أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (66): حديث في الثوابت (2)

حامد اغبارية

ثابت فهم القضية:

أشرت آنفا إلى أن أول باب يُدخَل منه إلى الثوابت هو ثابتُ فَهْم القضية، فهو الضباط لسائر الثوابت، بمعنى أن الفلسطيني الذي يسعى إلى رؤية الصورة كاملة، بكل تفاصيلها، وبكل ألوانها وبكل وضوح، لا يمكنه أن يرى أبعاد كلّ ثابت من الثوابت، ولا حجمه ولا وزنه ولا أهميته ولا علاقته بالثوابت الأخرى قبل أن يستوعب ثابت فهم القضية من كل جوانبه وبكل تفصيلاته.

فما هو ثابت فهم القضية؟

يعتقد كثيرون أن القضية هي قضية الشعب الفلسطيني وحده، ولا تتجاوز المسألة هذه الدائرة. وللأسف الشديد فإن من أبناء شعبنا قيادات وجماهير من يحمل هذا الاعتقاد الخطير الذي كان سببا من أسباب التراجع المتواصل في القضية وتقلُّص الهوامش التي يمكن من خلالها استيعاب حقيقة هذا الملف أو على الأقل بعض هذه الحقيقة.

إن أول خطوة في فهم القضية أن تعلم أن الصراع أكبر من كونه “صراعا” بين شعبين، يُدعى أحدهما الشعب الفلسطيني والآخر الشعب الإسرائيلي. فهو في حقيقة الأمر ليس صراعا بين شعبين، ولكنه صراع على قضية وعلى رواية بينهما أرض نُهبت ووطن استُلب من أهله. فالقضية هي قضية “صراع على فلسطين” وليست قضية صراع إسرائيلي-فلسطيني أو إسرائيلي-عربي، تلك المصطلحات التي نجح المضلّلون في فرضها على النقاش وعلى الحيّز.

فما هو الفرق بين أن تقول “صراع على فلسطين” وبين أن تقول “صراع فلسطيني-إسرائيلي” أو “صراع عربي-إسرائيلي؟

بطبيعة الحال يمكنك أن تجد الفرق بنفسك، وهو فرق كبير شديد البروز والوضوح، ولكن نختصر عليك الجهد ونقول إن تصوير القضية على أنها صراع بين جسم اسمه “إسرائيل” وبين جسم آخر اسمه “الفلسطيني” أو “العربي” يوهم بأن الكيانين أو الجسمين ندّان، وأنهما كانا موجودين أصلا وبداية، وأن خلافا حدث بينهما فجأة في مرحلة من المراحل أدى إلى نشوب هذا الصراع.  ولتقريب المسألة أضرب مثالا على قضية مياه النيل وسد النهضة. هناك ثلاث دول هي مصر والسودان وإثيوبيا بينها صراع على مياه النيل، فهي ثلاثة كيانات أو دول موجودة أصلا وبدايةً، والنيل كذلك موجودٌ أصلا وبدايةً، وفي مرحلة ما جاءت دولة أثيوبيا وقررت بناء سد على النيل يلحق ضررا بحقوق السودان ومصر في مياه النيل، وهذا السلوك الأثيوبي خلق أزمة وسبب صراعا بين كيانات. لذلك هو صراع أثيوبي- سوداني- مصري حول قضية اسمها مياه النيل.

فهل هذا ينطبق على الحالة الفلسطينية؟ إطلاقا… فالحالة الفلسطينية ليست صراعا بين كيانين كانا موجودين أصلا. فالكيان الإسرائيلي لم يكن موجودا أصلا عندما بدأ الصراع على فلسطين، وهو الصراع الذي وصل ذروته عام 1948، بل إن وجود أو إيجاد هذا الكيان هو جزء من المشكلة، بل هو المشكلة كلّها من الناحية العلمية الخالصة، وبغض النظر عن الموقف منها، وبغض النظر عن موقف الدنيا كلها مما حدث.

ولماذا أقول إن هذا الصراع بلغ ذروته عام 1948؟ هذه أيضا حلقة من حلقات فهم القضية، ذلك أن الصراع لم يبدأ عام 1948 كما يتخيل الكثيرون من الذين وقعوا في فخ التضليل، ولم يبدأ حتى مع وعد بلفور من عام 1917، بل بدأ قبل ذلك بكثير. وما نكبة 1948 إلا ذروة هذا الصراع، حيث اقتلع شعب من أرضه وهدمت قراه وأُحلّ في جسد الأمة كيان غريب هو ذروة الذروة في هذه المرحلة من الصراع الذي لا يزال مستمرا حتى هذه اللحظة، وسيبقى مستمرا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

بناء على ذلك فإن من حلقات فهم القضية أن تدرك أن هناك أرضا اسمها فلسطين، هي جزء من بلاد الشام، حدودها معروفة من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، وأن هذه الأرض كانت تنبض بالحياة وفيها شعب هو جزء من عالم اسمه العالم العربي ومن أمة اسمها الأمة الإسلامية، كان يعيش تحت راية قيادة واحدة لهذه الأمة هي الخلافة الإسلامية، التي سعى أعداء الأمة من الشرق والغرب والصهيونية والماسونية إلى إسقاطها وتمزيقها، تحديدا من أجل إحداث هذا الاختراق الذي أُحدِث في جسد الأمة والذي أنتج كيانا أطلقوا عليه اسم “دولة إسرائيل”. ومن أجل ذلك سُخّرت أموال وجيوش وإعلام وروايات وأضاليل لفرض رواية بديلة وإحلالها مكان الرواية الحقيقية التي هي رواية الشعب الفلسطيني التي هي بدورها رواية الأمة من أولها إلى آخرها. فالصراع إذًا ليس بين كيانين طرأ بينهما خلاف حول قضية ما أو حقوق ما في الحيز الجغرافي، وإنما هو صراع بين جانب أصيل هو الفلسطيني ممثِّلا للأمة، وبين جانب طارئ، هو في الحقيقة المشكلة كلها، وليس طرفا من أطراف الصراع حول القضية. هكذا تفهم أن القضية في حقيقتها هي “صراع على فلسطين” بين جانب يدافع عنها هو الجانب الفلسطيني –العربي- الإسلامي، لأنها حقه من الألف إلى الياء بكل أبجدياتها ومفرداتها وتفاصيلها، تاريخا وجغرافيا وواقعا، وبين جانب ادعى زورا أنها من حقه، وسخّر من أجل ذلك كل ما يمكن من وسائل لفرض روايته، ودعمه في روايته جيوش التضليل التاريخي والديني في العالم من شرقه إلى غربه، حتى أصبحت المسألة وكأنها مجرد قضية طرأت فقط بعد نكبة 1948. وللأسف الشديد فإن هناك (من بيننا) من اشترى هذه الرواية، وراح يرددها ويدعو إلى تبنّيها، بحجة أن الواقع الذي فرضته الظروف والأحداث والوقائع لا يمكن تغييره، وأنه لا يمكن العودة إلى الوراء، ومن الأجدر القبول بالواقع ومحاولة الحفاظ على الموجود قدر الإمكان قبل أن يضيع كل شيء. وهذا قصور في الفهم وخلل في الإدراك، دون أن يتنبّه هؤلاء إلى أنه ليس بالضرورة العودة إلى الوراء، بل إن المطلوب حقيقةً هو التقدم إلى الأمام، لكنه ليس من نوع التقدم الذي أنتجته الظروف والأحداث؛ كالنكبة أو النكسة أو أوسلو أو غير ذلك. إنه تقدم إلى الأمام من نوع آخر يختلف عن كل الأجندات المضللة المطروحة بقوة، والتي من آثارها الكارثية أنه خرج من بيننا من يوازن بين الروايتين، ويدعو إلى تفهمّ الآخر، وسماع روايته كجزء من أصول التعايش الذي لا مفرّ منه…!! وهذا خطير.. بل هو أخطر مما قد يخطر في بال أحد، لكن كثيرين لا يروْن تبعاته الآن، لكنهم سيرونها عمّا قليل.

خلاصة القول إن ثابت الفهم يقتضي أن تعرف أن القضية هي قضية “صراع على فلسطين” بين طرف له فيها كامل الحق التاريخي والديني والحضاري ومعه الدليل ومعه الرواية، وبين طرف آخر طرأ فجأة وفرض نفسه طرفا في الصراع، بروايات دينية وتاريخية لا أصل لها من أجل تحقيق إيجاد جسم أو كيان لم يكن موجودا من قبل، لا يملك دليلا وروايته زائفة مزورة. وكذلك أن تفهم أن القضية ليست محصورة في دائرة الشعب الفلسطيني، لأنها ليست قضيته وحده، ولا هي حتى قضية العالم العربي وحده، بل هي قضية الأمة الإسلامية. وأن تفهم أن أعداء الأمة نجحوا في تحييد الأمة عن قضيتها الأم، يوم أن تمكنوا ليس فقط من فرض روايتهم، بل ومن فرض أجندتهم بجعل الصراع بين شعبين وليس صراع روايتين حول الحق الكامل غير المنقوص في أرض عرفت تاريخيا ولا تزال باسم “فلسطين”، ذلك الاسم الذي لم تستطع حتى الصهيونية من شطبه من أدبياتها حتى عام النكبة، ثم أن تفهم أن مشكلتنا ليست في قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة، وكم مساحة هذه الدولة، وما شروط إقامتها، وهل هي كيان ككل الكيانات أم مجرد تخريجة من تخريجات العُهر السياسي العالمي الذي أنشا الصهيونية لينشئ بها كيانا، يحل مكان كيان آخر هو قائم أصلا وبداية ولا يحتاج إلى مِنّة من أحد كي يقوم… (يتبع).

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى