أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

جرائم الــحرب لا تزول بالتقادم

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

كل طفل فلسطيني لاجئ يعلم يقينا عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي وجيشه وعصاباته الصهيونية بحق أهله وعشيرته وقريته، فهذه مسألة توارثتها الأجيال، جيلا بعد جيل، لا تُنسى، ويرضعها أبناء المخيمات في فلسطين والشتات كما يرضع أبناؤنا الحليب، وهؤلاء ليسوا بحاجة إلى من يثبت جرائم الاحتلال، فيكفيهم ان أهلهم من الآباء والأجداد قد قصوا عليهم ما حلَّ بهم ومن كانت له علاقة بتلكم الجرائم. ولكن من باب “ليطمئن قلبي” تواترت القصص والسرديات المختلفة التي صبّت في تحقيق تلكم الروايات من الأجداد للأحفاد وكان مركز الدراسات المعاصرة قد عَمِلَ على موسوعة جرح النكبة التي وثّق فيها مئات الجرائم والتقى عبر هذا المشروع وعلى مدار سنوات مع الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في الشتات وفلسطين، يروون جرائم العصابات الصهيونية والجيش الإسرائيلي على اختلاف ألويته وفيالقه.

في كانون ثاني/يناير من عام 2000 نشرت صحيفة “معاريف” تحقيقا صحفيا عمَّا قام به طالب جامعي يُدعى تيدي كاتس في أطروحة للماجستير عن مذبحة الطنطورة والتي كشف فيها عن مقتل أكثر من 200 فلسطيني مدني بعد انتهاء المعركة التي قتل فيها 14 جنديا إسرائيليا مقابل 10-20 من مقاتلي القرية، ولكن بعد أن انتهت المعركة ودخل جنود لواء اسكندروني القرية، قامت كتيبة 33 بقتل ما بين 200-250 من أبناء القرية بدم بارد.

بعد صدور هذا التحقيق الصحفي، قام من تبقى من جنود هذا اللواء والكتيبة بمقاضاة كاتس واتهامه بالتزوير والكذب وتشويه سمعة اللواء والجنود، وبدورها قامت المحكمة بتصديق الجنود وتطهير اسمهم من الجرائم المتعلقة بهم، وفقا لبحث كاتس.

عمليا، قام المؤرخ تيدي كاتس بتقديم الرسالة كمتطلب لإتمام الماجستير عام 1998 وعنوان الرسالة “خروج العرب من قراهم إلى السفوح الجنوبية لجبل الكرمل عام 1948”. في الفصل الرابع من رسالته والتي تشكّل محور البحث عنون كاتس الفصل بـ : “قضية قرية الطنطورة”، وفيه كتب ما يلي: “… مجموع من سقط من الجنود اليهود أربعة عشر جنديا منهم جندي من جنود البحرية التابع للبلماخ سقط بسبب نيران أُطلقت عليه من قواتنا، فيما سقط في المعركة من رجالات القرية بين 10-20 فقط، ولكن ومع نهاية هذا اليوم كان قد قتل 200-250 شخص لا يحملون السلاح ولا يتمتعون بأية حماية، هذه هي الحقائق الصارمة التي تتضح من خلال الشهادات”. (صفحة 88).

في السادس عشر من نيسان/ابريل من عام 2000 تقدم العديد من جنود اللواء إلى المحكمة المركزية في تل ابيب بدعوى قضائية ضد تيدي كاتس بتهمة الكذب وتشويه سمعة اللواء وجنوده وسمعة الجيش الإسرائيلي. وطالت الدعوى جامعة حيفا حيث أجرى رسالته، والأخيرة بدورها ضغطت على الطالب كاتس للتراجع، وكحل للقضية أُجبر الرجل على التراجع عمّا كتبه واعتذر عمّا صدر عنه بشأن المجزرة ومقتل 200-250 مدني من سكان الطنطورة.

 

ألون شفارتس يفضح المستور

في الثامن عشر من هذا الشهر، بثّ المخرج الإسرائيلي ألون شفارتس، فيلمه “طنطورة”، وذلك ضمن مهرجان ساندرس للأفلام الوثائقية الذي بُثّ بالصيغة الرقمية بسبب تفشي وباء كورونا. بيّن الفيلم حجم الجريمة التي ارتكبها اللواء والبربرية في السلوك والممارسة، واعتمد في روايته على شهادات جنود من اللواء أعمارهم قاربت العقد التاسع فضلًا عن الوثائق. ويكشف الفيلم شهادات من الجنود عن الطرق الوحشية التي عُذِب بها السكان وكيف قُتلوا وعن القبور الجماعية التي دُفِنّ بها هؤلاء الأبرياء وتشكل مقابرهم الجماعية مواقع سيارات لمستوطنات “دور ونحشوليم” وقد أقيمتا على أنقاض القرية. ويكشف الفيلم عن أنّه في عام 1949 تمّ نقل الجثامين من هذه القبور الجماعية إلى مكان مجهول.

لبيان بعض من سادية وفاشية هؤلاء الجنود في قتلهم العمد للفلسطينيين، نكتفي بنقل ما قاله الجندي عامي تسور كوهن الذي يتحدث عن الأشهر الأولى للحرب، واصفا نفسه أنّه قاتل: “لم أكن آخذ أسرى .. لو كانت تقف مجموعة جنود عرب وأياديهم إلى أعلى كنت أطلق عليهم الرصاص. لم أعدّ كم عربيا قتلت خارج نطاق المعركة. كانت بحوزتي بندقية رشاشة مع 250 رصاصة، لا أستطيع العدّ”.

بدوره وصف المؤرخ الإسرائيلي في معهد “عكيفوت” الفيلم بأنّه يقلب المفهوم النمطي الإسرائيلي ويفضح الرواية الصهيونية ويعري لواء اسكندروني في أعقاب ما رسخ في الذهنية الإسرائيلية في اعقاب تراجع كاتس عن مواقفه الأكاديمية عام 2000 أمام سطوة العسكر.

دار الزمان دورته وبان جزء يسير من الحقيقة حول هذه الجريمة، وكنت قبل سنوات قليلة أحاول إقناع مسن من سكان القرية أُطلقت عليه النار وظنَّ القتلة أنه ميت، فتركوه مع تلكم الجثث ليتسلل بجراحه ويخرج من بين ركام جثث الشهداء. وهذا المتوفى رحمه الله، سكن مدينتي أم الفحم وتحديدًا الحي الذي أسكن فيه، وعبثا حاولنا معه إجراء مقابلة مصورة مقابل التزامنا أن تُبثّ بعد وفاته، لكنه رفض بإصرار، مكتفيا بنبذة عن القصة تحسبا من أن يلحق الأذى بأبنائه وأحفاده فهاجس الخوف من الراهن المُعاش ومن المستقبل غير المنظور جعله يرفض وبإصرار.

ويكأن الجرائم التي ارتكبها هؤلاء القتلة الذين لا تزال أيديهم ملطخة بدماء الأبرياء، لا تزال تعيش مع أمثال هذا المُسن الذي غادر الحياة مكبلة أحواله وكاسرة ظهره، ولم يقتص له احدُّ من دعاة العدالة وحقوق الأنسان.

إسرائيل دولة قامت على أنقاض شعبنا الفلسطيني، وارتكب جنودها والعصابات الصهيونية المئات من المجازر بعلم من القيادات السياسية وفي مقدمتهم بن غوريون والطغمة الحاكمة من مباي وغيرهم في تلكم المرحلة التاريخية.

ما يجب عمله، هو نبش مجدد لهذا التاريخ ليس لإثبات أنّهم قتلة وأنهم أقاموا دولتهم على جماجم شعبنا، فهذه مسألة محسومة بيننا نحن الفلسطينيون، بل لفحص حقيقة العدالة الأممية التي افتضحت لاحقا في سوريا والعراق واليمن والصومال والبوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان والقائمة طويلة.

جرائم الحرب لا تموت بالتقادم، وفضح القتلة والمجرمين ممن قتلوا الأبرياء والمسالمين ومن يرفعون الأعلام البيضاء، مهمة أخلاقية بالمقام الأول، ومهمة طواقم حقوق الإنسان الفلسطينية اليوم، هي رفع الستار عن هذه المرحلة التاريخية باعتبار أنّ التاريخ نافذة من نوافذ بناء الهويات الجماعية، وباعتبار أنّه ما حك جلدك سوى ظِفرك، ومن قبل قيل إن أول خطوات التحرير ترميم الذاكرة وإعادة إحيائها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى