أخبار رئيسيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

كن كشجرة الصندل تعطر الفأس التي تقطعها

الشيخ كمال خطيب

إنها وصية الإمام الشيرازي في واحدة من وصاياه ونصائحه التربوية يرشد فيها ويوجه المسلم إلى عظيم الأخلاق ومحاسنها. إنه المسلم الذي يجب أن يكون وأن يظل شامة بين الناس كما أوصى حبيبه ﷺ: “أصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كالشامة بين الناس”.

كلمات تكتب بمداد الذهب، فليس أنّ بيت المسلم يجب أن يكون نظيفًا فقط وإنما لباسه كذلك حتى يكون مميزًا بين الناس، فالله تعالى جميل يحب الجمال. ويزداد المسلم تميزًا وتألقًا بجماله وحسن أخلاقه حتى لكأن هذه الأخلاق تنبعث من المسلم كأنه الطيب والعطر.

وليست أخلاق المسلم ومكارمها هي لمن يحسن إليه فقط، وإنما يصل مداها إلى من يسيء إليه، وهنا يكون الامتحان الحقيقي للمسلم. نعم ليس سهلًا أن يتمثل المسلم حديث رسول الله ﷺ: “صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك”، حيث يفعل ويقابل الآخرين بعكس ما عاملوه به. فليس أنه يصل من قطعه أي قاطعه ولم يتواصل معه، بل وهجره، وإنما يكون مثل شجرة الصندل التي تمتد إليها فأس من يقطع أغصانها وإذا بالفأس تعود معطرة مطيبة من طيب عروق شجرة الصندل، يا له من سلوك ويا له من خلق.

وما أجمل ما قاله الإمام الشافعي في وصف هذا الموقف وهذا السلوك لما قال:

يخاطبني السفيه بكل قبح      فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة فأزيد حلمًا        كعود زاده الإحراق طيبا

وليس المسلم مطالبًا فقط بأن يكون مثل شجرة الصندل تعطر الفأس التي تقطعها، بل إنه مطالب أن يكون مثل شجرة النخيل تلك التي يرميها الناس بالحجارة فترميهم بالرطب والثمر الطيب. وكما النخلة عالية سامقة فإن المسلم مطالب أن يسمو بأخلاقه عن الأحقاد والدنايا وسيء الأخلاق، لا بل وكما النخلة يُنتفع من كل شيء فيها، ثمرها وجريدها وساقها وجذورها وحتى النواة فإنه يُنتفع بها وقد قال ﷺ: “إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله بن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال:هي النخلة قال: فذكرت ذلك لعمر فقال: لأن تكون قلت هي النخلة أحب إليّ من كذا وكذا”.

وليس أن المسلم يكون مثل النخلة، بل إنه مطالب أن يكون مثل النحلة، وقد قيل: “مثل المؤمن مثل النحلة لا تأكل إلا طيبًا ولا تضع إلا طيبًا، وإن وقعت على عود لم تكسره”. إنها النحلة التي لا غذاء لها إلا رحيق الأزهار ومنه يكون العسل طيبًا وشفاءً. وإن نزول النحلة على عود أو زهرة لامتصاص رحيقها هو مضرب الأمثال في الرقة واللطف وعدم الخدش وإيقاع الأذى.

ولقد كانت وصية الإمام الشهيد حسن البنا متناسقة مع ما قيل لما قال رحمه الله: “كونوا مع الناس كالشجر يرمونه الناس بالحجر فيرميهم بأطيب الثمر”. إنه أجمل الشجر وأنفعه، النخيل والصندل وهو من أعظم ما ضرب به المثل.

 

التغافل من فعل الكرام

إنها حالة الاحتكاك اليومية بين صاحب العمل وبين العمال، بين مدير الشركة وبين الموظفين حيث يتطلب الأمر لضمان نجاح مشروع العمل أيًا كان ولنجاح الشركة أيًا كانت الضبط التام والتنفيذ الكامل للتعليمات، وإلا فإن عكس ذلك سينتج عنه كثرة الأخطاء والتقصير والتفلّت الذي سينعكس سلبًا على المشروع والشركة.

ولكن مشروع الحياة الزوجية ومشروع الأسرة يُتطلب لضمان نجاحه واستمراريته أن يكون الزوج وهو رب الأسرة مدير مشروعها، ليس كالضابط العسكري الذي يصدر الأوامر والفرمانات التي لا خيار معها إلا التنفيذ، وإلا فإنها العقوبة أو أكثر منها. إن المطلوب من مدير الأسرة وهو الأب والزوج أن يتحلّى بخلق التغافل الذي يجعله لا يقف عند كل صغيرة وكبيرة في البيت، ولا يُعد على زوجته أنفاسها، ولا يلزمها بخارطة طريق يجب أن تتحرك وتقوم بمهمتها وفق خارطته.

إنَّ عدم إتقان فن التغافل يعني أن الحياة الزوجية وأن البيت سيصبح ويتحول إلى حرب مستعرة لأتفه الأسباب وإلى جحيم لا يطاق وإلى حلبة مصارعة لن يكون الفوز فيها بتسجيل النقاط، بل قد يكون بالضربة القاضية وهي الطلاق.

وما أجمل ما قاله ذلك الزوج الحكيم: “إنني أتغافل وأداري وإذا غضبت زوجتي أغادر داري”. أي أنه لا يقف لزوجته عند كل زلة يحولها إلى حرب شعواء، ولا يصنع من الحبة قبة، ولا من نسيان الملح على الطعام كارثة وذنبًا لا يغتفر، بل يصل به الأمر كما يقول إذا غضبت الزوجة فلا أقابلها بغضب ليصبح البيت ساحة نزال وميدان مبارزة فيمن يرفع صوته أكثر، وإنما يغادر الدار حتى إذا هدأ الغضب منها رجع ليكون السبيل إلى الحوار والتفاهم أقرب وأقصر.

يظنُّ البعض أن خلق التغافل يتعارض مع القوامة ومع مفهوم الرجولة {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} آية 33 سورة النساء، وهو في الحقيقة ليس كذلك، وإنما التغافل من حسن الخلق كما قيل: “تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل”. وليس التغافل معناه الغباء وعدم معرفة ما يدور في البيت وحتى خارج البيت وكل ما يتعلق بالأبناء والزوجة في كل زمان ومكان. وإذا كان الغبي لن يصل في يوم من الأيام لأن يكون مديرًا ناجحًا ولا حتى ربّ أسرة ناجح، لكن المدير الناجح وربّ الأسرة الناجح هو من يملك القدرة على التغابي في بعض الظروف كما قال الشاعر:

ليس الغبي بسيّد في قومه       لكن سيّد قومه المتغابي

ورحم الله الحسن البصري لما قال: “ما زال التغافل من فعل الكرام”.

 

الزوج الفندقي

لقد وصف الله سبحانه وتعالى طبيعة العلاقة بين الزوج والزوجة بأنها التي تغمرها المودة والرحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} آية 21 سورة الروم.

إن من يراقب الحالة الاجتماعية وما آلت إليه من ارتفاع نسب الطلاق بشكل مقلق، بل مرعب حتى أنها تصل في بعض المجتمعات إلى أكثر من 40% كما في الإمارات وفي السعودية، ووصلت عندنا في الداخل الفلسطيني إلى قريب من 30% أي أنه من بين كل 100 عقد زواج فإن ثلاثين منها تؤول إلى الطلاق، وللتقريب أكثر فإن من بين كل ثلاثة عقود زواج فإن واحدًا منها مصيره الطلاق.

فليس أنَّ بعض البيوت تتحول إلى مقابر وفي الوصف الألطف تتحول إلى فنادق، ويظهر ذلك مبكرًا من يوم أن تحول شهر العسل إلى شهر البصل حيث ظهرت بذور الخلاف لأتفه الأسباب.

إن فتور العلاقة ودفء التواصل بين الزوجين قد غاب وتلاشى إلى حد غياب أن يُسمع الزوج زوجته كلامًا لطيفًا بدعوى “ولّى زمان الشباب وانقضى” وأن الزوجة لا تفعل ذلك مع زوجها بدعوى أنها مشغولة بالأبناء وبإعداد الطعام وترتيب البيت ليكون الزوج هو من يدفع الثمن بما في ذلك من انعكاسات سلبية وخطيرة على كليهما.

يصل الأمر إلى حد أن يصبح البيت بالنسبة للرجل كأنه الفندق يأوي إليه في المساء ويتناول طعامه ثم ينشغل ببرامج التلفزيون أو الهاتف الجوال بين يديه، ثم يخلد للنوم ثم يستيقظ صباحًا ويذهب إلى عمله، وهكذا الحال كل يوم.

فإن برود المشاعر وفتورها قد يصل إلى حد موتها كما يقول الدكتور حسان شمسي باشا: فما أقبح برود المشاعر، وما أصعب أن يشعر أحدهما أنه لا يكلم إلا نفسه، ولربما شعرت الزوجة إذا ما ابتليت بزوج فاتر الإحساس أنها أمام تمثال أخرس، كما قال الشاعر على لسان امرأة تتألم من برود مشاعر زوجها اتجاهها:

قل لي ولو كذبًا كلامًا ناعمًا    قد كاد يقتلني بك التمثال

وما أكثر التماثيل التي تقتل بصمتها وبرودها.

يروى أن مصنعًا للألبان في نيوزيلندا وله فرعان، أحدهما في شمال البلاد والآخر في جنوبها، وكان إنتاج الأبقار متفاوتًا بينهما بشكل كبير رغم تطابق جميع ظروف الفرعين ونوعية الأبقار، وهذا ما جعل المالك يتساءل عن سبب هذا الاختلاف.

وبعد إجراء الأبحاث والدراسات توصلوا إلى نتيجة مدهشة وهي أن معاملة طاقم المصنع الأول للأبقار كانت مختلفة، كانوا يقدّرون أبقارهم ويعبّرون عن ذلك كل صباح. فقبل بدء حلب الأبقار كانوا يطلّون عليها بابتسامة مخاطبين كل بقرة شخصيًا بالقول “صباح الخير يا حلوة GOOD MORNING SWEETY” وكان هذا هو سبب زيادة الإنتاج.

فإذا كان اللطف في الكلام يزيد إنتاج البهائم والأبقار التي لا تعقل فكيف ببني البشر؟ ألم تسمع قوله تعالى يوصي عباده: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ….} آية 53 سورة الإسراء، فتأمل كيف قال: “التي هي أحسن”، فهناك شيء حسن ولكن عليك أن تتخير “التي هي أحسن”.

فمن هو أحق الناس بحسن معاملتنا؟ ومن ذا الذي يستحق التي هي أحسن؟ أليسوا هم أقرب الناس إلينا؟

وما أجمل ما قاله عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فقال: إني لأتزيّن لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عليّ، لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. فكونوا كالصندل، كونوا كالنخلة، كونوا كالنحلة ولا تكونوا كالزوج الفندقي، ولن يضيركم التغابي. كونوا كعبد الله ابن عباس، بل كونوا مثل ابن عمه خير الناس وخير الأزواج محمد ﷺ الذي يقول: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.

فاللهم كما حسّنت خلقنا فحسن أخلاقنا يا رب العالمين. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا.

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

 

رحم الله قارئًا دعا لي ولنفسه ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى