أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

العربية تشكو غربتها

ليلى غليون
ما أعذب وقع لغتنا الجميلة على المسامع والقلوب، وما أروع انسيابها على أوتار الوجدان، فكل من عرفها حق معرفتها وتعمق بمعانيها وغاص في بحار لآلئها، يستخرج منها كنوزا عظيمة لينقشها لوحة فنية تبهر الألباب بريشة تعابيره الرائعة وأشعاره المرهفة، وخواطره الجميلة التي تشرح الصدور وتلامس سويداء القلوب فتنساب فيه انسياب الماء الرقراق في الأنهار، وما أروع ما وصف أحمد شوقي لما قال:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا… جعل الجمال وسره في الضاد
فلغتنا العربية جميلة بمعانيها غنية بمفرداتها وبتعابيرها، قوية بقواعدها، وطبعًا تبقى هي الأجمل من بين لغات الدنيا، كيف لا وهي لغة القرآن، والسنة المطهرة، ولغة أهل الجنة، لذا وجب صيانتها والحفاظ عليها والقيام بواجبها حق القيام وذلك من خلال فهم أصولها والالتزام بقواعدها.
روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي). أمّا ابن تيميّة رحمه الله فقد قال: (أعلم أنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيرًا قويًّا بيّنًا، ويؤثر أيضًا في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من الصحابةِ والتابعين ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ، وأيضاً فإنّ اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب). وتقول الباحثة الألمانية صاحبة كتاب “شمس الله تشرق على الغرب”، سيجريد هونكه: “كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد؟؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى من سحر تلك اللغة”.
أمّا الباحث الألماني الدكتور “كارل بروكلمان” فيقول: “بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا”. ويقول المستشرق الفرنسي “لويس ماسينيون” الذي عشق الشرق: “اللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفردت في طرق التعبير العلمي والفني”. ولكن ومما يدعو للأسف، بل هو الغضب والتعصب للغتنا الجميلة لغة القرآن، أن نجد العديد من أبنائها بصورة عامة ومن المثقفين بصورة خاصة، من هم مقصرون في حق لغة الضاد بل وعاقون للغتهم من حيث الاهتمام بها وإتقان قواعدها لتصبح في أزمة حقيقية تعاني من غربة بين أهلها وفي أوطانها وعقر دارها، لتجد حتى من المحسوبين على اللغة من يؤذي الأسماع بنصب الفاعل مثلا، أو رفع المفعول أو نصب الاسم الذي يسبقه أحد حروف الجر الذي لا يعجز عن جر جبل بأكمله، أو لا يفرق بين التاء المربوطة والتاء المبسوطة، أو لا يفرق بين الفاعل والمفعول، ولا بين خبر كان أو خبر إن أو في أحسن الأحوال تجد من آثر طريق السلامة في كتاباته ليسكّن أواخر الجمل مهما كان موقعها من الإعراب، ليلطم بذلك الأسماع لطمة حادة بأخطائه اللغوية الفادحة، ويلطم على إثرها الخليل وسيبويه. فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل فقط، اللغة هي الهوية هي الوطن هي شريان الأمة هي وعاء الفكر هي الحضارة، وقد اعتبر الدكتور طه حسين أن المثقف العربي الذي لا يتقن لغته غير مكتمل الرجولة لما قال: “إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضا”. وما يشعل في القلب غصة بل حرقة بل غيرة على عربيتنا الوقورة، ذاك الحشو الممجوج بالكلمات الأجنبية والسلوكيات اللغوية الشاذة حين نخاطب بعضنا بعضا، نستعين بمفردات الغير لنتمم المعنى وكأن لغتنا عاجزة عن التوضيح وهي الغنية بكل المفردات والمعاني، حتى أنك تجد فيها من المعاني ما لا يمكن ترجمته للغات الأخرى، بل هناك من يجد متعة وبهجة وهو يتحدث بلغة أجنبية يتباهى بها على حساب لغته معتبرا ذلك تحضرا وتقدما، والمسكين لا يدري أن ذلك من علامات الهزيمة النفسية التي يعيشها، هذا بالإضافة للمد الجارف للغة العامية الدارجة بل هو المسخ اللغوي المتصدر للمشهد العام، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت فيها العامية هي السائدة على الساحة الكلامية والكتابية، لتضعف الفصيحة وتتراجع أمام هذا السيل الطاغي، لتكون معظم كتاباتنا ورسائلنا وتعليقاتنا باللغة المتداولة العامية، ونسينا أننا نملك كنزا لغويا لا يملكه غيرنا، بل الأدهى والأمر أن الكثير ممن يتحدثون باللغات الأخرى ويتباهون بإتقانهم لهذه اللغات، لا يحسنون التعامل مع لغتهم والتخاطب بها، فأي إساءة وأي تراجع هذا؟!
صحيح أن الهيمنة الفكرية طغت بصورة مرعبة، لكن المحافظة على اللغة يجب أن يكون خط الدفاع الأول عنها أمام هذه الهيمنة، وإلا إذا سقط هذا الخط سقطنا جميعا. قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: “ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبار”. يقول البيروني: “لأن أُهجى بالعربية أحب إلي من أن أُمدح بالفارسية”. فالأنفة والكبرياء والكرامة والهوية ركن ركين تدفع بالأمة الحية للتمسك والتشبث بلغتها والتفاخر بها. فأين غيرتنا الدينية والتاريخية والجغرافية والحضارية والثقافية على لغتنا؟ فلنتصالح مع لغتنا التي عققناها ولنتفقه بأصولها ولنستمسك بمجدافها بقوة وتعصب وحمية، ولنتعلمها ونعلمها أبناءنا ونزرع حبها في قلوبهم ولنفتخر بها ونجعلهم يتفاخرون بها، ولنتكلم ونكتب بها على قواعدها حتى تكون لها السيادة، كما كانت يوم حفظها أهلها وكتبوا بها ونقلوا من خلالها علومهم إلى أمم الأرض قاطبة، فسادت وسادوا، ونهضت ونهضوا، وهل تكون نهضة الأمم وسيادتها إلا بلغاتها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى