أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (72): حديث في الثوابت (8)

حامد اغبارية

ثابت حق العودة:

وإن من الثوابت الفلسطينية – العربية- الإسلامية التي لا يجوز التنازل عنها أو بالأحرى لا يمكن ولا يجوز أن تصفح الأمة عمّن جعلها مسألة خاضعة للتفاوض أو التنازل أو التمييع بذريعة الظروف الدولية والواقع الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني وتعيشه الأمة، ثابت حق العودة. وهذا ثابت أصيل، وإن كان ثابتا طارئا، بمعنى أنه فُرِض على شعبنا جراء أحداثٍ وقعت في الوطن الفلسطيني عام النكبة (1948) جراء مؤامرة كونية، ساهمت فيها أيضا أنظمة عربية عميلة فاسدة صنعها الاستعمار الغربي، بهدف التمكين للمشروع الصهيوني في فلسطين، ليس فقط على حساب الشعب الفلسطيني، وإنما تحديدا على حساب أمة الإسلام ونكاية بها وإرغاما لها، بعد أن كانت الخلافة الإسلامية (العثمانية) قد وقفت سدا منيعا في وجه ذلك المشروع الخطير الذي رأينا ونرى وسنرى آثاره المأساوية المدمرة ليس على أمتنا فقط، وإنما على المجتمع الإنساني كله.

ولاحِظ هنا أن التمكين للمشروع الصهيوني بدأ بوعد من دولة استعمارية واحدة هي بريطانيا، من خلال وعد بلفور سنة 1917، أي بعد سنة واحدة تقريبا من احتلال انجلترا للوطن الفلسطيني، ولكنّ ما يسمى بالمجتمع الدولي كله وقف خلف هذا القرار ودعمه وأمدّه بكل وسائل التمكين المالية والعسكرية والسياسية والبشرية، في الوقت الذي يتبجح هذا المجتمع الدولي بقرارات صدرت عن مؤسسات دولية تمثل جميع الدول على كوكب الأرض، ومع ذلك لم تحرك هذه الدول ساكنا من أجل التمكين لقرار واحد يصدر عن هيئة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بفلسطين ومستقبل هذا الشعب. بل إن خلاصة القول في هذه المسألة إن “المجتمع الدولي” هذا إنما هو إحدى وسائل التخدير والتمكين. تخدير أمتنا وشعبنا وتمكين المشروع الصهيوني بالوسائل الدبلوماسية تارة وبالعسكرية تارة أخرى. والمجتمع الدولي ليس عاجزا إطلاقا عن تنفيذ قرارته الصادرة عن مؤسساته الدولية، وإنما هو ينفذ منها ما يخدم المشروع الصهيوني ويخدم مصالحه، أو بتعبير أكثر دقة ما يظن أنه يخدم مصالحه، ولذلك رأيناه لا يتردد في شن الحروب الطاحنة وتدمير دول عربية وإسلامية بقرارات دولية، كما حدث في العراق وأفغانستان. المسألة إذًا أن المجتمع الدولي يستطيع لكنه لا يريد تنفيذ القرارات المتعلقة بقضية الصراع على فلسطين.

في 11/12/1948، وبعد أن تمكنت العصابات الصهيونية، بدعم انجليزي مباشر وبتواطؤ من الأنظمة العربية العميلة من المحيط إلى الخليج، من إخلاء الوطن الفلسطيني من معظم أهله، وهدم ما يزيد على 500 قرية وتجمع سكني في الجليل والمثلث والمرج والنقب والساحل، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 194 الذي يزعمون أنه يتحدث عن حق العودة للمهجرين الفلسطينيين! وجاء القرار بناء على توصية من الكونت فولك برنادوت، حفيد أوسكار الثاني ملك السويد والنرويج. وكان برنادوت هذا قد ظهر اسمه قبل قرار “حق العودة، وذلك بعد صدور قرار تقسيم فلسطين، حيث انتدبته الأمم المتحدة ليكون وسيطا بين الفلسطينيين واليهود بزعم العمل على تطبيق قرار التقسيم، في حين أن مهمته الحقيقية كانت المساهمة في التمكين للمشروع الصهيوني. فقد جاء دوره بالضبط بعد أن كانت العصابات الصهيونية قد أنجزت الجزء الأكبر من عملية تهجير الإنسان وهدم المسكن. ورغم كل ما فعله من أجل التمكين للمشروع الصهيوني إلا أن عصابة “الليحي” اغتالته لعدم رضاها عن بعض بنود اقتراحاته المتعلقة بقرار التقسيم، خاصة ما يتعلق بالسيطرة على الأماكن المقدسة في مدينة القدس. وهناك من يرجع الاغتيال إلى صراعات بين العصابات الصهيونية يومها، وأن مجموعة من الليحي انشقت عنها وأطلقت على نفسها اسم “جبهة الوطن/ حزيت هموليدت” هي التي نفذت الاغتيال. ورغم ثبوت جريمة الاغتيال على أعضاء العصابة إلا أن الحكومة الإسرائيلية الناشئة حديثا أطلقت سراحهم بعد أسبوعين من الاعتقال، رغم صدور قرار قضائي بسجنهم. وقد ذكر أحد قادة العصابة أن وزير الداخلية الإسرائيلي يومها (يتسحق غرونباوم) أبلغه أنه سيعاقَب إرضاء للمجتمع الدولي، ولكن سيحصل على العفو لاحقا. والملفت أن أعضاء عصابة “الليحي” حوكموا بتهمة الانتماء لتنظيم إرهابي وليس بتهمة اغتيال برنادوت. وقد اتضح بعد سنوات أن الذي أطلق النار على برنادوت شخص يدعى “يهوشوع كوهين” الذي كان حارسا شخصيا لدافيد بن غوريون ومن مؤسسي مستوطنة “سديه بوكير” في النقب. وقد طلب بن غوريون عدم الكشف عن اسمه إلا بعد وفاته. وقد كشف عنه عام 1986. وفي هذا ما يكفي للتدليل على ما جرى وعلى ما يجري اليوم. فالمشهد لم يتغير إطلاقا.

وماذا نجد في القرار 194 ذائع الصيت هذا فيما يتعلق بحق العودة؟

بداية فإن القرار ليس خاصا بحق العودة وحده، بل إن الحديث عن “حق العودة” جاء في البند الحادي عشر من القرار، ولو كان ذا شأن وأهمية بالنسبة لما يسمى المجتمع الدولي لتصدر القرار في بنده الأول. غير أن القرار 194 إنما جاء كخطوة أخرى في طريق التمكين للمشروع الصهيوني. فهو يقر للعصابات الصهيونية بحقها في الاستيطان في فلسطين، ويتحدث عن جهود برنادوت الحميدة في إرساء السلم بين الطرفين المتنازعين، ودفعهما إلى المفاوضات “بهدف تحقيق تسوية نهائية لجميع المسائل المعلقة بينهما”!! ذلك “السلم” الذي ما يزال المجتمع الدولي يصفع به شعبنا وأمتنا صباح مساء فلا نرى منه إلا المزيد من قضم أجزاء من الوطن ومزيد من التمكين للمشروع الصهيوني وتصاعد في عمليات اختطاف الوطن.

فهل ندرك الآن من أين وكيف ومتى جاءت فكرة المفاوضات والعمل على تحقيق السلام والتسوية النهائية لـ “المسائل المعلقة؟ وهل نعي ماذا يعني مصطلح “المسائل المعلقة”؟ هذا يعني أن هناك مسائل غير معلقة انتهى أمرها والسلام، وعلى رأسها أن هناك واقعا اسمه الدولة الإسرائيلية التي هي جزء من المشروع الصهيوني، وأن على الجانب الفلسطيني أن يقبل بهذا الواقع ولا يعمل على تغييره، بل ويرضى بالتعامل معه بأي صورة كانت!! وهذا ما تحقق يومها، وهو ما يتحقق الآن. وطوال تلك السنوات من ذلك الوقت عملت قوى الاستكبار العالمي على صناعة قادة من العرب والفلسطينيين يكونون على استعداد للقبول بالأمر الواقع والتعامل معه والاعتراف به وبنتائجه. وقد نجحت تلك القوى في تحقيق هذا الهدف أيّما نجاح… والآن تستطيع مثلا أن تتخيل لماذا “طار” أحمد الشقيري من رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية بعد هزيمة 67!!

ومن ذلك أن قرار 194 يتحدث عن “وجوب حماية الأماكن المقدسة -بما فيها الناصرة- والمواقع والأبنية الدينية في فلسطين، وتأمين حرية الوصول إليها وفقاً للحقوق القائمة والعرف التاريخي، ووجوب إخضاع الترتيبات المعمولة لهذه الغاية لإشراف الأمم المتحدة الفعلي”. أما الحقوق القائمة فتعني أنه طالما أن اليهود موجودون في فلسطين وأصبحت لهم دولة فإن “الحقوق القائمة” تشملهم. وأما “العرف التاريخي” فهو إقرار أممي بحقوق تاريخية لليهود في فلسطين. هل فهمت ما معنى هذا؟؟! وهل فهمت معنى القرار؟

ومن ذلك أن القرار 194 يتضمن قرار بتدويل مدينة القدس ومعها عدد من القرى الفلسطينية القريبة، تشمل أبو ديس شرقا وبيت لحم جنوبا وعين كارم غربا. ومن هذا يمكنك أن تفهم كيف جاءت فكرة تحويل “أبو ديس” إلى عاصمة بديلة للكذبة الكبرى التي يريد المجتمع الدولي ومعه الاحتلال تسميتها “دولة فلسطين”، مقابل التنازل عن الحقوق التاريخية والدينية- العقائدية والوطنية في القدس!!

ومن ذلك أن القرار 194 يتحدث عن “وجوب منح سكان فلسطين جميعهم أقصى حرية ممكنة للوصول إلى مدينة القدس بطريق البر والسكك الحديدية وبطريق الجو، وذلك إلى أن تتفق الحكومات والسلطات المعنية على ترتيبات أكثر تفصيلاً”.. ولا يخدعنك استخدام مصطلح “سكان فلسطين جميعهم”، فليس المقصود أبناء الشعب الفلسطيني وحدهم بل كل من يسكن في فلسطين بمن فيهم اليهود. وهذا أيضا معناه إقرار للاحتلال بأن له حقا في القدس…

هذه هي روح القرار 194 الحقيقية؛ ذلك القرار الذي يلهج صنائع الاستعمار من قادة عرب ومسلمين وفلسطينيين به صباح مساء متمسكين به وكأنه عقيدة، بينما هو في حقيقته جزء من خطة التمكين للصهيونية.

ثم يأتي البند الحادي عشر ليتحدث عن حق العودة. فماذا يقول هذا البند؟

يقول القسم الأول من البند، وهو ما يهمنا هنا: “تقرر وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر”.

هكذا يبدو “حق العودة” الوهمي في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذا ما تزال القوى الاستعمارية إلى يومنا هذا تعمل على تطبيقه، ولكن بطريقتها هي. ما معنى هذا؟

يتحدث القرار عن “وجوب السماح بالعودة للاجئين الراغبين في العودة…” و”الوجوب” لا يعني إطلاقا الإلزام والإجبار؛ أي إلزام الجهة المعنية وإجبارها على تمكين الفلسطيني المهجّر من وطنه وبيته وأرضه من العودة. ثم ماذا يعني الحديث عن “اللاجئين الراغبين في العودة…”؟ هل هناك فلسطيني لا يرغب في العودة؟.. فإما عودة الجميع وإما لا عودة. والحقيقة أن الواقفين خلف هذا القرار اختاروا الخيار الثاني، وهو عدم العودة إطلاقا. وهذا ما يحدث إلى الآن على أرض الواقع. وقد تابعنا جميعا عبر السنوات الخطط الجهنمية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول التي هم فيها الآن، والحصول على تعويض مادي. وكان “أفضل” هذه الخطط تلك الخطة التي تحدثت عن عودة بضعة آلاف (فقط) إلى أراضي السلطة الفلسطينية وكفى الله المؤمنين القتال، وهكذا يكون المجتمع الدولي قد نفذ القرار 194!!

إن ثابت حق العودة هو ثابت لا تغيره ظروف، ولا واقع أليم، ولا استكبار الاستعمار، ولا انتفاش المشروع الصهيوني. وهو إطلاقا ليس متعلقا مصيريا بالقرار 194، ولا بغيره من القرارات الدولية، بل قرار العودة والحق فيها هو حق فلسطيني لا تنتهي صلاحيته ولا يؤثر فيه تعاقب الفصول.

أما عن التعويض المادي، فهذا ما يسعى إليه الاستعمار وربائبه في المنطقة حتى يتخلصوا من قضية اللاجئين إلى الأبد. لكنهم في الحقيقة يحلمون. هذه مجرد أضغاث أحلام يوهم بها من يملك الآن القوة نفسه…

إن التعويض الوحيد الذي هو من حق الفلسطيني ليس مقابل تنازله عن العودة، وإنما هو تعويض يجب أن يدفعه كل مجرم ساهم في اقتلاعه من أرضه ووطنه عن كل لحظة من لحظات العذاب التي سببها له، وذلك بعد أن يعود إلى بيته وحوش داره وزيتونته ونبع مائه وهواء وطنه المخطوف.

هكذا فقط نفهم ثابت حق العودة. (يتبع).

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى