أخبار رئيسيةمقالاتومضات

ما أكثر الرسائل فتفاءلوا وأبشروا

الشيخ كمال خطيب

 

كرامة الأمة بين القبلات والبيانات

يحكى أن زوجًا بخيلًا تم تعيينه في مدينة بعيدة عن القرية التي يسكن فيها. سافر الرجل وترك خلفه زوجة وأطفالًا دون معيل، وهم الذين كانوا يعانون ويقاسون شظف العيش بسبب بخله وتقتيره عليهم وهو بينهم، فكبر همّهم خوفًا مما ينتظرهم وقد سافر بعيدًا عنهم.

ومن المدينة التي سافر إليها الرجل وبدل من أن يرسل إليهم جزءًا من أول معاش شهري يتلقاه وإذا به يكتب لزوجته رسالة يقول فيها: زوجتي الحبيبة نظرًا لظروف عملي ومتطلبات التزمت بها فإنني لا أستطيع إرسال راتبي ولا جزء منه، وسأرسل لك خيرًا من المال، إنها مائة قبلة مني لك يا حبيبتي. زوجك المخلص.

إن مثل قبلات ذلك البخيل يطيّرها عن بعد لزوجته، مثل بيانات أصحاب الجلالة والفخامة والسمو العرب والمسلمين، يطيّرونها عبر شاشات التلفاز والمواقع الإلكترونية تضامنًا مع القدس والأقصى بعد كل اقتحام وتدنيس وانتهاك لحرمته يقوم به الإسرائيليون.

وإذا كانت تلك الزوجة وأطفالها لا يحتاجون إلى قبلات، وإنما هم أحوج ما يكونون إلى لقيمات يسدّون بها جوعهم، فإن المسجد الأقصى المبارك لا يحتاج إلى بيانات جافة ولا إلى مؤتمرات فارغة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكنه أحوج ما يكون إلى مواقف صلبة وخطوات عملية وجريئة توقف هؤلاء المدنّسين عند حدهم وتكون رادعة لهم، بل وتطهّر الأقصى من رجسهم إلى الأبد.

إنها القدس وإنه المسجد الأقصى المبارك، ومن يوم أن وقعت في الأسر وتحت الاحتلال بفعل مواقف وسياسات بل وخيانات تلك الأنظمة. هي القدس التي تجاهلوها بل انخرسوا من أن يتحدثوا عنها في مفاوضات العار واتفاقيات التفريط اتفاقية أوسلو، يوم كان شعار القيادة الفلسطينية ممثلة بياسر عرفات ومحمود عباس وبمباركة تلك الأنظمة، أن غزة أريحا أولًا بادعاء أن الحديث عن القدس سيكون ضمن ما يسمى يومها مفاوضات الحل النهائي التي ستبدأ بعد أوسلو عام 1993 بخمس سنوات، وها قد مرت ثلاثون سنة ولم يتحدثوا عن القدس ببنت شفة بينما القدس قد أصبحت غير القدس بفعل مشاريع التهويد والاستيطان التي تعرضت لها وما تزال، بينما أنظمة العار لا تتقن إلا لغة الشجب والتنديد والبيانات الجافة والمؤتمرات الهزيلة، وصدق في ذلك قول الشاعر يومها:

فضُّوا بِكَارَتَها، داسُوا كرامتها       وهامَ في مقلتيها البؤسُ والعَدمُ

جَزُّوا ضفائرها، هدُّوا منابرهَا       وفي آذانِنَا عنها بها صَمَمُ

نادت “وَامُعتَصماه” أدركْ عقيلَتَكُمْ   قال الأشاوِسُ: نامي ماتَ معتصمُ

لكنْ هناك البديل الفَذَّ في يدنا        حتى يسود الحقّ والعدْلُ والسَّلَم 

مباحثاتٌ، وتصريحٌ، ومؤتمرٌ       كذا عناقٌ يليه الوعْد والقسَمُ

فلنا بغزة ملك غير منتقص          أيضًا أريحا رست لنا فيها قدم 

أما الخليل فتأتينا مقسّطة             ففي نتنياهو ما زلنا لنا عَشم

 وإنْ تمادَى العِدَى فالحلُّ مؤتَمر    لنشْجُبَ ما عاثُوا وما أَثِمُوا

 

فليس أنها بيانات جوفاء سمعناها وقرأناها والتي صدرت بعد تدنيس بن غفير للمسجد الأقصى من بن زايد وبن سلمان وأشباههما، بل إن وفدًا إسرائيليًا قد زار الإمارات بعدها بأسبوع لتكون الرسالة واضحة، أن تلك لم تكن إلا بيانات للرأي العام ولاسترضاء الشعوب، بينما العلاقات مستمرة وتتقوّى لا بل إن الإعلام الإسرائيلي الذي كان قد احتفى بزيارة بن غفير لسفارة الإمارات في تل أبيب قد عاد للاحتفاء بإعلان الإمارات عن تضمين مناهج التعليم المدرسية هناك لمادة إلزامية تتحدث عن محارق اليهود في ألمانيا، بينما وفي نفس الأيام فإن الحرب مستعرة ضد أهلنا في القدس الشريف بسبب فرض مناهج تعليم إسرائيلية عليهم لتعزز الرواية الإسرائيلية على حساب الرواية الفلسطينية والعربية والإسلامية، مما يشير ويؤكد أنه ما زال لهم عشم في نتنياهو بأنه رجل سلام كما قال الشاعر: ففي نتنياهو ما زلنا لنا عشم.

فمن نصدق يا ترى؟ البيانات الباهتة والتصريحات الجوفاء ضد الأقصى أم الاحتفاء والزيارات المتبادلة مع من يدنّسون المسجد الأقصى المبارك؟

وإذا كانت زوجة الرجل البخيل تحتاج إلى لقيمات وليس إلى قبلات جافة، فإن القدس والأقصى تحتاج ويحتاج ليس إلى بيانات ومؤتمرات وإنما إلى أفعال ومواقف شهامة ومروءة ورجولة ما تزال تبكي أهلها:

مررت على المروءة وهي تبكي    فقلت علام تنتحب الفتاة

قالت: كيف لا أبكي وأهلي          جميعًا دون خلق الله ماتوا

يا عديمي المروءة ليس أنكم بخلاء وإنما أنتم جبناء.

 

تعلموا الكرامة من عنترة 

من منا لم يقرأ قصة عنترة بن شداد العبسي، ذلك الفارس والشاعر العربي الذي ولد لأم حبشية سوداء. ووفق أعراف وعادات العرب قبل الإسلام يومها، فإنه بقي عبدًا ولم تشفع له شجاعته وفروسيته وشاعريته التي بلغت الآفاق، حتى كان اليوم الذي فيه غزت قبيلة طي قبيلته بني عبس، وكادت الغزوة تحسم لصالح بني طي فتسبى النساء وتساق الإبل والمواشي بعد قتل وأسر الرجال، عندها توجه شداد والد عنترة لابنه يناشده أن يخرج للقتال قائلًا له: “كرّ يا عنترة” فوجدها عنترة فرصة ذهبية لنيل حريته والانعتاق من قيد العبودية الذي قيدته به أعراف العرب يومها، لا لشيء إلا لأنه أسود اللون، فقال: “لا يحسن العبد الكرّ إلا الحلاب والصّر” أي إلا حلب المواشي ورعايتها، عندها قال له أبوه: كرّ وأنت حرّ” فكرّ عنترة وقاتل حتى غير موازين المعركة ونال حريته، وفي هذا قال الشاعر:

تلك الكرامة وهي أغلى منيّة     بذلت لها الأرواح والأجساد 

ما كان عنترة ليرفع سيفه         لو لم يعده بعتقه شدّاد 

إنها الكرامة أغلى وأثمن ما يتمناه الرجل، ولأجلها ودفاعًا عنها تبذل المهج والأرواح، ولأجل الكرامة اشترط عنترة أن يرفع سيفه وليس أقل من ذلك. ولأن الكرامة غالية وثمينة فإياك أخي أن تعرضها للبيع في مزادات الدنيا التافهة، وما أجمل قول من قال: “لا ترضى لكرامتك ثمنًا وحاذر أن تعرضها في سوق البيع، فإنها الجذوة التي تملأ صدرك بأسباب الحياة والنصر، وإنها عطية الله لك ومنحته التي شرّفك بها، فلا تساوم على ما في صدرك بأسباب من السرّ العظيم”.

ومن أجمل ما قيل عن الكرامة قول فيلسوف الإسلام محمد إقبال رحمه الله: “إذا سقي القمح بماء الهوان فارغب عن سنابله، ولا تجعل منه خبز يومك وعش على خبز الشعير يكفيك مؤنة، ولئن أثر في جنبك حصير الفاقة، فذلك خير لك من أن تتكئ على أرائك الجبناء، ولا تخلق أديم وجهك، واحفظ ماء محيّاك من أن يُبتذل فلقد كرّمه الله وصوّره فأحسن تصويره وخلقه في أحسن تقويم. وتذكّر وقتًا قلت فيه.: {وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين}. فلا تبذل ماء وجهك أمام الأغيار، فلقد كفاك الله من عنده.

ما أكثرهم أولئك الذين ينتظرون منك تلك اللحظة التي يرونك فيها ملقى على أعتابهم تستجدي منهم خبز يومك وتضع همتك عند أقدامهم وتخفض رأسك في حضرتهم وتصير كالذي قيل فيه:

كالطير غايته التقاط الحبّ في ظل القصور

 هو طائر لكنه لم يدر تحليق النسور

ولطالما ذكرنا بمقولة سفيان الثوري رحمه الله يوم أراد أحد الخلفاء أن يضعه تحت جناحه، فأرسل إليه مع أحد مساعديه صُرة فيها ذهب كثير، وراح الرجل يحرك بالصُرة على مسمع بن سفيان لعلّ لعابه يسيل على صوتها ولمعانها، فكان جواب سفيان له: قل للذي أرسلك: ليست كل الطيور تُعلف فتُصطاد. إنه رفض أن يساوم على كرامته ورسالته، وظلّ محلقًا مثل النسور، بينما رضي غيره من العلماء التقاط الحب وما أكثر هؤلاء يومها واليوم.

وأمَّا الشهيد سيد قطب فقد قال عن الكرامة: “بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذلّ والمهانة، هربًا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفزع من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة. إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيرًا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون”.

وأمَّا المرحوم الدكتور مصطفى محمود فقد قال عن الكرامة: “نحن لا نجد في عبادة الله ذُلًا، بل تحررًا وكرامة، تحررًا من كل عبوديات الدنيا، وتحررًا من الشهوات والغرائز والأطماع، ونحن نخاف الله فلا نعود نخاف أحدًا بعده، ولا نعود نعبأ بأحد. خوف الله شجاعة، وعبادته حرية، والذلّ له كرامة، ومعرفته يقين وتلك هي العبادة”.

فمن عنترة نتعلم معنى الكرامة، ومن محمد إقبال نرتشف معانيها، ومن سيد قطب نأخذ منها نصيبًا، ومن مصطفى محمود نشرب حتى نرتوي، فكيف أو من أين لنفوس جبلت بماء الكرامة أن تذلّ أو تهون.

 

إنهن رسائل فتفاءلوا وأبشروا

قال الشاعر الحر أنس الدغيم في ديوانه الرائع إبراهيم:

مطر على أبواب عيدك هاطل      وأكادُ أسمعه يقول تفاءلوا

قطرات هذا الماء فوق زجاجنا     ما كنّ ماء إنهن رسائل

هذا اللهيب سينقضي وتجيء من   بعد اللهيب مواسم وجداول 

ها نحن في موسم الأمطار وفصل الشتاء الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، ولكأن الشاعر يقول وهو يكتب عن المطر المنهمر أنه ليس مجرد مطر، وإنما هي رسائل من السماء تقول لنا تفاءلوا، وأنه حتمًا بعد لهيب الصيف وقسوة حرارته يأتي الشتاء بأمطاره ومواسم الخير فيه، حيث تجري الجداول والأنهار وتخضّر الأرض وتأخذ زينتها.

لا يمكن لعاقل أن يمر مرّ الكرام على حدث غير طبيعي تجري فصوله في بلاد الحرمين الشريفين والذي يتمثل بنزول وهطول الأمطار هناك عمومًا وفي بلاد الحجاز حيث مكة المكرمة والمدينة المنورة خصوصًا. وما رآه الإخوة المعتمرون وحدثونا به، وما تناقلته وسائل الإعلام عن اكتساء الجبال الجرداء حلة خضراء وعن جري جداول الماء وفيضان أنهار كوادي العتيق في المدينة المنورة، لا بل عن غزارة الأمطار التي أدت إلى سيول جرفت الأبنية والسيارات.

وسرعان ما راح الناس يتساءلون هل نحن بين يدي تغيرات مناخية جذرية فيها تتحول صحراء العرب إلى مرج وأنهار وأرض زراعية كما كانت من قبل، كما تحدث بذلك رسول الله ﷺ لما قال في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: “لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، وحتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدًا يتقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا”. إنه الحديث الشريف يتحدث عن معجزة علمية وعن شيء كان في السابق وسيعود إلى ما كان عليه، وهذا ما كشفت عنه وكالة الفضاء ناسا في تقرير لها في العام 2012، تحدثت فيه عن صور جوية وعن فحوصات أرضية تؤكد أن الجزيرة العربية كان فيها شبكة من الأنهار والبحيرات، ولعلّ وجود النفط بشكل كبير يعود إلى تلك البحيرات وما كانت تحتويه من الكائنات الحية والأشجار والنباتات التي طمرت تحت الأرض.

إن ما يجري هناك يشير بشكل واضح إلى تغيرات يشهدها العالم، كما نرى ما يحدث من جفاف في أوروبا، لكن بداية هذا التغير المناخي في الجزيرة العربية ليشير إلى مقدمات تحقق نبوءة الرسول ﷺ.

ليس أن أرض بلاد الحرمين ستشهد تغيرات مناخية تجرف معها مظاهر الجفاف والقهر، وإنما هي تغيرات ستجرف معها الفاسدين من الذين دنّسوا طهر تلك البلاد بما فيها من بيت الله الحرام ومثوى رسول الله ﷺ، حيث أن هناك ليس انقلابًا مناخيًا يحدث، وإنما هو انقلاب أخلاقي اجتماعي ديني سياسي وفي كل نواحي الحياة يقوده محمد بن سلمان آل سعود وبطانته، وبه يعاكس ما جاء به رسول الله ﷺ، وبيقين لا ريب فيه فإن الله سبحانه سيحفظ طهر تلك الأرض ويصونها من دنس المندسين والمفسدين.

فما نزول المطر عمومًا إلا رسائل خير كما قال شاعرنا أنس الدغيم، وأن نزوله في بلاد الحرمين خاصة لهو رسائل واضحة شاخصة تشير إلى أن عصر اللهيب والظلم والقهر والفساد سينتهي ويزول ويأتي من بعده عصر الجداول والأنهار عصر عودة الخلافة الإسلامية الراشدة، مما يحفزنا ويزيدنا أملًا وتفاؤلًا:

مطر على أبواب عيدك هاطل    وأكادُ أسمعه يقول تفاءلوا 

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى