أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (69): حديث في الثوابت (5)

حامد اغبارية

ثابت “فهم السياق التاريخي”:

وإن من أكثر القضايا التي ابتُلي بها شعبنا الفلسطيني وعالمنا العربي وأمتنا الإسلامية طيُّ صفحات من تاريخ الصراع على فلسطين، والاستسلام للواقع الذي فرضه هذا الصراع، وهو واقعٌ وضعت أسسه القوة التي يملكها المشروع الصهيوني مدعوما من الدول العظمى وما يسمى زورا “المجتمع الدولي”؛ هذا المجتمع الذي ما ظهر وما نشأ وما تأسس إلا من أجل الهدف الذي من خلاله أصبح للمشروع الصهيوني موطئ قدم في بلاد المسلمين.

ولقد كان لضعفنا كشعب وكأمة دور كبير في غرز أوتاد هذا الواقع وتثبيته عميقا في الوعي الجمعي، حتى بتنا نجد بين ظهرانينا من يسوّقه ويضع له النظريات السياسية والاستراتيجيات، ويدافع عنه بذريعة العقلانية تارة والحكمة تارة أخرى وضعف صاحب الحق تارة ثالثة والتعايش مع الواقع (أو مع الآخر) تارة رابعة وهكذا دواليك. بل نجد منّا من يصنع لهذا الواقع سندا باطلا مزيفا من التاريخ، حتى نشأ جيل تربى على هذه النظريات، وأصبح غاية ما يسعى إليه ليس إزالة الظلم الواقع على شعبنا وعلى أمتنا، وإنما تحصيل ما يمكن تحصيله لإقامة دولة هلامية لا طعم لها ولا لون ولا رائحة ولا حول ولا قوّة، على أية بقعة جغرافية من هذا الوطن.

إن فهم السياق التاريخي لقضية الصراع على فلسطين لا ينفصل عن استراتيجية إدارة هذا الصراع، بل هو المنطلق الذي تُبنى عليه هذه الاستراتيجية. فما هو هذا السياق الذي علينا أن نفهمه كي نبني عليه السلوك والعمل؟

لن أغوص في أعماق التاريخ البعيد، مع أهمية ذلك. ولن أتحدث عن التاريخ ببُعده الديني الذي منه يمكننا أن نفهم سيرورة الأحداث في بلادنا المقدسة، والتي منها يمكننا أن نستنتج بقليل مِن الجُهد مَن هم أصحاب الحق ومن هم الذين يدّعون حقا دون وجه حق. ويمكنني في هذه النقطة أن أحيلك إلى كتاب فضيلة الشيخ رائد صلاح “نبوّة واحدة وأمة واحدة”. فقد أبدع فيه الشيخ في التأصيل لمسألة أحقية أمة الإسلام وحدها في الوطن الفلسطيني، استنادا إلى القرآن والانجيل والتوراة والأحاديث النبوية الشريفة. لذلك سأكتفي بالإشارة إلى التاريخ القريب الذي لا يزيد عمره عن قرن من الزمان؛ من لحظة مؤامرة إسقاط الخلافة الإسلامية (الخلافة العثمانية) التي تصدت لأهداف المشروع الصهيوني وحال آخرُ خلفائها، السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى، دون تحقيقها طوال ثلاثة عقود من فترة حكمه.

لقد زعم اليهود طوال الوقت أن لهم حقا دينيا وتاريخيا في الأرض المقدسة، وبنوا على ذلك نظرية “الوعد الإلهي” وأكذوبة “شعب الله المختار” العنصرية لتحقيق أهداف سياسية لا علاقة لها بوعد ديني ولا بـ “شعب مختار” على أسس عنصرية. ولذلك فإن الذي ربما غاب عن الأذهان هو أن وعد بلفور الذي أعطاه التاج البريطاني للحركة الصهيونية في الثاني من تشرين الثاني 1917، إنما هو وعد سياسي، منطلقاته سياسية عنصرية ليس لها أي بُعد تاريخي ولا ديني. بل إن هذا الوعد البريطاني صدر ليحل مكان وهم “الوعد الإلهي” لـ “شعب الله المختار”. ولو لم تكن بريطانيا قد احتلت ذلك الجزء من بلاد الشام بما فيه فلسطين التاريخية لما صدر هذا الوعد أصلا. ومن هنا تستنتج أن ما يسمى بـ “المجتمع الدولي” ممثلا بما يسمى “عصبة الأمم” إنما عمل على تسليم الوطن الفلسطيني للإنجليز عام 1916 عقب الحرب العالمية الأولى، بعد تفتيت أوصال الأمة وتقطيعها إربا إربا من خلال مخطط “سايكس- بيكو”، بهدف واحد ووحيد وهو التمكين للمشروع الصهيوني في هذه الأرض. وقد استخدمت بريطانيا كل إمكاناتها الاستعمارية والعسكرية والسياسية لفتح الطريق أمام الحركة الصهيونية لتحقيق أهدافها. ومن أجل ذلك صنعت على عينها ويدها أنظمة عربية عميلة ساهمت في التمكين للمشروع الصهيوني، سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة. فنشأت أنظمة في منطقة الخليج ما تزال تساهم في تثبيت هذا المشروع حتى هذه اللحظة، وكذلك في شرق الأردن وفي مصر والعراق، هذا في الوقت الذي كانت الدولة الاستعمارية الأخرى- فرنسا- تؤدي ذات الدور في سوريا ولبنان، فكانت هذه الأنظمة هي الأداة السياسية التي من خلالها استقر أمر المشروع الصهيوني في الوطن الفلسطيني.

من هنا يُفترض بنا أن نفهم وألا ننسى أن بلادنا قبل النكبة استُعمرت استعمارا قذرا من الانجليز طوال أكثر من ثلاثة عقود بترخيص من “المجتمع الدولي”، ثم سلّمت تلك البلاد للحركة الصهيونية بترخيص من “المجتمع الدولي” كذلك. ثم ما لبثت المسألة طويلا حتى أصبحنا نحن – فلسطينيين عربا ومسلمين- نطالب بـ “حقنا” بناء على “القانون الدولي” و”الشرعية الدولية”؛ تلك الأكذوبة الفجّة التي صنعها “المجتمع الدولي”، وهما قانون وشرعية بُنيا خصيصا وتحديدا من أجل هدف واحد: التمكين للمشروع الصهيوني، ونسينا أو أُنسينا أن حقنا أكبر من “القانون الدولي” ومن “الشرعية الدولية” اللذيْن يتحدثون عنهما.

من هنا تفهم ونفهم أن قضية الصراع على فلسطين لم تبدأ من يوم 15/5/1948، وهو التاريخ الذي أعلن فيه عن قيام الكيان الذي عرف باسم “دولة إسرائيل”، بعد إيقاع نكبة على شعبنا ليس فقط خلال 1947 و1948 كما نتوهم، وإنما من اللحظة التي وضع الاستعمار الانجليزي قدمه فوق أرضنا هذه. وهي نكبة وقعت على شعب هو أصلا جزء من أمة إسلامية تعرضت لنكبة أكبر من خلال إسقاط الخلافة الإسلامية واستبدالها بدويلات هشة فاشلة أنشأها الاستعمار وعمل على تأجيج النعرات القومية والطائفية والعرقية في مجتمعاتها. فكانت ذروة النكبة التي أوقعت على الأمة هي نكبة الشعب الفلسطيني؛ تلك النكبة التي كانت ذروتها إقامة الكيان الصهيوني.

بناء على ما تقدم فإن السياق التاريخي يقول لك إن قضية الصراع على فلسطين لم تبدأ بعد 1948، وهي ليست بين كيانين قائمين أساسا، بل إن ما يجري الآن هو جزء من ذلك الصراع، وليس كلّ الصراع، ذلك أن كيانا قام على أنقاض كيان كان قائما وموجودا أصلا، لكنّ “المجتمع الدولي” و”الشرعية الدولية”- وبدعم من الأنظمة العربية التي أنشأها الاستعمار- حصرا الصراع حول بقعة جغرافية تساوي 21% من فلسطين التاريخية وهي ما يعرف اليوم باسم “الضفة الغربية وقطاع غزة”؛ تلك البقعة التي احتلت سنة 1967. وهكذا أصبح الصراع متواضعا جدا، تستنزف لأجله طاقات الشعب الفلسطيني وطاقات الأمة كلها دون جدوى. هذا يعني أن “المجتمع الدولي” نجح – حتى الآن- في إشغال شعبنا وأمتنا بقضية لا قيمة لها، في الحقيقة، أطلقوا عليها اسم “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي” تارة، والصراع “العربي الإسرائيلي” تارة أخرى.

في الختام: إذا كانت الأمة لضعفها (المؤقت)، وإذا كان شعبنا لضعفه (المؤقت) يمارسان الآن دورا داخل تلك اللعبة القذرة، فإن هذا لا يعني أن ما يحدث على الأرض وأن الواقع الحالي هو الأمر الطبيعي، وأن المسألة يمكن إنهاؤها بفضّ نزاع – مثل فض النزاعات العشائرية- بقرارات دولية يفرضها الأقوياء على الضعفاء. المسألة أكبر من ذلك. وإن محو الآثار وزوال النتائج لا يكون إلا بزوال السبب. (يتبع).

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى