أخبار عاجلةمقالاتومضات

فلسفة الواقعية في النظام الإسلامي (3)

د. محمود مصالحة- الباحث في الدراسات الإسلامية

لقد بيَّنا في المقال الثاني مفهوم الواقعية، وكيف تم تغيير الواقع المجتمعي الجاهلي القبلي الشركي للواقع الإسلامي القيمي الحضاري الإنساني، حيث هُذِبت النزعة القبلية، بالتربية الإيمانية القيمية والانتماء للهوية الإسلامية، وخَرَّجت المدرسة النبوية جيل الرعيل الأول، الذي به غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم الواقعية الجاهلية للواقعية الإسلامية الإيمانية، فأُقيمت الدولة الإسلامية الأنموذج الأول، وصُنع التاريخ، وبُنيت الحضارة الإسلامية العظيمة التي بقيت شامخة ما يقارب الألف عام، شامة مضيئة على جبين التاريخ الإنساني.

ومن الخطأ الفادح والتعدي الظالم أن يأتي من يفرض خُطى واقعية مغايرة للعقيدة والتربية الإسلامية والفكر الإسلامي، بمعزل عن الواقعية النبوية، وصحابته الكرام، ذلك الأنموذج الحضاري الفريد الحي، الذي جسَّد روح مبادئ الواقعية الإسلامية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، إنها واقعية العزة والعلم والكرامة، الواقعية التي أعلى شأنها الصحابة الكرام خير الناس، أبي بكر الصديق، وعمر ابن الخطاب، وخالد ابن الوليد، وأبي عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة ابن اليمان رضي الله عنهم، وواقعية عقبة ابن نافع، وطارق بن زياد، وصلاح الدين الأيوبي، والسلطان قطز، والسلطان محمد الفاتح، والسلطان سليمان القانوني، والواقعية التي أثمرت صروحًا من العلوم والعلماء، منهم الكندي وابن سينا، والزهراوي والبيروني، وابن الهيثم، والادريسي، والخورزمي، والمرّاكشي، والدمشقي وغيرهم من العظماء الذين سطروا الصفحات المشرقة في العلوم الإسلامية والعلمية، التي أضاءت جبين الحضارة العالمية، إنها لصفحات الدولة والصولة والتاريخ والحضارة الإسلامية، التي اتسمت بالعدالة والرحمة والإنسانية.

ثم يجيء من يجيء على دبابة المستعمر البريطاني والفرنسي والأمريكي، لفرض واقعية جديدة ذات خلفية علمانية إلحادية استعمارية، يفرضها المستعمر فرضًا واقعًا على الأمة الإسلامية في حالة ضعفها، كالواقعية القومية التي غشيَت الأمة العربية والإسلامية، فأفشلت صعودها الحضاري وتقدمها زهاء قرن مضى، ومازال بعض كبرائها القوميون الدنيويون، يتنادون بها عبر تفاهمات فكرية علمانية، ومصالح مادية مشتركة مع المستعمر الغربي. فالواقعية القومية العربية هي غربية الفكر، وجودية، استعمارية الفلسفة والغاية، بنت قواعدَها ورعت نماءَها الأنظمة الأمريكية والفرنسية والبريطانية رأس حربة العالم الغربي في مشروعها صراع الحضارات، وبعد انتصارها على المنظومة الشيوعية والاشتراكية، وتفكيك الاتحاد السوفياتي، ومنظومة حلف وارسوا على يدي شعوبها، اتجهت نحو العالم الإسلامي في حربها الضروس على الإسلام والحركات الإسلامية بتلك القومية، يقول السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل مايكل أورين: “نحن من غرسنا فكرة القومية في الجامعات الأمريكية، في الجامعة الأمريكية في إسطنبول (عام 1864م) والجامعة الأمريكية في بيروت (عام1866م)، والجامعة الأمريكية في القاهرة (عام 1919م)، ونصارى الشرق هم أكثر من نشروا فكرة القومية، ثم اخترقنا بها الجيوش، ومزقنا الدولة العثمانية، وبها سيطرنا على الدول العربية”، والمتتبع لخارطة العالم السياسية، يجد أن معظم الصراعات والحروب هي في العالم العربي والإسلامي، وقلَّ ما توجد في غيره، حروبًا على الإسلام لإقصاء الحركات الإسلامية التي تسعى بالطرق السلمية لإعادة نهضة الأمة ووحدتها وهيبتها وعزِّتها، بل وتحمل واقعية مشروع الخيرية إلى البشرية، ولكن تلك الأنظمة الغربية ذات النزعة الكولونيالية الاستعمارية اللاإنسانية، تعمل على اقصائها وشيطنتها وسجن علمائها على أيدي الأنظمة العربية القومية المنزوعة الإرادة والسيادة، التي تعمل على قهر الشعوب وسلب ثرواتها، وإشعال الحروب الأهلية فيها، وتُذكي نار الحروب الثقافية بنشر ثقافة الإباحية البهيمية، والشذوذ الجنسي برعاية الأمم المتحدة، في حروبهم التغييرية لواقعية الشعوب، والتي تهدف لتغيير انتمائها وهويتها، وكذلك تعمل على تقوية ودعم الأنظمة العربية الظالمة والمستبدة كنظام الأسد والسيسي، وإبقاء الحرب المدمرة مشتعلة في اليمن، وتدخلها العسكري والسياسي في ليبيا لأجراء انتخابات مزيفة، تقوم بها المستشارة الأمريكية “ستيفان وليامز” مع القوى الرجعية لإعادة العميل القومي حفتر أو ابن القذافي المنتهية صلاحيته، ولكن التدخل التركي بطلب من الحكومة الشرعية يحول دون ذلك، ثم تنادي تلك الأنظمة الغربية بشعارات الإنسانية، الشماعة الخدَّاعة للتغطية على الجرائم في حق الشعوب العربية والإسلامية، التي لا تنطلي على أحد.

ولقد حذَّرنا من السقوط في الكثير من تلك الواقعيات ذات النزعة الحزبية، التي يحاول أصحابها فرضها على الأمة بشتى الطرق الوصولية، للتمكن والسيطرة على مفاصل الدول العربية والإسلامية، وخاصة تلك الواقعيات ذات النزعة الإلحادية المدعومة استعماريًا، والفاعلة كالأحزاب الشيوعية والقومية والليبرالية، التي تتزين بمصطلحات خدّاعة، تتودد بها للشعوب، ولكن حقيقة أمرها وصولية، بدعم استعماريٍّ، كحزب الشعوب الديمقراطي الأرمني pkk الذي يتستّر بانتمائه الكردي، هو شيوعي النزعة الفكرية، المدعوم أمريكيًا، الذي يحارب الدولة التركية، ويسعى بدعم أمريكي لتفكيكها، والحزب الشيوعي السوداني المدعوم غربيًا بكل قوة، الذي ألغى دين الدولة “الإسلام”، وإزاحة اللغة العربية “كلغة الدولة الرسمية”، ويسعى لتفكيك ما تبقى من دولة السودان إلى كيانات عرقية، التي تعتبر سلة غذاء العالم العربي، والمنقلب على الشرعية القومي قيس سعيد المُوجَّه فرنسيًا والمدعوم أمريكيًا في تونس. هذه هي حقيقة تلك الأحزاب ذات النزعة العلمانية اللا دينية التي تعمل جنبًا إلى جنب، مع المستعمر الغربي لتمزيق الدول العربية والإسلامية صنيعة سايكس بيكو، وغايتها: تغيير الانتماء والهوية الثقافية للشعوب الإسلامية، لتتمكن من السيطرة عليها ونهب ثرواتها، ففي العراق صرح بريمر الحاكم الأمريكي بعد اسقاط النظام العراقي وقتل صدام حسين قال: “إننا سلمَّنا العراق الذي حكمه أهل السُنَّة الف عام للشيعة، وبمباركة غربية استعمارية، يجري التطهير العرقي الشيعي الإيراني للأهل السُنَّة في العراق، وكذلك يجري التطهير لأهل السُنَّة في سوريا حيث هُجر الملايين وجيء بالشيعة من دول، وتم توطينهم مدن السُنَّة، في عملية تغييرية ديموغرافية في سوريا بالتدخل الإيراني والروسي الفاشي، وهكذا يُفعل في اليمن، وهي حرب بالوكالة على يدي التحالف السعودي الإماراتي المُسمّى بالعربي الذي دمر دولة اليمن، في الحرب الدائرة مع التحالف الإيراني الشيعي الحوثي، وهكذا هم يخططون ويصطنعون واقعيات لكيانات عرقية قومية قبلية جاهلية جديدة، في محاولة منهم لفرضها على الأمة العربية والإسلامية، إنها سيناريوهات ومشاهد القتل والتدمير وشلال الدم المستمر، وآلاتهم الإعلامية المنافقة الضخمة تقلب الحقائق، فتصور الباطل المزيف حقًا والحق باطلًا، لفرض واقعية استعمارية قومية عربية كيانية علمانية جديدة، في مشروعهم الغربي صراع الحضارات، ويسعون لحسمها لصالح القوي الاستعمارية عسكريًا وثقافيًا، وهي حربٌ كوْنية تغييرية على الأمة الإسلامية والعربية، للقضاء عليها وعلى حضارتها الإسلامية. هكذا هي دول محور الشرِّ الغربية، تفتعل الواقعيات، لتعيش على مآسي الشعوب، والإنسانية منها براء.

خلاصة القول: بعد أن ثبت فشل الواقعية القومية العربية، وعلى كاهلها أثقال مسؤولية تخلُّف الأمة العربية الإسلامية، وفقدانها للسيادة لصالح قوى الشرّ العالمية، هي من تتحمل مسؤولية ولاءها حتى النخاع للمستعمر الغربي، وعدائها للشعوب العربية والأمة الإسلامية.

لذلك على شعوب الأمة الإسلامية والعربية أن تكافح لانتزاع حريتها واستقلال وإرادتها من تلك الأنظمة العربية القومية المستبدة، لتبدأ ببناء الأنموذج الإسلامي الحضاري الإنساني، الذي لن تنهض الأمة ولن ترتفع رايتها إلا به، وبمنظومتها القيمية للواقعية الإسلامية، لقوله تعالى:” ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” الأنفال:53. إن الله تعالى لا يغير ما أنعمه من نعم الصلاح على قوم، حتى يغيروا ما بهم من “واقعية هذه النِعَم” إلى واقع الفساد، فإذا فعلوا ذلك، سلبهم الله نعمه غيَّر واقعهم إلى الفساد، وكذلك إن الله تعالى لا يغير ما بهم من واقعية الفساد والتخلف التي هم عليها إلى واقعية الصلاح والعزة والكرامة، إلا إذا غيَّروا ما بهم من واقعية المعاصي والفساد والتعدي على دين الله وشريعته وقيَمه، واستقاموا على الواقع الإسلامي، فيغيِّرِ الله حالهم إلى واقعية الصلاح، ويرفع شأنهم، هذه معادلة “الصلاح والفساد” لتغيير الواقعية القومية المتخلفة والفاسدة، إلى الواقعية الإسلامية، واقعية الصلاح والعزة والكرامة والعلو والظفر والنصر، لقوله تعالى:” وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” سورة آل عمران، “ولا تحزنوا” بما يصيبكم في أموالكم وأبدانكم، في “سنّة التغيير” الإيمانية نحو الواقعية الإسلامية، وقيل: لا تضعفوا بما نالكم من الجراح بقتل الإخوان، وقيل لا تهنوا بما نالكم من الهزيمة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة في(غزوة أُحُد)، “وأنتم “الأعلون” أي الظافرون المنصورون الغالبون، هكذا وبعد طول ذِلَّة، وبطاعة الله عز وجل، واستحضار معيته والأخذ بمنهاجه، لن يترك الله عز وجل المؤمنين على ما هم عليه، فيلتفت بعين الرحمة ويغيِّر الله عز وجل بالمؤمنين حقًا، حال الأمة إلى الواقعية الإسلامية التي ينتظرونها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى