أخبار رئيسيةمقالاتومضات

المسجد الأقصى قضية منتصرة

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

بادئ الأمر، لا بد أن أوضح أنّ قضية المسجد الأقصى قضية منتصرة لأسباب كثيرة ذات صلة بالمسجد ومكانته ودوره القدري. سبق الأحداث الجارية في المسجد الأقصى، حركة مكوكية دبلوماسية شارك فيها قمة الهرم السياسي الإسرائيلي بما في ذلك رئيس الدولة وطالت دولًا عربية عديدة منها: الأردن، ومصر والامارات، والبحرين، والمغرب، وبشكل غير مباشر السعودية وتركيا على مستوى الرئاستين.

التصريحات التي رشحت من وراء هذه الزيارات كلها تقريبا، اتّفقت على موضوع القدس والمسجد الأقصى ومساعي إسرائيل عدم تكرار ما حدث في هبة الكرامة، سيف القدس في رمضان الفائت، وذلك سعيًا من الاحتلال إلى تهيئة الأوضاع للاحتفالات الدينية اليهودية التي ترافق شهر رمضان المبارك.

في عهد باراك، شرع الاحتلال بإدخال اليهود إلى المسجد في شهر رمضان المبارك، بعد أن كان اتفاقا بين الأوقاف والمؤسسة الاحتلالية أن لا يدخلون إلى المسجد، ولكن مع دخول القوى اليمينة الدينية إلى مفاصل الحكم وتغلغلها إلى الأجهزة الأمنية وتوصياتهم الدائمة باقتحام المسجد في كل أيام العام، وطرح قضية التقسيم الزماني للمسجد لضمان اقتحامات اليهود برفقة وحماية قوات أمنية مدججة بالسلاح.

ولا تزال مشاهد القتل العمد للمصلين في المسجد الأقصى حاضرة وبقوة، فمجزرة الأقصى عام 1990 والتي راح ضحيتها 21 من المصلين وجرح أكثر من 200 مصل واعتقال أكثر من 250 مصل، لا يمكن أن تمحوها السنوات، بل هي من مكوّنات التحدي الراسخ المؤسس على الحق، حق المسلم المطلق الذي لا يتزعزع في المسجد، وكذلك مجزرة النفق عام 1996 (انطلقت المواجهات مع افتتاح النفق الذي افتتحه بنيامين نتنياهو تحت المسجد الأقصى الذي هدد أساسات المسجد الأقصى ومعالمه التاريخية، وامتدت المواجهات على كامل التراب الفلسطيني من شمال فلسطين إلى جنوبها، وقتل الاحتلال الإسرائيلي- خلال تلك الهبّة التي استمرت لأيام 63 فلسطينيا، منهم 32 بالضفة الغربية والقدس، و31 في قطاع غزة، فيما أصيب 1600 آخرون بجروح متفاوتة).

وأما مجزرة عام 2000 حيث استشهد بعد صلاة الجمعة 23 مصل وجرح 850 مصليا وكانت سببًا مباشرًا للانتفاضة الثانية. في العشريات الأخيرة شكّلت الاعتداءات التي يتعرض لها المسجد سببًا مباشرا للمواجهات مع الاحتلال، مع كل ما يملكه من أدوات القهر والجبروت، وهذه الحقيقة يدركها الاحتلال جيدًا ويراهن في تمرير سياساته اتجاه المسجد على هذه القوة ومراكماتها من جهة، وعلى التحولات الجارية في منطقتنا العربية على المستويات الرسمية وغير الرسمية، خاصة مع تلكم المجموعات المتلبرلة من دول الخليج وعموم دول التطبيع، وهو رهانُ كشفت الاحداث الأخيرة في المسجد الأقصى (مواجهات يوم الجمعة) بعضا من نتائجه عبر ما كتبه الاعلام الخليجي ومنه السعودي في تعليقاتهم على الأحداث مستهزئًا ومستهترا.

المفارقة في هذه الحيثية، أنّ هذا الانسلاخ بشكل معاكس، يفيد في جوهره قضية الأقصى، وهو مهم لعملية التحرير، باعتبار أنّ الشوائب قد تعرقل مسيرة التحرير التي تحتاج إلى إخلاص وخلاص، إذ الإيمان بفكرة التحرير يحتاج إلى اخلاص وهذا الإخلاص يحتاج الى خلاص، خلاص من الشوائب والجراثيم والعلائق التي قد تعرقل هذه المسيرة التي تحتاج إلى أدوات خاصة.

الاقتحام الثاني للمسجد الأقصى الاحد المنصرم

المؤسسة الإسرائيلية تصيغ سياساتها ذات الصلة بالقدس والمسجد الأقصى، بناء على رؤى دينية وتعمل على دمج هذه الرؤية بمنظومات ومعطيات سياسية وأمنية، تبعًا للمعطى الذي تعمل على تحقيقه وتعمل على تجيير السياسة لتحقيق الأهداف الدينية، ولكنها تعمل ذلك بصمت وإصرار يقابله تخل وتفلت عربي وإسلامي من دمج علاقة الدين بالسياسة في قضية كقضية المسجد الأقصى.   منذ عام 1990 اتخذت المؤسسة الإسرائيلية قرارها المُتعلق بالمسجد الأقصى والبلدة القديمة، وخلاصاته تحقيق السيطرة الإسرائيلية المُطلقة عليهما وتحديدًا المسجد الأقصى باعتباره درة التاج اليهودية، وعودته إلى حضن اليهودية تجل خَلاقْ لمعنى العيترا واليشونا التلموديتين ‘להחזיר עטרה ליושנה’، الذي يعني إعادة المكانة المعتبرة دينًا ومقاما لهذا المكان الذي تمّ تركه أو إهماله، وقد دمجت المؤسسة الاحتلالية العديد من المخططات والسياسات للوصول إلى لحظة السيطرة المطلقة ولمَّا تصل إليها بعد.

الاحتلال متنبه جدًا الى ارتفاع منسوب التدين في مجتمعنا الفلسطيني، وإلى تحول المسجد الأقصى لأيقونة فلسطينية باتت تشكل مدماكًا أساس لا شِيةَ فيه في بناء الهوية الفلسطينية الخاصة من جهة، وصرحا مدنيا حضاريا وثقافيا متجذرًا في النفسية الفلسطينية من جهة أخرى، متجاوزًا بهذه المكانة والقيمة الخلافات السياسية والأيديولوجية، باستثناء أولئك المتعلمنين الذي يأخذون موقفًا متشددًا من الدين والتدين ولا يهمهم موضوع القدس ولا المسجد الأقصى، وفي هذا السياق تشير أوراق السياسة الفلسطينية في العشريات الأخيرة خاصة ما رافق اتفاقية أوسلو وتلاها، مدى الابتلاء الذي وقع به الشعب الفلسطيني بأمثال هذه المجموعات التي ما تزال تتصدر المناصب العليا في المشروع السياسي الفلسطيني، وقد سجّل العديد من المفاوضين الإسرائيليين مواقف اتجاه بعض المفاوضين الفلسطينيين الذي لم يأخذوا الحديث الإسرائيلي عن القدس والمسجد الأقصى على محمل الجد، بل وسجّل بعضهم تصريحات لقيادات فلسطينية لا تلقي بالا للقدس والمسجد الأقصى باعتبارهما رموزا دينية تتناقض وطروحاته العلمانية الجامدة، وفي تلكم السنوات كانت مراكز البحث الإسرائيلي تطرح التصورات والرؤى حول مكانة المسجد الأقصى وكيفية تقسيمه والتوافق عليه، وهو ما تمَّ تنفيذه بحذافيره خاصة في مسائل التقسيم الزماني للمسجد الأقصى.

الاعتداءات الممنهجة على المسجد الأقصى

متابعة لجدل العلاقة بين الاحتلال والمسجد الأقصى، سنجد أنّه منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، شرع الاحتلال بعمليات استفزاز ممنهجة شرعت تتصاعد إلى هذه اللحظات، وذلك لتحقيق هدفين أساسيين، الأول يتعلق بالسيادة السياسية، والثاني يتعلق بالسيادة الدينية، متمثلا بالصلوات اليهودية في باحاته الشريفة، ويلاحظ كل من يتابع دخول المجموعات المتطرفة إلى المسجد أنّ فريقًا منهم يدخله حافيًا والبعض منهم يمارسون الصلوات الصامتة، وموضوع الصلاة محسوم في المحاكم الإسرائيلية منذ عقود، ومسألة السماح به علنًا مسألة وقت تتعلق بالأحوال والظروف المواتية التي يتمّ فيها ضمان احتلالي أن لا يُمَس المحتلون والمقتحمون ولا يتعرضون للمواجهة من قبل المصلين، بمعنى أنّ عملية تطبيع ستشرع بها المؤسسة الاحتلالية مع المصلين على غرار ما حدث في المسجد الابراهيمي، ولكن كما أنّ نتائج اقتحامات المسجد الابراهيمي انعكست سلبًا عليهم، كذلك سيحدث نفس السيناريو في البلدة القديمة والمسجد الاقصى.

راهن الاحتلال على ثلاثة اعتبارات يمكن أن تؤدي إلى تفكيك المجتمع المقدسي، ومن ثمّ إهمال المسجد والاستفراد به. لقد راهنوا على تفكيك المجتمع المقدسي وإغراقه بالمخدرات والسموم والخنا، وراهنوا على اختراقه أمنيًا ومجتمعيًا، وراهنوا على مسائل الدمج والانخراط في المجتمع الإسرائيلي المُستِعمِرْ، وكادوا أن يفركوا أيديهم فرحًا بالنتائج التي تحصلوا عليها، إلا أنّ الصحوة الإسلامية التي فاض خيرها على فلسطين التاريخية فاجأتهم كما فاجأت العديد من المتواطئين من العرب والفلسطينيين، وتحوّل المسجد الأقصى بفضل هذا الفيض العميم إلى قبلة ورباط وهوية ومكانة نفسية، واستحال في العشرية الأخيرة إلى قضية قائمة بذاتها تنفصل تقريبًا عن القضية الفلسطينية التي حصرها ربان سفينة أوسلو بالفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1967 مستثنيا أهالي القدس والداخل الفلسطيني.

الاعتداءات على المسجد عمليًا، يمكننا تقسيمها إلى ثلاثة أنواع من الاعتداء: الأول يتمثل بوجودهم الاحتلالي في المسجد فمجرد وجود جندي أو شرطي إسرائيلي في المسجد الأقصى، يذكرنا أنّ المسجد محتل ويمثل حالة من التحدي التي تستوجب حلًا، إذ وجود محتلين في مسجد كالأقصى يحمل دلالات سياسية وسيادية ورسائل إلى جهات عربية وإسلامية، تماما كما يحمل رسائل تطمين للآلاف من اليهود الذين يقتحمون المسجد منذ تسعينات القرن السالف وإلى اليوم، وتشعرهم بالحماية وإن كان يؤكد هذا العمل أنّ المسجد خاضع للاحتلال، والثاني يتمثّل بالاعتداءات على أعمال ونشاطات الأوقاف ومن يعملون على الترميم داخله، فالاحتلال يرفض إدخال أي شيء للمسجد إلا أن يكون تحت عينه وبصره، وكلنا يتذكر تلكم الأيام الخوالي من معسكرات العمل الإسلامي في المصليات والمصاطب، وكيف قامت حكومات الاحتلال ولم تقعد باعتبار أنّ هذا العمل تجاوزا للسيادة الاحتلالية وكل عمل يتم داخل المسجد ثمة خط تلفوني حار بين تل ابيب وعمان، وهذا بحد ذاته يحمل معان أكبر مما يمكن أن تتحمله هذه السطور. وأخيرًا الاعتداءات الجسدية على المصلين والاعتداءات المادية على المسجد ومرافقه المختلفة، وكل العالم شاهد بالبث المُباشر ماذا فعل جلاوزة الاحتلال في المسجد، وكيف عاثوا فيه فسادا، وماذا فعلوا مع المصلين من النساء والرجال والشباب.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى