مشهد تونسي جديد: حراك شعبي عابر للأحزاب

“تونس لا يمكن أن تعيش إلا في كنف الشرعية، وتُبنى بالانتخابات وليس بالانقلابات… والشعب الذي أنجز انتخابات وتداولًا سلميًا على السلطة لن يقبل بالعودة إلى الظلم وحكم الفرد الواحد”.
هذه الكلمات التي قالها الطبيب التونسي بلقاسم، خلال تظاهرة يوم الأحد الماضي في شارع بورقيبة، وسط العاصمة، رفضًا لتدابير وإجراءات الرئيس قيس سعيّد، تعبّر عن رأي آلاف التونسيين الذين خرجوا، الأحد، إلى الشوارع دفاعًا عما عاشوه على مدى عقد من الحرية.
وعلى الرغم من كل الأخطاء التي حصلت خلال هذه العشرية، لكن الخوف من السقوط من جديد في براثن الحكم الفردي حرّك أغلب التونسيين على اختلاف مشاربهم، ودفعهم إلى تأجيل الخلافات مؤقتًا والالتقاء على قاعدة الدفاع عن المكتسبات، وهو ما يعني بداية توضح المشهد التونسي الجديد وقاعدة الفرز المحددة له.
يعكس هذا المشهد أيضًا بداية تشكل حراك مواطني عابر للأحزاب، التي لا تزال بمعظمها تحت تأثير الصدمة ولم تبلور حراكًا واضحًا تجاه الأحداث. وعلى الرغم من أن أغلب الأحزاب الكبيرة تقف في الجهة الرافضة لقرارات الرئيس، فإن الخلافات الكبيرة بينها لا تزال تمنعها من تشكيل جبهة موحدة تقف في وجه التفرد بالسلطة.
في الفترة الأخيرة، بدأ المشهد التونسي يتغير فعليًا، وحصلت تطورات متلاحقة مهمة، نهاية الأسبوع الماضي، من إدانة منظمات وطنية ودولية التوجّه للحكم الفردي، إلى تظاهرة مناصري سعيّد الذين أحرقوا نسخًا من الدستور، السبت، قبل تظاهرة معارضي سعيّد، الأحد، والمواقف الحزبية والسياسية اللافتة، والتي تقود كلها إلى بداية توضح المشهد التونسي، على الرغم من أنه يبقى متحركًا وغير ثابت وقابلًا لحدوث مفاجآت في أي وقت.
والسبت، أعلنت منظمات مدنية رفضها لقرارات سعيّد، من بينها “الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية” و”الرابطة التونسية للمواطنة”، ومنظمة “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة العفو الدولية-فرع تونس” و”محامون بلا حدود” و”الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان” و”الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية” و”اللجنة الدولية للحقوقيين” و”المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب” وغيرها.
ودانت المنظمات “بشدة القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد بصفة أحادية”، معتبرة أنه “عكس القاعدة العامة لعلوية الدستور بإعطائه المراسيم الرئاسية مرتبة قانونية أعلى من الدستور”. كما نددت بـ “الاستحواذ على السلطة في ظل غياب أي شكل من أشكال الضمانات” وبجميع الصلاحيات المنوطة برئاسة الجمهورية “من دون أي سقف زمني”.
وسبق ذلك بيان للاتحاد العام التونسي للشغل على درجة كبيرة من الأهمية، باعتبار ثقل المنظمة التاريخي في الشأن الوطني وتأثيرها الكبير في المواقف السياسية في البلاد. فقد نبّه الاتحاد من “مخاطر تجميع السلطات في يد رئيس الدولة في غياب الهياكل الدستورية التعديلية”، معتبرًا الدستور منطلقًا ومرجعًا رئيسًا، في انتظار استفتاء واعٍ على تعديله يكون نتاج حوار واسع.
كما دعا “إلى عدم حصر الإصلاحات في الشكليات وفي إعادة هيكلة النظام السياسي والانتخابي فقط، بل يجب أن تشمل جميع المنظومات التي ترهّلت وخُرّبت بشكل منهجي على امتداد عقود”.
واعتبر الاتحاد أن “تعديل الدستور والقانون الانتخابي شأن يخصّ جميع مكونات المجتمع من هياكل الدولة ومنظمات وجمعيات وأحزاب وشخصيات وطنية”، رافضًا احتكار رئيس الجمهورية التعديل، معتبرًا ذلك خطرًا على الديمقراطية وعلى التشاركية. وشدّد على أنّ “لا حلّ للخروج من الأزمة الراهنة غير التشاور والتشارك والحوار على قاعدة المبادئ الوطنية وسيادة تونس وخدمة شعبها والتجرّد من المصالح الذاتية والفئوية”.
ويتشبث الاتحاد بخريطة طريقه ورؤيته للخروج من الأزمة، محددًا بوضوح تموقعه إزاء قرارات سعيّد، وهي القراءة التي تجتمع الأغلبية وراءها تقريبًا، والقائمة على إصلاح أخطاء المرحلة الماضية بالتشارك وعلى قاعدة الدستور، ورفض الذهاب إلى مغامرة غير محسوبة، والتصدي الواضح لكل انفراد بالحكم أو أي ارتداد على مكاسب الثورة.
حزبيًا، توضح المشهد تقريبًا، إذ تقف أحزاب قليلة مع سعيّد، أهمها حركة “الشعب” الممثلة بـ 15 نائبًا، أما بقية الأحزاب الداعمة له فمحدودة الشعبية، من بينها “حركة تونس إلى الأمام” و”التيار الشعبي” و”حزب التحالف من أجل تونس” و”حركة البعث” و”الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي”. وتعتبر هذه الأحزاب أن قرارات سعيّد “خطوة مهمة في اتّجاه إنقاذ البلاد من منظومة التدمير الممنهج للدولة، وتأكيد خيار القطع مع عشرية الخراب والدمار والفساد والإفساد ومع خيارات حكومات لم تكن سوى واجهة لحكم بارونات المافيا”.
وتقف تقريبًا أغلب الأحزاب المهمة، شعبيًا وبرلمانيًا، في الجهة المقابلة والرافضة لسعيّد، ومنها “النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” و”التيار الديمقراطي” و”الجمهوري” و”التكتل” و”آفاق تونس” و”العمال” وغيرها، بتباين نسبي في التفاصيل، لكنه تباين يؤكد أن رفضها لسعيّد لا يعني قابلية توحدها في جبهة واحدة بسبب الخلافات الكبيرة بينها، وربما يكون هذا مدخلًا لتشتتها وإضعاف الموقف الرافض.
وعن ذلك، قال أستاذ القانون الدستوري ومؤسس شبكة “دستورنا” جوهر بن مبارك، الذي شارك في تظاهرات الأحد، إن “أهم رسائل احتجاجات الأحد أن الشارع والمجتمع التونسي محصن ضد الانقلاب والاستبداد، وأنه بدأ يتحرك، واستفاقته كانت كبيرة وواضحة، ما يعني أن موازين القوى بدأت تتغير وستتواصل”.
وتوقع في حديث صحفي، أن “يتصاعد الحراك في الأسابيع المقبلة، وأن يجد الانقلاب نفسه وسط انقسام حاد في المجتمع التونسي، وهذا ما من شأنه أن يشجع الشارع للتصدي أكثر للانقلاب ويدعم مواقف المنظمات الوطنية والمجتمع الوطني”، مشيرًا إلى “مسألة مهمة، وهي أن الشارع التونسي يستعيد شيئًا فشيئًا ثقته في التجربة. وعلى الرغم من أنه مصمم على عدم الرجوع لما قبل 25 يوليو/ تموز، إلا أنه رافض أيضًا لما بعد 25 يوليو”.
ولفت بن مبارك إلى أن “الاحتجاجات توجّه أيضًا رسالة للخارج، هي أن هناك حركة سياسية مواطنية رافضة، ويمكن لكل أصدقاء الديمقراطية التعاطي معها، مع التأكيد أن سعيّد أضعف بالانقلاب الموقف التونسي دوليًا، ويخرجنا من نادي الدول الديمقراطية، ولكن هناك طبقة سياسية جديدة متشبثة بالديمقراطية وهي المُحاوِر مستقبلًا على قاعدة الديمقراطية والسيادة”.
وتعليقًا على المواقف الحزبية، قال بن مبارك إن “المواقف بدأت تتوضح والناس تأخذ مسافة من سعيّد، ولكن الأحزاب عجزت عن التحرك، وقدرتها على التحكم في الشارع أصبحت ضعيفة، وهناك قيادة جديدة تتعاطى مع الأحداث، والمشهد السياسي بكل تشكيلاته انتهى”.
وأوضح أن “قوة المشهد الجديد وصلابته هو أنه مواطني يتجاوز الخلافات الأيديولوجية وقائم على فكرة واحدة هي بناء الديمقراطية الحقيقية والدولة الوطنية، وهذا هو الاستقطاب بين من يريد بناء دولة ديمقراطية ذات سيادة ولها مشروع وطني، وبين من يتخبطون بين الاستبداد والشعبوية”، مشيرًا إلى أن “الصراع في المرحلة المقبلة سيكون واضحًا بين قيم الثورة الجديدة والقديم المتشبث بالماضي وبالاستبداد”.
من جهته، قال الكاتب والمحلل السياسي عادل بن عبد الله، في حديث صحفي، إن “المشهد السياسي واضح منذ اليوم الأول، ولم تطرأ عليه تغييرات كبيرة، ولكن هناك أطرافًا ذهبت في منطق الانقلاب لحسابات خاصة، وعندما لم تجد موقعًا في الانقلاب بدأت بمراجعة مواقفها، ولكن ليس بشكل واضح بل بالتعبير عن أنه انحراف عن مسار التصحيح، فيما الواقع أنه انحراف عن توقعاتهم من الرئيس لا أكثر”.
ورأى أن “بيانات ومواقف بعض الأحزاب والمنظمات لم ترتق إلى مستوى اللحظة، وما زالت تتحدث عن الخوف من الانفراد بالرأي والمخاطر على الديمقراطية من دون التركيز على الأصل، وهو أنه انقلاب وتأويل انقلابي للفصل 80 من دون العودة لتلك اللحظة، بما يؤكد بأنه لم يتغير شيء”.
واعتبر أن “المشهد يتجه نحو فرز وانقسام على قاعدة من مع الدستور ومن ضده، ولكن هناك أطرافًا تدعي دفاعها عن الدستور ولم تعلن أي موقف رافض لحرقه”، مشيرًا إلى أن “هناك العديد من المنظمات الصامتة لم تُصدر أي موقف مبدئي من الدستور”.
ولفت إلى أن “المحدد في تحولات المشهد لن يكون داخليًا، بل سيكون خارجيًا، باعتبار أن مشروع سعيّد عقائدي وليس سياسيًا، وهو يقدم نفسه كصاحب رسالة لا يخطئ، وكأنه معصوم، فعمق خطابه لاهوتي وليس خطابًا سياسيًا، لذلك لا يُنتظر أن يتراجع الرئيس ولا أن تراجع بعض الأطراف مواقفها من الانقلاب، وبالتالي فالمحدد سيكون خارجيًا، والتحركات هي رسالة للخارج أكثر منها للداخل”.