أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

الشاباك والمشاركة في لجم الـــجريمة والمعادلة الصفرية.. شيء من التاريخ (1)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

اهتمت الحركة الصهيونية منذ اللحظة الأولى لدخولها فلسطين، بساكنتها من العرب الفلسطينيين، وكانت شركة “اكتشاف فلسطين” الإمبريالية البريطانية التي جاءت الى فلسطين، منتصف القرن التاسع عشر، قد قدّمت أوراقا وأبحاثا هامة جدا، تتحدث عن فلسطين، موقعا وأرضا وبشرا، وهو ما صبَّ في صالح الحركة الصهيونية، مُبكرا، وشكّل إضافة نوعية هامة لحركة استعمارية مدعومة دوليا. كان لتقاطع وتداخل الدين والسياسة والمصالح الاستعمارية، الدور الكبير في ميلاد الحركة من جهة، ومنحها أدوات العمل والتمكين من جهة أخرى، ولذلك كان من أهم الأدوات المُعينة مبكرا على فهم العقل الاجتماعي والنفسي لساكنة البلاد، ما قدّمته هذه الشركة والرحالة ممن جابوا البلاد في القرن التاسع عشر قبيل الميلاد الرسمي للحركة الصهيونية.

في عام 1920 أسست الحركة الصهيونية ذراعها العسكري المسمى تنظيم “الهاجانا” الذي وُلد منه “البالمخ”، أي سرايا الصاعقة، ومهمته حماية المستوطنات اليهودية من العرب، سواء ممن سكنوا فلسطين أو من خارجها، ومنذ اللحظة الأولى شرع هذا التنظيم بجمع المعلومات العامة والمدنية والاستخباراتية عن التجمعات العربية، وذلك سعيا لتحقيق الهدف الذي من أجله أقيمّ التنظيم، وفي القلب منه تعزيز الوجود اليهودي وحمايته، وقد أجرت الهاغانا عبر وسائطها المختلفة (في أوائل أربعينيات القرن الماضي وبعد سقوط فرنسا بيد الالمان، حث الانجليز الوكالة والهاغانا على تأسيس وحدة المستعربين من اليهود العرب والزجّ بهم إلى سوريا ولبنان لمتابعة حكومة فيشي وتأثيرات الوضع على غرب اسيا وفيما بعد تطورت الأمور لخلق جهاز المستعربين)، العديد من العمليات التي هدفت أساسا تعزيز الوجود اليهودي وتثبيته في ظل النقاشات الداخلية الصهيونية من جدوى استعمار فلسطين مع وجود سكان فيها يعمرونها والنظر إليها مقارنة مع أوروبا على أنها بلد غير مناسب للحياة، بسبب قلة مواردها وتمدد صحرائها، ولذلك شكّل جهازها الأمني مبكرا ذراعا هاما في تثبيت الوجود الصهيوني، سواء على المستوى الذي ذكرت أو على مستوى رصد المُعارضة الصهيونية الداخلية.

ولقد حظيت هذه المرحلة من تاريخ الحركة الصهيونية والهاغانا والبلماخ وأجهزتها المخابراتية بأبحاث وتقارير ودراسات.

الجهاز الأمني للهاغانا، راقب عن كثب الساكنة الفلسطينية ورصدها وسودت في ذلك الآلاف من الأوراق التي شرحت حياتهم اليومية والعامة، ونسيج العلاقات العشائرية والحمائلية، ومَن مِن الأشخاص معاد للحركة الصهيونية، ومَن مِن الممكن استدراجه وتجنيده، وما انسحب على الافراد انسحب على الحمائل والعائلات والعشائر. باختصار ما من شاردة ولا واردة، إلا وقد تم توثيقها بما في ذلك منتوجات ومحاصيل القرى والنجوع وأحوالهم المعيشية ومديونياتهم، وهذا الاهتمام المبكر في عشرينيات القرن الماضي تُرجم عام 1933 بقرار من الوكالة اليهودية بتأسيس دائرة أمنية متخصصة بالعرب، سمّي القسم العربي (המדור הערבי)، حيث عمل هذا القسم بإشراف مباشر من الوكالة اليهودية وترأسه إلياهو شاشون، وقد كُلِفَ هذا الجسم بجمع المعلومات عن السكان العرب في فلسطين وأعمالهم وتفاصيل واقعهم السياسي والاقتصادي والمعيشي، وقياداتهم والحِراك السياسي القائم، وأحوالهم الدينية ومستويات تدينهم، ورصد النشاطات الدينية التي كانت في المجتمع الفلسطيني، كما رصد كل تحرك يتوقعون أنه سيُلحق أذى بالمستوطنات اليهودية، وكل نشاط يعتبرونه معاد، وقامت هذه الوحدة، كما يتضح من بعض الوثائق، باختطاف شخصيات عربية والتحقيق معها واستعمال كافة أنواع العنف لاستخراج معلومات من تلكم الشخصيات، وفي تلكم المرحلة أقيمت فروع يزعم مؤرخو تلكم المرحلة أنّها كانت شخصية، أي لم تقف الهاغانا أو الوكالة خلفها تخصصت في المدن الفلسطينية الكُبرى، كيافا وحيفا والقدس، وكانت كافة المعلومات التي تجمع تبعث إلى مركز الهاغانا والوكالة اليهودية، ومعنى ذلك أنّ تلكم المرحلة شهدت تطور جسمين أمنيين، الأول للهاغانا وقد عني بالأمور العسكرية والأمنية ذات الصلة، والآخر عُنيَ بالأمور المدنية والسياسية والاقتصادية وكان تحت إشراف الوكالة.

في عام 1940 شرعت الوكالة اليهودية بتجميع كافة الاذرع الاستخباراتية اليهودية، وأسست دائرة معلومات عُرِفت بجهاز الشاي “اختصار لكلمة شيروت هيديعوت”، ومهمته من اسمه تجميع وتركيز المعلومات، وعمل الجهاز في المجالين المدني والعسكري، أي أنّه خدم الوكالة والهاغانا (البلماخ، وكان له دور حاسم فيما يعرف الأدبيات الصهيونية هسازون، הסזון-كلمة فرنسية تعني موسم الصيد- حين اتخذت الوكالة قرارا بملاحقة عصابات الليحي والاتسيل لمنعهم من قتل الجنود الانجليز في فلسطين وذلك أبان الحرب العالمية الثانية) وخضع عمليا لمسؤولية الهاغانا، وكان من ضمن تخصصاته متابعة السكان في فلسطين وراكم ما سبق من مؤسسات أمنية ومضى على سنة من سبقوه في تتبع آثار العامة والخاصة من قيادات وأحزاب ونقابات وهيئات، وراقب عن كثب الحركات الجهادية والأحزاب الفلسطينية والحراكات الشعبية الرافضة للوجودين الصهيوني والإنجليزي وراقب الحزب الشيوعي الفلسطيني والإخوان المسلمين، بل أن الجهاز جعل مدنا فلسطينية كبرى كالقدس ويافا وحيفا تحت بصره الدائم، كما راقب وتابع أولئك الذين رفضوا سياسة الهاغانا والوكالة من الأحزاب والحركات الصهيونية الأخرى، وكان له دور هام فيما سمي حرب الاستقلال، خاصة ما تعلق بالقرى الفلسطينية التي هُجّرت فيما بعد، وقد سمي الملف الذي تولى كِبرَهُ وكان له الدور الأساس في التهجير بملف القرى، تيك هكفاريم- תיק הכפרים- وفيه رصد دقيق لأوضاع تلكم القرى وأحوالها على كافة المستويات، وتم ذلك بالتعاون مع الهاغانا، وقد نُشِرَت العشرات من الأبحاث والدراسات والكتب حول هذا الجهاز الذي تحول بعد قيام الدولة إلى جهاز الشاباك.

في الثلاثين من يونيو/ حزيران من عام 1948 تم إعادة بناء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بما في ذلك جهاز الأمن العسكري وجهاز والموساد والشاباك، ووفقا لما كتبه ايسار هرائيل في كتابه الامن والديموقراطية، فإن بناء الأجهزة تم دون نقاشات داخلية بين أصحاب الشأن، وبتغييب شبه متعمد للقيم الديموقراطية وحدود العلاقة بين الأمني والديموقراطي.

في عام 1949 أقرّت الكنيست قانون الخدمة الأمنية وما يتعلق في الجيش والبناء الهرمي وقررت في البند الثامن من القانون، بند الخدمات الخاصة، إلحاق الشاباك بالقائد العام للجيش وفي عام 1950 تمّ اتخاذ القرار باعتباره منفصلا عن الجيش وأنه جهاز أمني مدني ضمن وزارة الدفاع وفي عام 1953 اعترف بالعاملين في الجهاز كموظفي دولة، ومؤخرا انتقل هذا الجهاز ليكون من ضمن مكونات مكتب رئيس الحكومة.

 

الأمن المجتمعي أولى مهمات الشاباك في الدولة الناشئة

بعد قيام إسرائيل مباشرة، أوكِلت إلى الشاباك مهمة الأمن المجتمعي (تحصين المجتمع الإسرائيلي الخارج من مرحلة الييشوف والتنظيمات السرية والعمل الحزبي المليشياوي والدولة الناشئة التي تدفق إليها آلاف الناجين من النازية والتاركين بلادهم العربية، حيث تم إسكانهم في المعبروت وامتلاء مدينة تل ابيب درة التاج الصهيوني بالأجانب وانتشار الفوضى والخاوة والعربدة)، بالإضافة إلى المهام الأساس التي أقيم من أجلها والمتعلقة بمتابعة العرب ومن بقي منهم في الدولة، ومنع أعمال تجسس داخلية. كانت مهمة الحماية المجتمعية قضية قومية بامتياز، وهذه المهمة حددتها الحكومة بستة بنود واضحة تمام الوضوح، وفي مقدمتها العمل على محاربة السوق السوداء والأموال المزيفة ومنع التهريب من الخارج، ومنع تدهور العلاقات بين العلمانيين والحريديين، تحسبا من أن تنزلق إلى حرب أهلية بعد قيام الحاريديم بخطف الطفل يوسله شمومخار وتهريبه إلى الخارج ومنع أعمال الشغب من قبل الرافضين للتعويضات من المانيا، ومواجهة التحركات في المعبروت ومحاربة أسبوعية “هعولام هزيه” التي اتّسمت بالجرأة في النقد وبصورها الإباحية، معتبرة الدولة أنّ هذه المجلة تشكّل تهديدا أخلاقيا على المجتمع الناشئ، واعتبرت الحكومة هذه المهام شديدة الأهمية لما تحمله من تداعيات على الأمن الداخلي للمجتمع الناشئ من جهة، ولما تحملته من تداعيات على مناعته الوطنية ومن ثم على مناعة الدولة ذاتها.

لقد تعاطت حكومة مباي منذ اللحظة الأولى لقيامها، مع تحصين مجتمعها المتشكل على أنّه مسألة قومية لها ما بعدها في صيرورت استمرار الدولة وانهيارها، لذلك كانت الحماية الاجتماعية والمجتمعية أولى الأولويات، وهو ما يدعونا لنتساءل هل فعلا المؤسسة الإسرائيلية البالغة من العُمر اليوم 73 عاما، تنظر إلى مجتمعنا العربي الفلسطيني الذي اعتبرته معاديا منذ أن وطأت أقدامهم هذه البلاد، في ظل انتشار العنف والجريمة وفوضى السلاح، كمهدد أمني وقومي لها، بعد أن ذاقت على جلدها بعضا من لسعات هبة الكرامة؟ وهل فعلا المؤسسة الإسرائيلية التي كلفت الشاباك برصدنا وحوّلت مجتمعنا إلى مختبر تجارب وتظافرت سياسات الاختراق الأمني والأخلاقي مع السياسي والمدني والاقتصادي، لنصل الى هذه اللحظة الفارقة في تاريخ مسيرتنا مع هذه الدولة، باتت تتحسب من المستقبل الذي تتشكل ملامحه في ظلال الثورات المعلوماتية والتقنية والسايبر والانسان المُعولم؟

إذا كانت الدولة الناشئة، قد تنبّهت إلى أهمية المناعة الاجتماعية والمجتمعية وتأثيراتها المباشرة على مسيرة بناء الدولة، فمن باب أولى أن نتنبه نحن أبناء الداخل الفلسطيني، إلى أهمية التحصين الاجتماعي والمجتمعي، وإلى تعزيز حصوننا الداخلية التي باتت مهددة بفعل الجرائم، جرائم القتل وانتشار الفساد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى