أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الساهرون

أسماء كريم

كان الحنين إلى الليل دأب الصالحين، لأنه شعار الهدوء والسكون، ومضجع الضجيج ومرفأ القلوب، ففي هدأة الليل تنبعث منهم الأشواق وتنقدح الأفكار في الأذهان، وفي سكون الليل يتربع الخشوع على القلوب فتنطلق المناجاة سلسبيلًا عذبًا وتنهمر المحامد والابتهالات تمخر عباب السماء فتطرق أبواب الاستجابة.        أمّا ليل “واقعنا المعاصر” ففيه مآسي ومساوئ يندى لها جبين الطامحين للهدوء، ويعبث بجماله لهاث الطامعين بحيازة الدنيا وزينتها.

حين يصاحب سرير الأطفال المرض، تكون المحاولات للنوم أشبه بغفوة تأتي بعد جهد جهيد، ووقت طويل، وحين يركن الطفل لينام، وتزحف على جفونه أهزوجة النوم بأعجوبة، فجأة، تهتز أركان السرير ويطير النوم (الآتي على فاقة وحاجة) على صوت الساهر العابث في الطريق بصوت مدو وسرعة كالبرق وصراخ سيء وإذا به شاب متهور يلعب على دراجته النارية! أفي مثل هذا الوقت تسهر والناس نيام؟ (وتلعب بجنون)، والأطفال يغطون بنومٍ هنيء أو يجتهدون للنوم؟ ها قد جفل النائمون وأرقهم فعل الساذجين، وبكى الآخرون الذين كان نومهم قاب قوسين أو أدنى، فهدمت محاولاتهم ألعابك وتسليتك التافهة، ألا رحمة بالطفل البريء أن تزعجه وبالمريض المتقلب في سريره يكابد الساعات والآلام أن تزيده مرضًا ورحمة أي رحمة بالعجائز الذين يتعبهم الخلود في السرير سنوات فتأتي أنت بمنتصف الليل تغدو وتروح بدراجتك النارية وتصرخ وصوت الصفير والفرملة يضرب بأناملهم وأعصابهم ويهز فيهم الحسرات والضيق.

 

الساهرون في زماننا أصناف شتى

فمنهم من يساهر القمر والنجوم، يركن إلى أريكته في فضاء رحب، تداعبه الأحلام الوردية، والأغاني الماجنة، يظل ينتظر المستقبل أن يأتي إليه فيحيل حياته قصرا، وعروسًا وشهوة وملذات. ساهرٌ وأحلام اليقظة تنسج مع خيوط الليل أقصى أمانيه أن يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا.      ومنهم من يساهر الطريق ويجالس الرصيف ويجتمع بالرفيق، فاجتماع “الأصدقاء الأوفياء” يكون في منتصف الليل والناس نيام، اجتماع لا يبلور خطة براقة، ولا مشروعا صاعدًا ولا نهضة من غفلة، ولا منفعة للأمة، بل هو حقيقة مرّة: ضياع وقت وجهد وطاقات، وتبديد أموال على شهوة بطن، وطعام وشراب، وسجائر وعصائر وضحك وقهقهة فإذا انفض الاجتماع وقت السحر، فلا تجد إلا بقايا نفايات وقشور بذورات ملقاة هنا وهناك.

هل هذا الجيل الفريد الذي سيصنع فجرًا ويرجع مجدًا؟

ومن الساهرون، صنف لا أدري إن شبهتهم بألعوبة الشيطان هل تخطئ الوصف لأنه أدنى من أن يبلغ الحال حقيقة، عجبًا عجبًا من أغاني وأهازيج تعكر صفو الليل، وحولها أجساد بأرواح ميتة يتراقصون، سُلخ عنهم ثوب الحياء، وماتت فيهم معاني النخوة والغيرة، وانكشفت عوراتهم وانحسرت مروءاتهم! عجبًا من اكف تصفق بدل أن تمد يد الضراعة، وأقدام تتمايل راقصة بمنأى عن التبتل بين يدي الله والمقام لمناجاته ساعة، ويل لمن كانت ساعات الأسحار له لهو ولعب وزينة وهي كنز رزقنا إياه لتزدهر فيه أنوار الطاعة.

السهر في أيامنا (هواية) و(حكاية) تبدأ من غروب الشمس إلى ما قبل الفجر، فلا تنادي ملائكة الشهود إلا على قلة ممن أكرمهم الله بجمال الصحبة وشهود الروحانية الفياضة المتدفقة آنذاك أما الغالبية العظمى فغطيط نومهم يمزق الأكبد، فقد أضناهم مكابدة الليل في السهر العابث.

هل تبدّلت الأيام وتلاشى زمان الصالحين وليل العابدين أم أن في الأمة بقية من خيرهم وخلف لهم اتبعوا الطاعات ونبذوا الشهوات وحافظوا على الصلاة وانكبوا على الآيات. هل في الليل ساهرون بين صفحات العلم، وحقائق الفهم؟ هل نشهد بين الساهرين أصنافًا راقية تناجي وتتبتل وتدمع وتسأل، أم طغى العبث على سواد الليل فزاده ظلمة فيوشك أن لا يطلع صباح إلا ومعه عذاب مستقر!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى