أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

أنا ومن بعدي الطوفان

ليلى غليون

أنا ليست أكثر من حرفين، وهي تلك التي طردت إبليس من الجنة بعد أن قال: (أنا خير منه…) كما أخبر بذلك رب العزة في القرآن الكريم. نعم، هي (أنا) ليست أكثر من حرفين، تلك التي أوردت فرعون موارد الهلاك يوم أن قال: (أنا ربكم الأعلى).

إنها (أنا ) سواء قرأتها أو كتبت حروفها من اليمين إلى الشمال أو من الشمال إلى اليمين، تبقى أنا ذاك الضمير المنفصل الذي إن لم يتهذّب ويبنى حوله السياج ويعرف حدوده فقد ينمو في الذات ويتضخم حتى ما يعود يسعه فيها حيز، فيتفجر وتتفجر هي معه لتصبح أثرا بعد عين، تماما كما حدث مع رجل اسمه نرجس، وكان نرجس جميل الوجه وكان يحب أن يرى صورته الجميلة المنعكسة على سطح مياه النهر حتى عشق وجهه وعشق نفسه، وكان يجلس طوال اليوم أمام صورته يتغزل فيها حتى انزلقت قدمه وسقط في النهر وغرق، فأُطلق على من يحب نفسه بصورة مرضية بأنه (نرجسي).

ليس عيبا ولا من الخطأ أن يكون للواحد منّا قدر معقول من الإعجاب بالذات أو بالرأي، بل إن تقدير الذات مطلوب لكل فرد يكون بمثابة الحافز الذي يدفعه ويعينه لعبور جسر الطموح والتقدم، ويمكن تسمية ذلك ثقة بالنفس، وهذه الثقة محمودة ومطلوبة يجب أن يتربى عليها الفرد، ولكن زيادة قليلة في هذا الإعجاب أو الثقة أو ارتفاع في منسوب الأنا وابتعادها عن الوضع الطبيعي، قد تعميه وتقوده إلى طريق الغرور والأنانية المفرطة تنعكس على سلوكياته، بحيث لا يشاهد في مرآته إلا نفسه فقط، مجسدا مقولة: (أنا ومن بعدي الطوفان) لدرجة أنه قد يرى نفسه هي الصواب بيمنا غيره كله خطأ لتتجلى الأنا فيه بأبشع صورة، وينفخ الشيطان فيه نفخة تهوي به إلى الدركات السفلى من السقوط.                أن يكون لي شخصية مميزة مستقلة بدون سرف أو شطط فهذا أمر جميل ولا غبار عليه، أو أن تكون لي آرائي الذاتية الناضجة من غير تعد أو بهتان، فهذا ليس محل إنكار، ولكن أن أعتقد أن رأيي فقط هو الرأي وموقفي فقط هو الموقف، هنا تكمن المشكلة، أو أن تثب (الأنا) في داخلي لأعتقد لنفسي وأشرعن لها ما لا أعتقده ولا أشرعنه لغيري، بمعنى أن أهب لنفسي حقا لا أهبه لغيري وأجد لها من الأعذار والمسوغات والحجج والظروف التي أرفضها لغيري، فهذا ليس عدلا ولا هو من الإنصاف بل قمة الأنانية، وأعتقد أن العديد يفكر لنفسه بأسلوب قد يختلف جذريا عمّا يفكره بحق غيره، ويستميت في تلمس الأعذار لنفسه، ولكن تجده أصعب وأبعد ما يكون من الاستعداد لقبول أعذار الآخرين ومراعاة ظروفهم، وسأضرب بعض الأمثلة التي في الغالب تعكس طريقة تفكيرنا تجاه أنفسنا واتجاه الآخرين والتي يغلب عليها طابع الأنانية حتى لو لم نصل لدرجة النرجسية:

فحين يرتكب أحد ما خطأ ما، أكيل إليه التهم وربما أنعته بأسوأ النعوت بأنه غبي أو أحمق ولا يمكنه تحمل المسؤولية، بينما إذا أخطأت أنا يتبادر لذهني مباشرة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل ابن آدم خطاء”، وإن الخطأ جبلة بشرية لا يسلم منه أحد لذا يجب أن يلتمس الجميع لي العذر ويسامحوني على أخطائي، والمسامح كريم.

وإذا تأخر أحدهم عن موعد ما، أطلق الصواريخ الكلامية النارية متهما إياه باللامبالاة وأنه لا يحترم المواعيد، وأن احترام المواعيد من الإيمان، وأن من صفة المنافق أنه إذا وعد أخلف، بينما إذا تأخرت أنا عن الموعد فالمسألة فيها نظر، فقد طرأ معي طارئ أدى لتأخري، أو هي الظروف لم تسمح لي، ويجب مراعاة ظروفي التي أجبرتني على هذا التأخير، وأغلب الناس لا يحترم المواعيد فلماذا أحاسب أنا بالذات؟ وماذا يحصل لو تأخرت قليلا فليس ذلك نهاية الدنيا!

وإذا وُكّل أحدهم بعمل أو مهمة ما، واستغرق منه انجاز هذا العمل أوقاتا طويلة، تكون التهمة الجاهزة على لساني بأنه إمّا عديم التجربة فاحتاج منه الأمر وقتا طويلا، وإما أنه مستهتر ومسوف فأجّل العمل، لذا لم ينجزه بسرعة، أو أنه كسول يتمطى بعمله ويمشي كمشي السلحفاة، لذا أضاع أوقاته الثمينة سدى. وأمّا أنا إذا طُلب مني انجاز نفس العمل وأخذ مني أوقاتا طويلة، فالسبب لأنني إنسان دقيق، منضبط، أعمالي متقنة، لا تعجبني السرعة في الأعمال، مستذكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحق: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، وأن السرعة من الشيطان وأنّ وأنّ. وإذا عمل زميلي في العمل أمرًا لم يُطلب منه، أرمقه بنظرة ملؤها الاستهجان وأصوّب عليه السهام، بأنه متزلف، مداهن، مراء، يريد أن يصفق له الجميع، وبالتأكيد هو لا يفعل ذلك إلا لأن له مصلحة ويرغب من وراء هذا العمل أن يتقرب للمسئولين، طامحا بترقية، أو منصب أو زيادة في أجرة أو في أحسن الحالات أقول بأن هذا ليس من شأنه، وأنه متجاوز لصلاحياته ومتعد لحدوده.

أمّا إذا قمت أنا بعمل لم يطلب مني وليس من ضمن وظيفتي أو صلاحيتي، فلأني إنسان صاحب مبادرة، وأني أعشق عملي ومتعصب له، ولا أنام الليل وأنا أفكر وأبحث وأنقب بماذا يمكن أن أقدم لعملي وبأي طريقة أساهم في تطويره. وإذا رأيت غيري في مأزق وورطة، فلأنه يستحق ذلك، ولأن نيته سيئة فقد نال جزاءه الأوفى، وبالتأكيد أنه قد عمل عملا سيئا ما وأن الله تعالى يمهل ولا يهمل وعسى غيره يعتبر مما حصل معه، وأمّا أنا إذا ما حصل معي مكروه ما، فبالتأكيد هذا ابتلاء والحياة كلها ابتلاءات وأن الله تعالى إذا أحب عبدا ابتلاه، مستذكرا ومستعرضا ما أحفظه من آيات كريمة وأحاديث شريفة وردت حول الابتلاء.

وإذا أراد أحدهم أن يعدد ويتزوج ثانية، فإن زوجته الأولى قد تقيم الدنيا ولا تقعدها متهمة إياه بنكران المعروف والعشرة، ومتهمة زوجته الثانية بأنها (خرابة بيوت) سرقت منها زوجها، فتسعى بكل ما أوتيت من قوة لإفشال هذا الزواج حتى لو كلفها الأمر الاستعانة بالسحرة والمشعوذين، بينما لو كانت هي الزوجة الثانية فالأمر يختلف، فهي لم تفعل ما يغضب الله تعالى، ولم تتجرأ على شرعه ولم تتعد حدود أحد، فالأمر مباح (وهو مباح) وليس من حق زوجته الأولى الاعتراض، بل كيف تجرؤ على الاعتراض على أمر الله تعالى والخوض والجدال في أمر مباح مستشهدة بآية التعدد في سورة النساء التي تحفظها عن ظهر قلب.

والأمثلة تطول والأنا تتورم وتتضخم والمكان لا يتسع، ولكن، أليس فينا مصابون بداء الأنا والتمركز حول الذات يلبسون لبوس الكبر ويتشدقون بنبرات الاستعلاء ولا حديث لهم إلا عن أنفسهم؟!

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى