مقالاتومضات

 من دروس الـــقدس والأقصى

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

تتسارع الأحداث في مدينة القدس وفي المسجد الأقصى، واختلط حابل السياسة الإسرائيلية بأيديولوجيتها، واستوى على الجودي عود الأحداث، وبات من الواضح للعيان أن ساكنة القدس وأهل الرباط في المسجد الأقصى، تتغشاهم نفحات من ثبات وتضحية وإباء لتعود القدس كما كانت بوصلة هذه الأمة، ففي الوقت الذي تتسابق أنظمة العار العربي على اختلاف مسمياتها: أنظمة ملكية، جمهورية، أميرية، ومن معها من جيوش الذباب الإلكتروني، تنحاز الشعوب العربية إلى القضية المقدسة، إلى القضية الفلسطينية والقدس والمسجد الأقصى المبارك، وهكذا تنتصر الشعوب بأقل ما تملك من إمكانيات لهذه القضية سواء عبر أدوات التواصل، خاصة الانستجرام، بعدئذ تواطأت شركة فيسبوك مع هذه الأنظمة والاحتلال الإسرائيلي على الحيلولة دون نقل الوقائع الحقيقية أولا بأول، وتواطأت معها أنظمة الإعلام الأجنبي الأوروبي والامريكي، متبنين للرواية الصهيونية الاحتلالية، كما تبنتها جيوش الذل والعار الذبابية العربية، التي تُصرف عليها من أقوات الشعوب، مئات الملايين من الدولارات، فيما تعاني تلكم الشعوب من شظف العيش وسوء الحياة وتدهورها، في سياسة متعمدة تهدف الى قتل الإنسان العربي، وإحالته إلى شيء تستعمله أنظمة العار ومن معها من جيوش الضلالة متى تشاء، إذ المنطق الفرعوني والعقلية الهامانية هي الحكم الفصل مع هذه الشعوب.

 

الشباب والزمن السائل وخصوصيات المرحلة

في عصر ثورة المعلومات وتدفقها وإمساك الناشئة والشباب بتلابيبها، كل وفقا لما تعنيه تلكم السيولات، تحققت في الشيخ جراح والقدس عمومًا والمسجد الأقصى، خصوصيات توجيه تلكم المعلومات عبر ضبطها لصالح القضية ذاتها، وصار العالم كله عربه وعجمه حتى الساكن في أعماق الصحراء، يطّلع مباشرة على ما يدور، وفي عصر الترجمات الفورية للمعلومات تتحول قضية القدس من مجرد قضية على هامش الأحداث، كما كان يظن زعماء العرب، إلى أيقونة ثورة وانتفاضة على الظلم والطغيان والفساد والانتهازية، وكشفت الوجه الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي وأنظمة العار العربية المتواطئة معه، وبذلك شرعنا في سياق هذه السؤال بتحويل القدس من مجرد مدينة محتلة، إلى بوصلة تهتدي بهديها شعوب العالم أجمع، الساعية للتحرر وتحقيق السلم المحلي والعالمي، وبذلك أيضًا بدأت النوويات الأولى لمفهوم العالمية للقدس كعاصمة جامعة لشعوب الأرض.

انتفاضة الشباب المقدسي ومعه أبناء الداخل الفلسطيني في الشيخ جراح، وفي انحاء مختلفة من المدينة، وفي ساحات المسجد الأقصى المُبارك، أدخلت الرعب والخوف إلى قلوب حكام العرب قبل الاحتلال الإسرائيلي، إذ تتحسب هذه الأنظمة من موجة شبابية ثانية تكون هذه الموجة تسونامي يقلع هذه الأنظمة، وما حملت من رجس العسكر وعُهار السياسة، لذلك مارست هذه الأنظمة مع شعوبها في نقل وقائع القدس والاقصى، سياسة التشويه ووضع السم في الدسم، إذ يُشهد لهذه الأنظمة الشمولية تفننها في كيفية تخدير الشعوب واستهبالها، بيد أنَّ عصر السيولة المعلوماتية وتدفقها عبر أدوات التواصل الاجتماعي، حال دون تلكم السياسات، ممّا يعني أنّ أرضية تتهيأ وتتخلق في تلكم البلدان، قد تكون القدس انطلاقتها، فالشباب الذين هم في أعراف الثوريين الحقيقيين، المادة الخام والأمينة للثورة على الظلم والطغيان، تملك اليوم من أدوات هذه الثورة ما لم يملكه الآباء والأجداد وتشكل الروافد المدنية لهذه الثورة أساسا أخلاقيا، لكنه لا يتوقف عند هذه الحد، ومن ثم فحكام العرب بما فيهم حاكم رام الله، يتحسبون من امتداد واستمرار انتفاضة المقادسة، بعد أن اتضح أنّ عامل الوقت لا يثني المقدسيين ولا يفتُّ من عضدهم وعزيمتهم، وبسقوط عامل الزمن كأداة من أدوات السيطرة، ارتفعت حُمى هذه الأنظمة، ثمّ كانت ثانية الاثافي أنَّ وازع الخوف من الجلاد الإسرائيلي، لم يسقط فحسب، بل وأحدث سقوطه ارتدادات داخل المؤسسات الإسرائيلية ذات الصلة، وشرعت تتحسب من لحظة انهيار علاقاتها الأمنية المحسوبة بدقة على محاور رام الله وعواصم العرب المُطبعة وغير المُطبعة، إذ انهيار التنسيق والتعاون الأمني وتبادل المعلومات الأمنية والمخابراتية، سيعني بالضرورة اختلاط الأوراق وسيفتح فضاءات كثيرة لمواجهة الاستعمار الإسرائيلي الذي شرع في العقدين الأخيرين يأخذ منحى دينيا واضحا، ويوم يدخل عنصر الدين إلى معادلات الصراع، ستكون على هذه الأرض جبهتان لا ثالث لهما، الاحتلال الإسرائيلي وأنظمة الاحتلال العربي، والشعوب العربية، من طنجة إلى القدس ولات حين مناص.

 

القدس الفاضحة…

في الوقت الذي تعيش المؤسسة الإسرائيلية بشقها السياسي أسوأ مراحلها منذ قيامها، وإلى هذه اللحظات، وبعد أن بات معلوما للداني والقاصي أن من يدير السياسة الإسرائيلية الخارجية أجهزة الامن الإسرائيلية، من الجيش ومخابراته والموساد وأجهزته والشاباك وأدواته، فإنَّ قضية القدس والمسجد الاقصى تضع النقاط على الحروف في سياقات العلاقة القائمة بين أنظمة عربية غير شرعية، تواجدت برسم التبعية مع الاحتلال الإسرائيلي، وباتت حميمية العلاقات تشكل قنطرة إسرائيلية لمزيد من التوحش والتغول على القدس وأهلها وعلى المدينة العتيقة والمسجد الأقصى المُبارك.

تاريخيا، شهدت ساحتنا العربية والإسلامية ذات العلاقة بالقدس والاقصى، مشاهد خيانة وتواطؤ عربي وإسلامي مع الصليبية التي غزت بلادنا ومارست هذه الممالك دورا في إطالة عُمر الاستعمار الصليبي، التي نجحت في استغلال الدويلات (الامارات والممالك) لصالح بقائها عبر تداخل المصالح بين هذه الممالك والاحتلال الصليبي، الذي كانت عاصمته القدس، وها هي تعود الصورة مجددًا إلى المشهد العربي-الإسلامي، ويتكرر ذات المشهد بأكثر صلافة ووضوحا وانحطاطا مع فارق جوهري يتعلق بحجم المعركة الدائرة على الوعي، وعي الجماهير، ففي حين كان الوعي الإسلامي العام مناهضا ومناكفا ورافضا للاستعمار الصليبي، فإننا نشهد صورة مختلفة اليوم، من وجود أذناب متعلمنة فاسدة الذمة والضمير تعاني من خيانة فكرية وأخلاقية، تناصرها أموال ممالك العار وجمعيات مدعومة من الصليبية “المتنورة” المسماة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية. نحن اليوم بصدد معركة وعي حقيقية سيطول أمدها، إذ المسألة ليست مواجهة الاحتلال وصلفه مباشرة فحسب، بل من متممات القضية، مقاطعة كل ما له صلة بهذا الاستعمار الذي تم توليده عبر عملية قيصرية، تمّت بمشرط الصليبية الفرنسية والبريطانية، وتخلقت في سايكس بيكو، فأوروبا التي صَدَّرت المسألة اليهودية إلى منطقتنا، تعمدت تخليق مسألة مقابلة أسمها المسألة الفلسطينية، بعدئذ نجحت في تكوين جيوش من العملاء الفكريين والأخلاقيين والسياسيين والعسكريين، ممن يتحكمون إلى هذه اللحظات في مفاصل الحياة العامة في منطقتنا، ويعلنون ولاءهم لهذه الصليبية صباح مساء، بل ولتأكيد الوصاية عليهم أحالوا بلدانهم (مقتطعاتهم) إلى قواعد عسكرية لهذه القوى، ولذلك تكون معركة الوعي التي انطلقت شرارتها مع الانتفاضة الأولى وخان دماءها وشهداءها من تصدروا المشهد الفلسطيني عدد عقود ليصلوا في نهاية مسيرتهم إلى أن يكونوا عملاء ووكلاء لدى الاحتلال الإسرائيلي، يتعيشون على التنسيق الأمني وما ينجم عنه من فوائد مالية لحفنة من المتنفذين، أحالت القضية الفلسطينية والقدس في جوهرها والاقصى في العين منها، إلى سلعة يتم التفاوض عليها على أساس من المكتسبات المادية والقدس في هذه السياق هي الفاضحة، فضحت الأنظمة وعرّتها تمامًا كما كشفت عن المعدن النفيس في هذه الأمة.

 

باقية وتـــمتد..

وللقدس دور أساس في أقدار الأحداث الجارية والقادة، ويمنح الشرف لكل أولئك الذين يقفون إلى جانبها بما تيسر بحوزتهم من أدوات، ومن ذلك أولئك الذين تبرعوا من صدقاتهم لنقل الساكنة في القدس والداخل الفلسطيني في هذه الأيام المباركات إلى المسجد الأقصى المُبارك، وهو ما دعا المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تقف على قوائمها مستنفرة كأنها تفر من قسورة، فيما الناس يذهبون للتعبد في هذه الأيام المُباركات، تُصِرّ أدوات الاحتلال أن تتعامل مع هذا المشهد الإيماني، على أنّه مشهد أمني بامتياز، فكان أن نطق من قومهم يوم السبت الفائت، من قال إن من ينظم ويُسَير الحافلات إلى المسجد الأقصى المبارك الحركة الإسلامية الشمالية، وما يعلم جنود ربك إلا هو. والحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، حُظرت تنظيميا ولوحقت وأغلقت مؤسساتها، ولا يزال يلاحق قادتها ومن كانوا في صفها الأول، وما حبس الشيخ رائد صلاح عنا ببعيد، فسياسة الاحتلال الإسرائيلي في تماس العلاقة بين القدس والاقصى والحركة الشمالية فرط من شدة غبائه وتخبطه، وما هذا التصريح إلا دليل على أن هذه الحركة التي شُتت شملها التنظيمي راسخة وجدانا في نفوس الناس الذين يعلمون أن شدّ الرحال إلى الأقصى كان من الأسباب الأساس في حظرها، فإذا بعموم أهل الداخل يشدّون الرحال إليه لتتأكد مقولة باقية وتمتد ولن يقطع الاحتلال ومن يقف خلفه من حكام العرب حبلا وصله الله رب العالمين.

 

الدروس الثلاثة..

يوما بعد يوم يتأكد عندي أن الاحتلال الإسرائيلي، يتّجه مسرعًا بعلم من دهاقنته أو بدون علم أنهم سيصلون إلى مرحلة فاصلة، بين أن يختاروا إسرائيل أو القدس، فقد كشفت أحداث الشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى عن معدن الشباب وأخلاقهم العالية، وأنّ الانتصار لا يكون إلا بهم ومعهم، ولذلك تتعاظم مسؤولية القائمين اتجاه هذه الجموع الشبابية في الرعاية وتوجيه البوصلة، وتتعاظم مسؤولية القادة السياسيين في شدّ عضد هؤلاء الشباب، كما كشفت الأحداث عن معنى الإصرار والتعاضد، وما حدث يوم السبت، من منع المصلين الوصول إلى المسجد الأقصى وإصرارهم على السير بالأقدام للوصول إليه وهبة المقدسيين شيبا وشبانا لملاقاتهم ونقلهم بسياراتهم إلى المسجد، إنما يؤكد حجم التلاحم والتراحم الكامن في نفوس شبابنا وبناتنا، فضلا عن الإصرار وتحقيق المُراد، وهذا ما تتخوف منه الاحتلالات أي كان لونها، عربي، إسرائيلي أو فلسطيني أو أجنبي من خلف البحار، وإذا كان الخوف جند من جنود الاحتلال لاستدامته، فقد نُزِعَ وللأبد من قلوب ونفوس الناشئة والشباب المقدسيين وأبناء الداخل الفلسطيني، وما يجري على صفحات الأرض المقدسة عمليات تدريب، ولذلك يقولون: وإنّ لناظره لقريب. لا عزاء للطغاة. ولا عزاء للظالمين. ولا عزاء للخونة والمندسين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى