أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

ذاتية أمة الإسلام والمدرسة الرمضانية

د. محمود مصالحة

 للصوم معان عظيمة، فهو تلك الشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفروعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، والصوم مدرسة الأمة الإسلامية التربوية والعلمية بمساقاتها الإيمانية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية والفكرية، منهاجها مختلفٌ طعمه، عذب مذاقه، يصقل ذاتية الأمة وهويتها الإسلامية، وكتاب ربنا ينطق بالحق، فيرفع دور الأمة القيادي بين الأمم، لقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله “ وقوله تعالى: ” وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ” ، وهكذا تدخل الأمة بأسرها هذه المدرسة الربانية لتُصوِّب ما طرأ على بوصلة أفرادٍ وجماعات منها، بكتاب الله في ندائه: ” يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ” فالتقوى فرقانٌ يغشى أفئدة المؤمنين الصائمين، فتتهلل وجوههم بِشرًا وتعلو قسماتها نورًا، فتهبُّ الجوارح نحو غاياتها ومراميها، فلا تبتغي إلا رضوان ربها، فتزداد إيمانًا على إيمانها وزكاةً وإشراقًا، إنها رحلة أيمانية أخوية نورانية دنيوية أخروية تعيشها أمة الإسلام. فتستشعر رقابة رالله تعالى فهو الأقرب من حبل الوريد، فإن لم تكن تراه فإنه يرك، فلا ملجأ منه إلا إليه في هذا الكون الواسع الرحيب القائل: ” فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ” إلى ركنه الركين، ” إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55)“.

لذلك فالصوم تلك المدرسة القرآنية الروحانية المتجددة والمتميّزة بمساقاتها ذات البنية الشمولية، الإيمانية التعبدية والتربوية والمجتمعية، والاقتصادية، والسياسية، والفكرية، والأمنية، هذا هو المفهوم الشمولي، به تتمتع ذاتية الأمة الإسلامية بهويتها العقدية الإيمانية والسياسية والفكرية عن غيرها، فتَقف في وجه التقزم العلماني القومي والليبرالي والشيوعي، بأفكارهم الإستعمارية المُكبَّة على وجهها، من أن تطالها.

ورمضان أهلَّ ليقول لأبناء الأمة ادخلوا هذه المدرسة الربانية لتجددوا وتتزودوا وتستعدوا وتسعدوا، فالطريق من ها هنا مستقيمًا لا التواء فيه لا يُمنة ولا يُسرة، إنه صراط الله المستقيم، وحبلُ الله المتين، الموصلُ حتما إلى البُغْية، ذات الثمارٍ الغالية، والأثمانٍ العالية، التي تعلو على المادة، والحاكمة عليها، تسخرها لغاياته التي ما قبلها ولابعدها غايات، إنه شهر الخير والغفران، وشهر العتق من النيران، فيه تنجلي القلوب من الران، بأنوار تلاوة القرآن، ويقول لكل من زاغ وراغ لا بد له من الرجوع والإتيان، إلى رب غفور غير غضبان، فيا أمة الإسلام أدخلي في السلم كافة، في مدرسة الرحمن، فالمعلم هو رسولنا محمد النبي العدنان، صلى الله عليه وسلم، حبيبنا صاحب الفضل والإمتنان،

ومن أعظم مسقاتها، مساق التقوى كما ذكرنا، فهو جهاز الرقابة الذاتية الفردية والأسرية والمجتمعية، ومنظومة الإشعار الإيمانية، فالمُطَّلع هو رب البرية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي صدور البشرية.

فمدرسة الصوْم في المفهوم القرآني تمثل شعارًا إلزاميًّا لأمة الإسلام في نداء الله المحبب لقلوب أهل الايمان: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “، فالآية ترسخ هوية الأمة وذاتيتها الإسلامية، التي تستعلي على كل نعرة قومية وعلمانية غريبة غربية أهدافها استعمارية، فليس للفكرة القومية إلا أن تتهذب بالروح الإيمانية، وتنتظم تحت مظلة الأحكام الشرعية، ودستور رب البرية، وسنة سيد البشرية، محمد ابن عبد الله المبعوث رحمة للإنسانية، فتعلن عن وحدة الأمة الإسلامية، بمفاهيمها الذتية والفكرية، فالأوامر هي الأوامر، والنواهي هي النواهي، والقيم هي القيم التي تستعلي بخصائصها الربانية، على سائر القيم المبتدعة الأرضية الوضعية بالفلسفات الجاهلية، فذاتية الأمة الإسلامية بهويتها مهما تعددت الأمكنة واختلفت الجغرافيا والأزمنة، فكلها بلاد المسلمين تُعلي شأن هذا الركن العظيم، بقيمه التعبدية، فتبدد أوهام ذوي العقلية المادية.

فإذا كان الحج يلتقي فيه الزمان والمكان، للتعبير عن وحدة الأمة الإسلامية الروحية والتعبدية والفكرية في أيام معدودات، وفي مكان محدد لمناسك الحج، كالطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرات بمنى، والوقوف بأهم منسك بعرفة “فالحج عرفة” فإن الصيام يأتي في زمان يستوعب كل أمكنة الوجود الإسلامي بمليارين من المسلمين أين ما حلوا.

إنها مدرسة الصوم، فأعظم بها من مدرسة، فيها يتحرك المجال الاجتماعي، فليس الصيام مجرد إمساك عن أشياء مخصوصة، في زمان مخصوص، بشروطه وأحكامه المخصوصة، بل يُجسِّد بأبعاده قيمه الاجتماعية كقيمة الرحمة والتواصل الاجتماعي، وصلة الأرحام بالمودة والألفة والتعاون والوحدة الإجتماعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيُنقّى النفوس من أهوائها ويُخلَّصُ من أمراضها، من شوائب الشرك والخضوع لغير الله، والشح والكبر وحظوظ النفس، وهو أيضا شهر الانتصار على النفس وقهر شهواتها الجسدية ليصبح الطريق مفتوحًا بعلو الهمم في المجتمعات الإسلامية.

فمدرسة الصيام تشدُّ عضد الأمة الإسلامية، وتعزز تماسك ذاتيتها بمفهومها السياسي والأمني، ومن أسرار الصيام وما وراءه من أهداف وغايات، وإنه شهر الانتصارات على الأعداء في غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة وحطين، وفي العاشر من رمضان تم تحطيم خط برليف أعظم الخطوط العسكرية الإسرائيلية تحصينًا عام 1973م، بعد احتلالها لسيناء المصرية، فاقتحم الجنود المصريون والتحموا بالتحصينات بصيحات التكبير ففتحها الله عليهم فتحًا مبينا.

فهو شهرٌ يُدرِّس فيه فن حكم الناس، بدءً بجهاد النفس والانتصار عليها أولًا قبل الانتصار على أعداء الأمة، يقول صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”، لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث قاعدة تُبني عليها ذاتية المجتمعات الإسلامية تربويًا واجتماعيًا وسياسيًّا فتتربي على قيم الأمانة والصدق والإخلاص وحسن الاختيار، فهذه الشروط الأساسية للإصلاح السياسي والفكري الفردي والمجتمعي وعلى صعيد الأمة، والفكر السياسي هو الذي لا يعرف الخديعة، ولا التزوير ولا النفاق ها هو يتشكل في مدرسة الصوم التي تُدرِّس فن القيادة الحقَّة، من خلال القدرة على حُكم النفس، ومن لم يحكم نفسه ظلم غيره، والظلم آفة قاتلة لكل مجتمع سياسي في كل العصور.

وكذلك الصوم مدرسة اقتصادية تعمل على تصحيح تداول الثروة فيها يُدرّسُ كيفية البذل والعطاء، ولا يبقي التطبيق العملي بعيدًا عن مقاصد أحكام الصيام، لقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ “ ، فما قام الإسلام إلا لوضع حدٍّ لظاهرة الفقر والعوز والتسوُّل والمسكنة، فكان الصوم غاية الإحساس بالفقير والتحرك لسد حاجاته، فرسَّخَ ذلك في ذاتية المجتمعات والأمة الإسلامية، فالدولة الإسلامية التي تحكم بشريعة الإسلام، من أهم أهدافها القضاء على تلك الظواهر الاجتماعية، التي هي من نتاج الدول القومية المستبدة المنفذة لمخططات أسيادها المستعمرين، فقد أفقرت أبناء الأمة الإسلامية بخيانتها للأمانة، حينما بدلت هويتها وذاتيتها الإسلامية بالهوية العلمانية الغربية، فآثرت الذلَّة على العزَّة، والتبعية على الاستقلالية، والتخلف على التقدم، والجاهلية العلمانية والقومية والبعثية والفرعونية على عدالة الإسلام وشريعته.

فمدرسة رمضان هي خير المدارس في صناعة الذتية وهوية الأمة الإسلامية، لنتنطلق نحو التقدم الحضاري والقيادة العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى