لنتنياهو وغيره من أقطاب اليمين المتورطين في شبهات فساد.

استغل نتنياهو الذي لم يقدم برنامجًا سياسيًا تفصيليًا السنة الأخيرة التي كان فيها خارج سدة الحكم، للتحريض على المكونات السياسية الإسرائيلية من اليمين والمركز واليسار، وبرزت شعبويته السياسية في كثيرٍ من المواقف السياسية المُناكفة لحكومة بينيت-لبيد والتي وصفها دائمًا بأنها حكومة اليسار المدعومة من الإخوان المسلمين في إشارة إلى القائمة العربية الموحدة- الذراع السياسي للحركة الإسلامية الجنوبية- التي أقرَّت بيهودية الدولة والمنددة بكل عملية فلسطينية والتي أدار معها لقاءات مطوّلة.

لم يترك نتنياهو فرصة سياسية واجتماعية خلال فترات حكمه وخاصة خلال العام المنصرم، إلا واستغلها للتحريض على مخالفيه السياسيين. وفي العام الماضي كان تحريضه لتحقيق عودته إلى الحكم، وهو من شبَّك بين الصهيونية الدينية والقومية اليهودية وراهن على التيار الحاريدي لدعمه، بعدئذ أدرك صعوبة فوزه في حالة تحالف قوى المركز واليسار. لذلك، سارع إلى وضع الأسافين لتحقيق عودته للحكومة بين مختلف المكونات السياسية، وحرَّض وجماعته، القطاعات العامة “الدهماء” من اليهود، على يهود أمثالهم أقل منهم يمينية، وكان مردود ذلك تبيانًا واضحًا لأنماط التصويت في البلدان اليهودية، حيث تقدَّم اليمين في مدن التطوير ذات الغالبية اليهودية الشرقية (72% نسبة المصوتين)، فمثلًا في الكيبوتسات وهي ذات طابع علماني صوتَّ 87% لصالح المركز واليسار. في المقابل، صوت في اليشوف ومناطق التطوير 72% لليمين، وفي مدينة تل أبيب صوت 71% لليسار والمركز، فيما صوَّت 77% لصالح اليمين، وصوَّتت المدن ذات الوضعية الاقتصادية العالية في وسط البلاد لصالح اليسار والمركز بنسبة 65% مقابل 54% صوت لصالح اليمين في المدن ذات الوضعية الاقتصادية المتوسطة في وسط البلاد. المستوطنات صوتت بـ 82% لصالح اليمين ومدن التيار الحاريدي بـ 99.% لصالح اليمين.

 

الوتر المعيشي كأداة سيطرة..

هذه المعطيات، تبين حالتي التشظي السياسي الإسرائيلي من جهة، والقواعد السياسية لليمين من جهة أخرى، حيث يرتبط التصويت المناطقي لليمين بعدة عوامل، منها العامل الاثني والهوياتي والديني والاقتصادي والاجتماعي- المجتمعي، ويتضح أنَّه كلَّما كانت هذه القطاعات أقرب إلى سلم الفقر وأقرب إلى التدين وهوياته شرقية، فإنَّ تصويتها لليمين يكون أقوى، ويدفع هذه النمطية- كما يبدو- عدة محفزات، منها، العامل الإعلامي والضخ المستمر الساعي لتعميق حالتي التحيز السياسي والمعرفي لدى هذه المجموعات، لتبقى خزان التصويت لليمين الذي يتصدره إلى هذه اللحظة النخب الاشكنازية، سليل إسرائيل الأولى “المبامية-الاشكنازية المتعالية”، والمحفز الديني الذي يتجه بالتصويت على أساس من الشريعة “الهلخاه” وموقف “الآخر” منها، التزامًا واحترامًا، والعامل الاقتصادي-المعيشي. ومنذ مطلع هذه الألفية، تجلَّت بيانات جديدة ساعدت في تعميق التشظي والهوة الاجتماعية التي استثمرتها أحزاب اليمين، منها الفوارق الكبيرة في الأجور بين طبقات المجتمع، وازدياد معدلات الفقر والمنتسبين إليه، مقابل الأثرياء وازدياد ثرائهم (انظر: الجهاز السياسي في إسرائيل، يتسحاق جال نور ودانا بلاندر، مجلد2، ص1025). علمًا أنَّ الأثرياء الجدد هم سليل سياسات اليمين وجلهم من الشرقيين المنتمين إلى الليكود وحركة شاس، لكنَّ السياسات الإعلامية التي يستعملها اليمين تلعب دورًا كبيرًا في تشويه الحقيقة لصالح استهبال الدهماء ممن يصوتون لليمين على اختلاف مشاربه، وحتى الصهيونية الدينية المؤدلجة حتى النخاع، تستغل هذه الحيثية لصالح تعزيز وجودها الإحلالي والاستيطاني، سواء داخل المجتمعات اليهودية في البلاد أو في الضفة الغربية.

لقد نجحت أحزاب اليمين وتحديدًا الليكود والأحزاب الدينية، في التركيز على الوتر المعيشي-الاقتصادي كدالة على المظلومية التاريخية الواقعة على هذه الفئات، ومن ثم دورهم- أي الليكود وأحزاب اليمين- في العمل الدائم على تحسين الظروف المعيشية لهؤلاء “المسحوقين” و”المهمشين” لتحقيق العدالة الاجتماعية، ليتحول هذا الوتر إلى أحد أهم أدوات السيطرة على المجتمعات اليهودية المتشظية أصلًا.

يتضح من الدراسات التي أجريت مؤخرًا، على أنماط التصويت في انتخابات الكنيست الأخيرة، أنَّ المعسكرين اليميني والمركز واليسار وأصوات العرب، كانت تقريبًا متساوية مع فائض ضئيل لليمين، بما قيمته 30 ألف صوت، ومع ذلك فقد حصل معسكر اليمين على 64 مقعدًا وهو ما يبين حجم التشظي السياسي والمجتمعي داخل المجتمع الإسرائيلي، ويبين كذلك عمق سياسات الهويات وتأثيراتها على المجتمعات المكونة للمجتمع الإسرائيلي. عند فحص تعداد الأصوات التي حاز عليها اليمين بقيادة نتنياهو، سنجد أنه حصل على 2,360,793 صوتًا شكلت 49.55% من مجموع الأصوات الصالحة، فيما حصل معسكر لبيد ومعه القوائم العربية (الموحدة والتجمع) على 2,330,449 صوتًا شكلت 48.91% من مجموع الأصوات الصالحة. البروفيسور عوفير كينج، يعلل ذلك بسبب طريقة الانتخابات ونسبة الحسم.

إذا كان المجتمع الإسرائيلي في عشرياته الأولى، عشريات التأسيس، تأثر من سياسات الصهر وسعت قياداته الاشكنازية المختلفة أيديولوجيا لربطه بمنظومة قيم مشتركة وتطلعات موحدة تدور حول الدولة، فإننا شهدنا بعد ذلك بروز سياسات الهويات المؤسسة على الاختلاف الثقافي والبيئي والنفسي والإيماني، المتعلق بمنسوب التعلق بالدين من حيث كونه دينًا تمارَس وفقه الطقوس الدينية أو من حيث كونه قومية يهودية، وهو ما برز في السلوكيات السياسية في هذه الانتخابات وتجلى بوضوح في تصرفات قطاعات مجتمعية واسعة اتجاه أحداث الأسبوع الأخير، وردود الأفعال، سواء على مستوى وزراء أو عامة الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى