أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (86): في تجربة الإسلاميين في البرلمانات العربية (2-2)

حامد اغبارية

إن من أهم التبريرات التي تفسّر ظهور ما يُعرف اليوم بالحركة الإسلامية العالمية، وعلى رأسها وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، بصفتها أكبر وأقوى تنظيم على مستوى العالم، أنها جاءت لتسد الفراغ الذي حدث بعد إسقاط الخلافة الإسلامية (العثمانية)، وما رافق ذلك من المساعي الغربية الاستعمارية للتمكين للمشروع الصهيوني في فلسطين التاريخية، ثم ما بدأ يظهر في المجتمعات العربية والإسلامية من مظاهر تغريب سعى الاستعمار إلى إحلالها كبديل للحضارة الإسلامية التي ميزت المجتمع العربي والمسلم تحت راية الخلافة، وهو تغريب ساعدت على إحلاله الأنظمة التي سيطرت على الحكم وتحكمت بمصائر شعوبها ومقدرات بلادها بدعم من دول الاستعمار الغربية. فقد فتحت تلك الأنظمة الوظيفية الأبواب أمام الثقافة الغربية التي فرضها الاستعمار بصفته الحاكم الحقيقي في بلاد العرب والمسلمين.

نعم، كان ظهور الحركة الإسلامية ضرورة ملحة لمواجهة تلك الحملة التغريبية، وللحفاظ على إسلامية المجتمعات بعد تفتيت الأمة وتحويلها إلى دويلات ضعيفة لا تملك من أمرها شيئا. وإن الذي يبحث في أدبيات الحركة الإسلامية في سنواتها الأولى سيجد أن همّها الأول سد الفراغ الذي تركه إسقاط الخلافة ومواجهة المشروع التغريبي والاستعماري وعلى رأسه تسليم فلسطين للحركة الصهيونية، وكذلك دفع المجتمعات إلى التمسك بدينها من خلال مشروع تربوي رافقته خدمات اجتماعية وتعليمية وصحية هدفت إلى تحقيق الكفاية الذاتية للفرد وللمجتمع حتى لا يقعا فريسة لإغراءات الحملة الاستعمارية ماديا وفكريا.

بمعنى آخر فإن الحركة الإسلامية قدمت نفسها بديلا للأنظمة الحاكمة التي تأتمر بأمر الذين أوصلوها إلى الحكم وأمدّوها بالمال والسلاح والدعم السياسي لتثبيت أركانها. وطبيعي أن تظهر مجموعات ذات حس وانتماء لتقاوم- بشتى الوسائل- هذا المشهد الذي رسمت حدوده أيدي الأجنبي. فهذا هو شأن الشعوب الحية التي ترفض الركون إلى الواقع الذي يفرضه الطرف القوي، مهما كان الثمن الذي ستدفعه في سبيل الانعتاق من ربقة التبعية حتى في لقمة الخبز وشربة الماء وجرعة الدواء.

وفي مرحلة ما وقفت الحركة الإسلامية على مفترق طرق، فرضته المتغيرات على الساحة، خاصة أمام حملات الاجتثاث والإقصاء والضرب بيد من حديد الذي مارسته الأنظمة الحاكة ضدها. فإما المواجهة الفاصلة وإما الصبر والانتظار حماية للمشروع لمصلحة المجتمع على أمل اقتراب لحظة التمكين التي ستضع الحركة الإسلامية على رأس خيارات الشعوب المستضعفة. ولأن المشهد تتداخل فيه أطراف كثيرة وتتحكم بمستقبله متغيرات عديدة ليست الحركة الإسلامية هي الطرف الوحيد فيه، فقد وجدت الحركة من الصواب حماية المشروع وهي على يقين أن المستقبل سيكون له وحده، فاختارت في غالبية المواقع الاستفادة من إمكانية المشاركة في البرلمانات لعلها من خلالها تحقق التغيير المنشود، وظنًّا منها أن هذا يمكن أن يحمي المشروع.

وهنا يمكن القول إن الحركة الإسلامية ارتكبت خطأ استراتيجيا كبيرا كلفها الكثير، ولم تحقق من ورائه الكثير. وربما أن الشيء الوحيد الذي حققته بجدارة أنها أثبتت كونها القوة الأولى في مجتمعاتها والتفاف الجماهير من حولها التفافا حقيقيا غير مزيف. لكن هذا وحده لا يكفي. فالحركة كانت تحتاج إلى أدوات أخرى لتحقيق ما تسعى إليه، وهذه الأدوات لم تكن متوفرة، وما زالت غير متوفرة إلى هذه اللحظة.

وحتى لا تختلط الأسئلة فإن ما تسعى إليه الحركة الإسلامية ليس الوصول إلى الحكم بقدر ما هو إعادة أمجاد الأمة وتوحيدها تحت راية واحدة كما كانت قبل ذلك. وهذا هدف مشروعٌ لا يجادل فيه إلا عدو أو خصم أو مكابر أو جاهل بحقيقة المشروع الإسلامي الإحيائي، لكن الطريق إلى تحقيقه لا يمكن أن يكون من خلال ممارسة “اللعبة” بنفس أدوات الأنظمة التي تطرح الحركة مشروعها الإحيائي بديلا لها. وقد ثبت هذا على أرض الواقع. فالحركة لم تتمكن من الوصول إلى تغيير النظام الحاكم في أي موقع من المواقع من خلال مشاركتها في البرلمانات. وإن كانت هناك تجربتان- لا ثالث لهما – قد “نجحتا” في الوصول إلى الحكم، فإنهما لم تتحققا من خلال البرلمانات. فالتجربة الأولى “تحققت” من خلال دعم الحركة الإسلامية في السودان لانقلاب عمر البشير عام 1989، والتجربة الثانية في ثلاث دول من خلال إرادة شعبية؛ في مصر وتونس بعد الربيع العربي، وفي المغرب التي سعى فيها النظام الملكي إلى حماية نفسه هروبا من ثورة شعبية تطيح به، فعمل على احتواء الحركة الإسلامية.

وفي تجربة السودان أؤمن إيمانا قاطعا أن الحركة الإسلامية هناك أطلقت النار على قدمها عندما قررت دعم انقلاب عسكري انقلب هو عليها في منتصف الطريق. فتحقيق الخيرية للأمة لا يمكن أن يكون بدعم الانقلابات أيا كانت النية وحسن الظن. وهو في التالي يقدم مبررا لأي تنظيم لدعم الانقلابات التي يمكن أن تقودها أي قوة تملك الوسائل حتى لو كانت معادية للشعوب وقامعة لها، كما حدث فعلا في الانقلاب على البشير واستبعاد الإسلاميين من المشهد السوداني.

أما في التجربة المصرية والتونسية فقد اتضح أن الالتفاف الشعبي والدعم الجماهيري وحده ليس كافيا لتثبيت دعائم الحكم، طالما أن هناك دولة عميقة وقوى خارجية تتحكم بخيوط اللعبة. وفي التجربة المغربية أكبر موعظة لمن أراد أن يرى الحقيقة. فالتعاطي مع الأنظمة الحاكمة بهذه الإيجابية قاد الحركة الإسلامية في المغرب إلى نسف كل أدبياتها عندما عزفت على وتر النظام في قضية التطبيع مع تل أبيب، فخسرت نفسها ورصيدها الشعبي، وأصبح مستقبلها على كف عفريت.

عندما كنت أراقب المشهد الانتخابي العبثي في عدد من البرلمانات العربية التي شاركت فيها الحركة الإسلامية (في مصر والأردن على سبيل المثال) كنت أستغرب إلى حد الاستهجان من تلك الفرحة العارمة التي كانت تجتاح الإسلاميين لما “حققوه” في الانتخابات من “نجاحات”، ثم كنت أتساءل: إذا كان النظام الحاكم هو الذي يسمح بالمشاركة أو يمنعها، فعلامَ كل هذه الفرحة والاحتفالات؟ وهل النتائج المتواضعة تعكس فعلا قوة الحركة الإسلامية في الشارع، أم أن النظام (الذي بيده كل أوراق اللعبة) زوّر وتلاعب؟

كان واضحا أن الخطأ يكمن في دخول لعبة ليست هي الميدان الذي من خلاله يمكن تحقيق التمكين.

إذ كيف يمكن أن تحقق التغيير بواسطة أدوات لعبة النظام الذي جاءت الحركة الإسلامية لتطرح مشروعها بديلا له، وهو الذي يقمعها ويلاحقها ويضيق عليها ويسفك دماء أبنائها ويسجن قياداتها وعلماءها؟ ثم كيف يمكن أن أحقق التغيير وأنا أمارس اللعبة السياسية تحت غطاء دساتير كل ما فيها مناهض للشريعة التي جاءت الحركة لتحقيقها؟ ثم كيف أعلن ولائي لرأس النظام (في الحالة الأردنية كمثال) وأتعهد بعدم المساس به والاقتراب منه، وأنا أساسا جزء من مشروع جاء للإطاحة به واستبداله؟ أيمكن أن أقنع جمهوري وكوادري أو أقنع الجمهور عموما بهذا إزاء نظام (كالحالة الأردنية كمثال كذلك) جاء أصلا على أنقاض الخلافة التي أريد استعادتها، بل هو جزء من المؤامرة التي تعرضت لها الخلافة، وهو ثمرة من ثمار هذه المؤامرة؟ هذه القاعدة تنسحب على سائر المواقع كلٍّ حسب ظروفه ومعطياته التاريخية والسياسية.

إذًا، ما الذي كان على الحركة الإسلامية عمله بدلا من ذلك؟

إذا علمنا أن هدف الحركة الاسلامية هو التمكين للأمة وإعادتها إلى الطريق الذي زُحزحت عنه، وتوحيدها تحت قيادة إسلامية واحدة وراية إسلامية واحدة، فقد ثبت أن التمكين لا يمكن أن يتحقق من خلال المشاركة في البرلمانات العربية. بل إن هذه المشاركة لم تحقق حتى أقل ما يمكن من بوادر التغيير، لا على مستوى سياسات النظام، ولا على مستوى التغيير المجتمعي، ناهيك عن قضايا الأمة الكبرى وعلى رأسها قضية الصراع على فلسطين.

كان على الحركة الإسلامية ترك هذه اللعبة وعدم المشاركة في البرلمانات العبثية، وهي التي كانت تدرك تماما أن الأنظمة لا يمكن أن تسمح لها بتحقيق أكثر مما يُسمح به طبقا لمصلحة النظام، وكانت هذه وسيلته للاحتواء وامتصاص الغضب الشعبي ومحاولة تخفيف الضغط الذي تمارسه الحركة عليه من كل جانب. ولعلنا نتذكر كيف أن أنظمة معينة غيرت القوانين الانتخابية عندها عندما شعرت أن الحركة الإسلامية يمكن أن تتجاوز المسموح به، وأنظمة أقدمت على حظرها ومنعها ليس فقط من ممارسة حقها الانتخابي، بل حتى من ممارسة نشاطها الشعبي. ثم لما حققت الحركة نجاحا حقيقيا بعد ثورات الربيع العربي لم تتمكن من الاستمرار لأن أدوات الحكم الحقيقية لم تكن بيدها. وأدوات الحكم يمكن تلخيصاها بما يلي: الجيش والشرطة والمخابرات وسائر الأجهزة الأمنية والاقتصاد. فإذا فقد أي نظام هذه الأدوات فإنه لا يمكنه أن يمارس الحكم فعليا، ويبقى وجودُه شكليا حتى تأتي اللحظة التي تقرر فيها هذه الأجهزة أن اللعبة انتهت. وهذا ما حدث في مصر وما يحدث في تونس حاليا.

كان على الحركة الإسلامية، إن أرادت الوصول إلى مركز القوة الأول (الحكم) الذي يساهم في التمكين للمشروع وضمان استمراريته وثباته واستقراره، أن تصل أولا إلى أدوات الحكم الحقيقية المشار إليها، وهذا ما لم تفعله الحركة في مصر وتونس والأردن وغيرها من المواقع. لكن الباب لا يزال مفتوحا والإمكانيات متاحة على المدى الطويل. فالمشروع الإسلامي الإحيائي يملك الكثير الكثير من القدرات والطاقات التي تضمن استمرارية وجوده، والمطلوب منه أن يعيد قراءة المرحلة السابقة والاستفادة منها وتصويب ما يلزم تصويبه والاستفادة من التجربة الماضية لبناء أدوات تساعده على تحقيق التمكين. فهو مشروع أصيل، قوي، جذوره الحضارية والفكرية والإنسانية ضاربة في أعماق الأرض وفي الحاضنة الشعبية، ولا يمكن اقتلاعها ولا اجتثاثها مهما تقلبت الأيام وضاقت المساحات. وأظن أن المستقبل- رغم ما يجري الآن- هو للحركة الإسلامية. فإنها إن فشلت في مرحلة ما، فهو جهد بشري خاضع للنجاح والفشل، لكنه أيضا قابل للنهوض نهضة قوية أقرب ما تكون إلى نهضة الأمة في الفترة الصلاحية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى