أخبار عاجلةمقالات

منارات في الفكر الإسلامي (2)

 

الدكتور محمود مصالحة

لقد تجلَّى الفكر الإسلامي بقاماته العظيمة من علماء الأمة ومفكريها الذين أبدعوا في الردِّ بالأدلة العقلية على شبهات وأباطيل الجماعات المنحرفة عقديًا، وبيان حقيقة القضايا الكونية والخَلْقية الكبرى من خلال الفكر ثمرة العقلية الإسلامية، حيث إن العقل يُعتبر أحد أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد بيَّن الباحث مكانة العقل في الإسلام من خلال الخطاب القرآني في المقال السابق.

يقول حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في بيان شَرَفُ العقل: “العقلُ منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، والنور من الشمس، والرؤية من العين فكيف لا يُشرّف؟”. وسمي العلم المستفاد روحًا ووحيًا وحياة، فقال تعالى: “وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا” الشورى: 52، وقال تعالى: “أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا” الأنعام: 122. وقال صلى الله عليه وسلم: “لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجّار في النار: وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىٓ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ”، رواه لحاكم وأقره الذهبي.

ويردُّ حجة الإسلام أبي حامد الغزالي على أباطيل فلاسفة زمانه بعباراتهم في المنطق، يقول: “رأيت أن طائفة يعتقدون في أنفسهم التمرد على الأتراب والنظراء بمزيد من الفطنة والذكاء، وقد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات واستحقروا شعائر الدين… بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بظنون. ويتبعون رهطًا يصدون عن سبيل الله” (تهافت الفلاسفة: ص5)، فناظرهم الغزالي وأبطل قولهم بِقِدَمِ العالَم وأبديته وأزليته والزمن والحركة، وردَّ قولهم باستخدام عباراتهم في المنطق”، وهذه الردود هي عمليه عقلانية فكرية، تدلل على أمرين هامين، أولاً: ترسيخ الإيمان في القلوب، ثانيا: سعة آفاق العلماء والمفكرين الفقهية والعلمية والفكرية التي ظهرت بالردود العقلية وفن الكلام على ضلالات تلك الفرق المنحرفة، بل وأسَّس العلماء والمفكرين المسلمين منهجًا عقليًا لدى أهل السنة والجماعة، فكان سببًا لاستنهاض الأمة بالأدلة العقلية على هذه العقائد والأفكار الضّالة.

وهذا العلاَّمة الفقيه المتبحر المُفكر المسلم ابن خلدون الذي ملأ الدنيا بعلمه، بالأدلة العقلية يضع البراهين المُؤكِدة على صدق أمهات العقائد الإسلامية، فيقول: “اعلم أن الشارع لما أمرنا بالإيمان بهذا الخالق، الذي ردَّ الأفعال كلها إليه، وأفرده بها وعرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت… وكلفنا أولا: الاعتقاد بتنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين، وإلا لما صح أنه خالق لهم، لعدم الفارق على التقدير؛ بينه وبين المخلوقين؛ ثم تنزيهه عن صفات النقص، وإلا لشابه المخلوقين؛ ثم توحيده بالاتحاد، وإلا لم يتم الخلق للمتمانع؛ ثم اعتقاد أنه عالِم قادر، فبذلك تتم الأفعال… ومُقدِرٌ لكل كائن، وإلا فالإرادة حادثة. وإنه يُعيدُنا لما بعد الموت تكميلًا لعنايته بعد الإيجاد”، مقدمة ابن خلدون (ص: 43).

إنه ابن خلدون العالم الموسوعي واضع الكثير من النظريات والرؤى الأصيلة المعبرة عن قدراته الذهنية الخارقة وحسه الإبداعي القوي، في زمن الانحطاط، وقد تميز ابن خلدون بثلاثة أنواع من الملكات، ملكة علمية تحصل في العلوم، وملكة صناعية تحصل في الصناعات، وملكة لسانية يتمكن اللسان من خلالها من اختيار الألفاظ المناسبة للتعبير عن المعاني، ولكل قسم أو نوع قوانين خاصة به وهي التي تؤدي إلى حصولها من عدمه.

أمَّا المَلَكة العلمية كما يراها ابن خلدون فتتكون من خلال عدة عوامل، أولها: “جودة التعليم، والمراد بجودة التعليم أسلوبه وكيفيته وليس مدته وكميتة، ونعتقد أن جودة التعليم في نظر ابن خلدون مرتبطة بالالتزام ببعض القوانين … بتجنب بعض العوائق التي سنراها أيضا. العامل الثاني: من عوامل تكوين المَلَكة العلمية فهو “مراعاة القدرات الذاتية للفرد: وعدم تحميله ما لا يطيق، أما العامل الثالث: المَلَكة العلمية للمعلم: أن تكون مشروطة على كفاءة المعلم واستعداد المتعلم معاً، وليس على طرف واحد، فالملكة هي نتاج تكامل في التكوين عن طريق الاستعداد الذاتي والتلقين السليم”. كما يعد مستوى الحضارة عامل آخر من عوامل تكون الملكة العلمية أو فسادها، وهو الأمر الذي يبدو جليًا من خلال التفاوت بمستوى العلوم والصنائعيين في المشرق والمغرب”. انظر (المنظومة، مجلة المجتمع العربي، حبري شفيق، مصطلحات ابن خلدون، مج26/ج3) بتصرف.

ثم أيعقل أن يأتي بعض المفكرين القوميين في ظلمة الليالي بطمس الميراث العلمي والفكري والتراث الحضاري للأمة الإسلامية، والقدرات العلمية العظيمة لقامات المفكرين الإسلاميين كأبي حامد الغزالي الذي لُقِّبَ بحجة الإسلام لامتلاكه الرسوخ العقدي، والسِعة العلمية، والعمق الفكري، والقدرة في الفن الكلامي، فامتلك القدرة على المحاجَّة العقلية في إبطال المزاعم وضلالات فلاسفة عصره، فردَّ عليهم من خلال أفكارهم.

وابن خلدون الذي شيَّدَت غزارة علومه وسعة اطلاعه وعمق إدراكه منارة علمية وفكرية للحضارة الإسلامية، وكذلك ابن مِسكاويه الذي يُعدُّ من نوابغ المفكرين المسلمين، والكندي أول فلاسفة المسلمين الذي قال” لا تعارض بين الفلسفة والدين وكلاهما يوجهان العقل لكشف حقيقة الأشياء”، والفارابي الذي هو من أبرز فلاسفة المسلمين، إنهم ثلة من القامات العلمية وعمالقة الفكر الإسلامي الذين شرفوا البناء الحضاري الإنساني ببصماتهم البارزة.

لا أيها المفكرون القوميون العلمانيون العرب، إن ما تعمدتم قوله باطل، وتجنّي مرفوض علميًا، وفاقد للموضوعية بمقالتكم على قامات العلماء والمفكرين المسلمين “بمحدودية الفكر الإسلامي”، وأذكروا أيها القوميون العلمانيون أنكم مهما بلغتم من العلم لن تصلوا عشر معشار حجة الإسلام أبي حامد الغزالي ولا ابن خلدون، ولا ابن مسكاويه، وكيف يكون المفكر العربي القومي مفكرًا منصفًا وهو فاقد للأمانة العلمية، بنزعته القومية المستوردة من المستعمر الغربي، بل ورضيتم بتنصيب ضباطَا عسكريين حكامًا مستبدين فانتزعوا أنظمة الحكم انتزاعًا بالانقلابات في البلاد العربية.

وخلاصة القول: لعل الذين في قلوبهم زيغٌ، والذين على أبصارهم غشاوة، قد تنجلي فيبصروا الحقيقة، وليستيقن المؤمنون ويزداوا إيمانًا، ويعلموا بأن الفكر الإسلامي هو الأعلى والأنقى والأشمل والأفضل والأسدُّ للبشرية.

أما المقال القادم بإذن الله، فيتمحور حول المصطلح الفكري (ما بعد الحداثة) المشروع الغربي الخطير، وسيُبيِّن الباحث أبعاد هذا المشروع الذي يعصف بمستقبل البشرية مقابل عظمة الفكر الإسلامي الإنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى