أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

في إعادة إنتاج الخوف.. هبَّة الكرامة والحسابات المفتوحة..

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي 

اعتمدت إسرائيل منذ لحظات التأسيس الأول لها، سياسات التعاطي العدمي مع الأقلية العربية الفلسطينية المسلمة التي بقيت بعد النكبة. وشكّلت أدوات القهر والتخويف الوسيلة الأمثل لتحقيق السيطرة والرقابة في أوساط من تبقى من الفلسطينيين، متأملة أنه عبر هذه السياسات تبني الإنسان الذي لا يملك سوى الحفاظ على وجوده وفق الحد الأدنى من الإمكانيات التي تمنحها السلطات الإسرائيلية التي نهبت كل ما له علاقة بالفلسطينيين، تحت مظلات عديد القوانين التي سنَّتها مبكرًا، خصيصًا لهذا الأمر باعتبار أن امتلاك الفلسطيني الأملاك والأوقاف والمعطى المدني في مدنٍ مثل حيفا ويافا، سيدفع نحو رفض الوجود المستحدث المحمي دوليًا وعربيًا من أنظمة رجعية متواطئة، لذلك اعتمدت المؤسسة مبكرًا سياسات الإرهاب والتخويف ورفعت معدلات الحذر عند الإنسان الفلسطيني فضلًا عن الدور الذي لعبته القوائم العربية المُلحقة صهيونيًا والحزب الشيوعي في تطبيع العلاقة المختلة مع الحالة الجديدة “إسرائيل”.

لم تتوقف للحظة سياسات التخويف وإرهاب الدولة اتجاه الأقلية العربية الفلسطينية صاحبة البلاد، وكلما دعت الحاجة لتنفيذ سياسات القتل كرسائل جمعية، لم تتوان عن فعل ذلك ضمن سياسات الجدول الزمني الذي راهنت عليه إسرائيل لتغيير العقلية الفلسطينية من جهة، وتبني الحداثة الإسرائيلية التي نَظَّر لها مبكرًا عديد الأكاديميين العرب ممن درسوا ومن ثم دَرَّسوا في الجامعات الإسرائيلية، ونابذوا مبكرًا البنية الاجتماعية العائلية والحمائلية كما نابذوا القيم والأخلاق التي تأسست على الموروث الإسلامي بسياقاته الشرعية والعُرفية والحضرية.

يذهب العديد من المفكرين وعلماء السياسة من الإسرائيليين إلى أنَّ الوجود الفلسطيني في إسرائيل يعتبر التحدي الأكبر والأخطر على وجود الدولة العبرية. يشير عالم السياسة الإسرائيلي موشيه هيلنجر في كتابه (دولة إسرائيل إلى أين)، إلى “التحدي الأكثر الأهمية الذي يواجه دولة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية يكمن في العرب الفلسطينيين الإسرائيليين ويتمثل هذا التحدي في جوانب متعددة ستوصل إلى الاغتراب والانفصال، وتتجلى معالم هذا الانفصال في الشعور بعدم التماهي مع المجتمع الإسرائيلي وضعف العلاقة معه وتبني مواقف سلبية من الأسس التي قامت عليها إسرائيل، اليهودية والديموقراطية، وقناعات ضئيلة بأن المؤسسات السياسية الإسرائيلية تمثلهم ،وتراجع مستمر بمستوى الثقة بهذه المؤسسات، وتحد مستمر لهذه المؤسسات، وصعود التعليم البديل المؤسس على الوطنية الفلسطينية “. بناءً على ما سبق ما زالت سياسات الخوف معمولًا بها إسرائيليًا وإن اتخذت في العشريات الثلاث الأخيرة بُعدًا سائلًا برسم جدل العلاقة الذي تطور بين نخب مجتمعنا الفلسطيني وطبقته الوسطى والمصالح التي تراكمت بناءً على هذه العلاقة، إلا أنّ الدولة بمؤسساتها الأمنية والقضائية تعود إلى سياسات الخوف الصلب باعتبارها القاعدة التأسيسية لجدل العلاقة التي نظر لها “هوبس باللفيتان”، إذ القوة ووسائل العنف والقهر تحتكرها الدولة التي من أدواتها السجون والمعتقلات والتحقيقات والتعذيب والقتل القسري واستغلال كافة التقنيات المُعِينة على تحقيق القوة- وكلها أدوات صلبة لصناعة الخوف- من جهة ومراكمة الخوف عند الجماهير بالمقابل، لتتحول الدولة في هذه الحيثية إلى المُقدس. وهذا ما تسعى إليه المؤسسة الإسرائيلية راهنًا في جدل علاقاتها مع شبابنا في الداخل الفلسطيني، فالقوة المباشرة المقوننة من جهة والعنف المجتمعي المرعى مؤسساتيًا من جهة أخرى، يؤسس للخوف من جهة ويدفع العامة إلى حضن السلطة الصانعة للخوفين السائل والصلب، لتعيد برمجته في إطار علاقات السادة والعبيد التي تعرضت لها في مقالات سابقة عبر صحيفة المدينة وموقعها.

عادة ما يتمُّ زيادة جرعات الخوف تحت مشجب الأمن القومي تارة وتأمين الحياة للمواطنين تارة أخرى، بحجة تعرضهم إلى الإرهاب وتعريض حيواتهم الآمنة إلى الخلل والخوف، وهو ما يتطلب القوة والقهر لمن يمارس الإرهاب والتخويف والفوضى، وهذه الأخيرة دارت عليها طواحين القضاء الإسرائيلي لتحقيق الخوف وتعميقه في نفوس العامة والشباب خاصة وذويهم بعدئذ خرجوا رافضين في رمضان الفائت من عام 1442هـ (2021) لتصرفات نتنياهو وحكومته اتجاه المسجد الأقصى المبارك.

 

الاعتقالات والأحكام القاسية، وسؤال المسؤولية..

 

تعمل المؤسسة الإسرائيلية ليل نهار على إعادة إنتاج الخوف من الدولة ومؤسساتها الأمنية والشرطية والعسكرية، وتستعمل من أجل تحقيق هذه الغاية مختلف الوسائل بما في ذلك التقاعس المتعمد عن كشف الجرائم وإشاعة الفوضى في مجتمعاتنا المحلية من جهة ومحاسبة الشباب على احتجاجاتهم ونشاطاتهم السياسية من جهة أخرى، فالمؤسسة الإسرائيلية تتعاطى معنا في الداخل الفلسطيني بعقلية المستعمر الساعي لاستدامة العبودية المادية والثقافية والأخلاقية وكل من يعمل على الخروج عن هذه الدائرة سيتعرض لعقوبات سلطوية تتعمد الإذلال وامتهان الكرامة.                   لا تزال المؤسسة الاسرائيلية تتعامل مع ملفات هبَّة الكرامة عام 2021 من خلال رؤية انتقامية تريد أن ترد الصاع صاعين ،وكسر الثقة بالنفس التي تحققت شبابيًا ومجتمعيًا، واعتبرتها الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين، بأنها رفض للسلطة والسيادة الإسرائيلية من جهة وكسر لحاجز الخوف الذي عملت عليه المؤسسة على مدار عقود. لذلك عمدت على تمديد مدد التحقيقات والاعتقالات مع المعتقلين من أبنائنا في الداخل الفلسطيني، وخصَّت المدن الساحلية بجرعات إضافية وذات كثافة من الانتقام، تجلى مؤخرًا في الأحكام القاسية التي صدرت على شباب مدينة حيفا وعكا، وتراوحت سنوات الحبس لمجرد انتفاضتهم وحمايتهم لأنفسهم ولعوائلهم من سوائب المستوطنين ممن تم جلبهم إلى مدننا الساحلية، اللد ويافا وحيفا وعكا إبان اندلاع الأحداث بين ثمان إلى ثلاث سنوات موشحة بياناتها العقابية بأن هذه الأعمال إرهابية. في المقابل سامحت نفس المحاكم المستوطنين الذين قتلوا وعاثوا فسادًا وأنزلت بهم عقوبات تخفيفية، بل وسرَّحت بعضهم مبكرًا وحمت الآخرين وأغلقت ملفات من ارتكبوا جرائم القتل.

عادة ما تتوحش الآلة الإسرائيلية على اختلاف أنواعها سياسيًا وامنيًا في تعاملها معنا كفلسطينيين، سواء كنا في المناطق المحتلة عام 1967 أو في الداخل الفلسطيني، مع تمييز في التعاطي. ففي حين تقتل الآلة العسكرية أبناءنا في الضفة الغربية، تقوم بنفس المهمة عصابات الإجرام المحمية (شاباكيًا) ليتم تأدية نفس الدور بأشكال مختلفة، سعيًا لتحقيق نفس النتيجة: الخوف الدائم من السلطة الحاكمة.

المؤسسة الإسرائيلية تراهن على أنّ هذه الأحكام وسياسات التوقيف والاعتقالات والتحقيقات في أقبية المخابرات، ستؤسس لعقليات مرتدعة تتحسب من كل أمر حتى من الكتابة أو مجرد التعبير عن الرأي، على اعتبار أنّ كل ما سيصدر عن هؤلاء الشباب الذين هم في مقتبل العمر سيحسب عليهم وقد يؤثر عليهم راهنًا ومستقبلًا تَعَلُمًا ووظيفةً، وبالمناسبة هي نفس السياسة التي استعملتها المؤسسة مع الكوادر الشبابية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهي فترة حرية بالدراسة في هذه الحيثية والاستفادة منها لتخليق بيانات المدافعة.

المؤسسة الإسرائيلية لا تغلق الحسابات مع الداخل الفلسطيني ولن تغلقها، وبيان ذلك المحاكمات والملاحقات التي لم تتوقف إلى هذه اللحظات بحق فلذات أكبادنا منذ عام 2021، لأن الإغلاق عمليًا يعني انتهاء العلاقة بين الطرفين إلى أمر متفق عليه، وهو ما لم يحدث ولن يحدث، ومعلوم أنَّ هذه المسألة لا يمكن إغلاقها ما دامت هناك أرض مصادرة وشعب مشرد وتحديات تخلقها المؤسسة لاستدامة العبودية والتبعية.

سؤال الرهان الإسرائيلي وتداعياته مرتبط عمليًا بمدى الكفاءة المجتمعية ومسألتي الاحتضان للذين يتعرضون للعقوبات الجائرة من جهة ولعوائلهم وحمل همومها واحتضانها، وهو مطلب أخلاقي من الدرجة الأولى وعملي من جهة أخرى ويحتاج إلى أدوات لتحقيقه.

تتحمل الأحزاب والهيئات السياسية ولجنة المتابعة المسؤولية الأخلاقية في حمل أعباء هذه العائلات ممن دفع أبناؤهم ثمنًا لمواقفهم المعبرة عن الجماعة الفلسطينية في الداخل، وهذه المسؤولية لا يمكن تجاهلها بحجة عدم المقدرة، فمن أراد القيادة وإدارة الأزمات عليه حمل التبعات والتبعات ابتداء أخلاقية قبل أن تكون إعلامية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى