أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (62): الإنجاز صفر والجنازة حامية…. من الخطاب إلى حلف اليمين

حامد اغبارية

(1)

الآن، وبعد أن وضعت “أم المعارك” الكنيستية أوزارها، وبعد أن اتضح المشهد ولملمت الأحزاب أطرافها وجمعت شعثها وأقسم أعضاؤها يمين الولاء على أنغام معزوفة النشيد الوطني الإسرائيلي، وبعد الاستماع إلى فقرة من كتاب “تهيليم” التي تحدثت عن القدس، وما أدراك ما القدس، وعلى خلفية إعلان بن غوريون قيام دولتهم، تأكد لمن يبحث عن الحق أن ما قلناه طوال الوقت، وما ذهبنا إليه على مدار عقود، وعُدنا وأكدناه في كل جولة انتخابات للكنيست الصهيوني، لم يكن مجرد اختلاف في وجهات النظر، ولا مناكفات سياسية، ولم يكن استعراضا للعضلات الفكرية وللقدرات التعبيرية والتحليلات السياسية المجردة، وإنما كان قراءة عميقة راشدة مسؤولة تستشرف المستقبل بعد سبر غور الماضي وقراءة الحاضر. وهي قراءة أبت وتأبى أن تقفز على محطات التاريخ القديم والحديث، كما فعلت تلك الأحزاب التي أصرّت على السير في طريق الخطيئة المسماة “الكنيست”، قراءة أبت وتأبى أن تمسح من الذاكرة الحيّة صفحات موجعة أرادت تلك الأحزاب أن تصفح عنها وتدخلها في أرشيف النسيان، وأبت وتأبى أن توجه طعنة قاتلة لهوية أبناء هذا المجتمع، كما فعلت تلك الأحزاب بسلوكها السياسي الذي إنما يدل على قصور في الفهم أو ضمور في الوعي أو إيغال في الأسرلة والاندماج التام، وربما أكثر من ذلك. ربما هو دور يلعبه البعض عن وعي وإدراك..

إن الأحزاب (العربية) التي شاركت في الانتخابات، وبُحّت أصوات قياداتها، وانتفخت أوداج ناشطيها، وتصببت أجسادهم عرقا وهم يلهثون خلف الأصوات ويزعقون من على المنابر وأمام الشاشات، أشبعت الجمهور في الداخل الفلسطيني كلاما لو كان حقيقيا ويُرجى منه شيء لقال أي مراقب من خارج حيّزنا إن هذا يعني أنه قد “اقتربت الساعة وانشق القمر”، فما قيل أثناء الحملة الانتخابية وما سُوِّق من عنتريات فارغة وأوهام لا تُرى إلا في المنامات يوحي بأن مجتمع الداخل الفلسطيني بات على مرمى الحجر من الانطلاق والانعتاق والنهوض والانتصار على الصهيونية والإمبريالية والاستعمار والاستحمار، وما عليه إلا أن يبسط يده ليقطف الثمار.. غير أن الواقع وجّه لكل هؤلاء رسالة مختلفة… فقد لسعت ألسنة نيران الواقع أطراف أصابع تلك اليد التي انبسطت لتنهل من السراب.

لقد قلنا أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، إن خيار الكنيست هو خطيئة وطنية وسياسية توصل من سار فيه إلى الهاوية، وهي هاوية سحيقة لا نهوض منها ولا نجاة. فهي أشبه بالنفق المظلم الذي ليس له إلا اتجاه واحد، من دخل فيه أغلق الباب خلفه، فلا رجوع ولا عودة ولا نجاة، اللهم إلا أن يستيقظ الغافل المغرور في منتصف الطريق فيقرر الانسحاب والعودة قبل أن يغلق الباب خلفه. وحتى هذه اللحظة لا أرى من يفعل ذلك، ولا أتوقع أن أحدا من هؤلاء يملك الإرادة والقرار لفعل ذلك، لكنني أرجو أن أكون مخطئا، فالنفسُ أُتعبت إشفاقا وحزنا وأسفا! فهؤلاء بعضٌ من لحمك ودمك، ويعز عليك ألا تستطيع أن تنقذ نفسًا تراها تقترب من حافة الهاوية ولا تمد إليها يدك لتنقذها مما أدخلتْ نفسها فيه.

(2)

لم يسبق لي أن تابعت (كإعلامي) مشهدا يشبه مشهد تسحيج الإعلام الصهيوني للقائمة الموحدة، وخاصة تلك الحملة المركّزة التي أحاطت خطاب الدكتور منصور عباس بهالة من الاهتمام، حتى كدتُ أصدّق أن مصير هذا “السوبرماركت” متعلق فعلًا بما سيقوله الدكتور في خطابه.

شخصيا، كانت تكفيني تلك الحملة، وكان يكفيني هذا الاهتمام والتركيز، وذلك الكمّ الهائل من التصريحات الدونكيشوتية من اليمين ومن اليسار ومن الوسط لأفهم كل شيء وأعرف كل شيء. فقد قال الخطاب كل شيء، وأكد كلّ شيء. لقد أكد ما قلناه طوال الوقت من أن هذا الطريق لا يأتي بخير، بل هو شرٌ لنا بكل عناوينه وكل تفاصيله الكبيرة والصغيرة. وإذا كان هناك من يظن أن الخلاف الذي أدى ذات يوم إلى انشقاق موجع، كان على مجرد وجهة نظر سياسية تتعلق بالمشاركة في الكنيست من عدمها، فهو مخطئ. فالخلاف كان على ما هو أعمق من هذا بكثير. لقد كان على الهدف وعلى الوسيلة وعلى المستقبل. كان على الفكرة وعلى الفكر وعلى ما سينتج عنهما. ولعل خطاب الدكتور منصور عباس قد أجاب على الكثير من الأسئلة التي ما فتئت تتردد منذ 1996، وأزال الحيرة وكشف الغموض عن بعض جوانب المسألة. أقول بعض الجوانب، لأن ما سيكون هو أسوا بكثير مما كان حتى الآن….

وإذا كان أصحاب “أوسلو” قد خرقوا السفينة واستسلموا للأمواج العاتية فتبادلوا الاعتراف مع الذين اقتلعوا شعبهم من أرضه وأحلّوا دولتهم فيها، فما حصلوا إلا على ما نراه اليوم ماثلا أمامنا، فإن الذين قالوا ما قالوه في خطاب منصور عباس قد أحرقوا السفينة والزرع والضرع والأخضر واليابس وأعطوا صك الملكية والحقوق الدينية والتاريخية لمن لا حق له، بل ومنحوه شرعية الادعاء بقدسية المكان، مثلما هو (المكان) مقدس لنا أيضا!!!

لا…! هذا لم يكن مجرد رأي شخصي للدكتور منصور عباس. فالرجل يمثل تيارا وتنظيما له مؤسساته التي تدرس وتبحث وتخطط وتقرر. ومن ثمَّ فإن خطاب عباس هو خطاب التنظيم بكل هيئاته ومؤسساته وقياداته.. وهذا أخطر ما في المسألة… وما بعد ذلك أخطر بكثير..

(3)

لا يمكن الفصل ببين السلوك السياسي وبين الخلفية النفسية أو الحالة النفسية التي تميز رجل السياسة أثناء اتخاذه قرارا، أو إطلاقه تصريحا أو انتهاجه منهجا أو سلكه سلوكا. وإن المتابع لسلوك أعضاء الكنيست العرب أثناء جلسة حلف قسم الولاء يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع سيجد تأثير الحالة النفسية على سلوكهم.

فأعضاء الكنيست من القائمة المشتركة يعيشون حالة نفسية صعبة جدا وشعورا ملازما بالإحباط والخوف على مستقبلهم السياسي جراء الصدمة التي سببتها لهم الخسارة الفادحة (والفاضحة) التي أطاحت بشعاراتهم الكبيرة المتضخمة، وبعد نتائج الانتخابات التي أوصل جمهور الداخل الفلسطيني من خلالها رسالة شديدة الوضوح. لذلك وجدنا أن سلوكهم أثناء تلك الجلسة جاء كمحاولة للتعويض ولمخاطبة الجمهور (الغاضب والمُعاقِب) من أنهم ما زالوا متمسكين بمواقفهم!! لذلك جاءت صيغة القسم التي قدّمها أعضاء الجبهة والتجمع بشكل خاص مغايرة للصيغة الرسمية التي لا مفر منها كي يصبحوا أعضاء كنيست معترفا بعضويتهم. فكانت هذه محاولة يائسة لمواصلة خداع الجمهور وضخ المزيد من الأوهام نحوه. بينما جاءت سلوك ممثلي العربية للتغيير عاديا، ذلك أن الطيبي ومن معه أرادوا تأكيد استقلاليتهم عن شركائهم في المشتركة، وهذا يوحي بأمور كثيرة؛ أمور تتعلق بطبيعة الأشخاص وطبيعة الدور، ويوحي أكثر عن التوجهات المستقبلية والتحالفات الجديدة المتوقعة إذا ما أجريت انتخابات خامسة. وكذلك الأمر في مشهد مغادرة القاعة أثناء النشيد الوطني الإسرائيلي، وهو ذات النشيد الذي لم يكن يثير كل هذه الضجة فيما مضى بالنسبة لأعضاء الكنيست العرب.

أما أعضاء الموحدة، فقد كان سلوكهم مغايرا. فقد أدوا القسم المطلوب والذي يتضمن الولاء للدولة العبرية. وكان السلوك يقول إنهم يحملون شعورا بالنشوة والانتصار، وكأنهم هم الذين اصطادوا الذئب وجرّوه من ذيله، ولكن أكثر من ذلك، كان يحمل في طياته توقعات مستقبلية لتحقيق وعود ربما حصلوا عليها خلف الكواليس، أو يتوقعون الحصول عليها.

مشهد عبثي بكل ما في الكلمة من معنى؛ ملخصه: هؤلاء غاصوا في المستنقع حتى الأذنين، وأصبحت الأسرلة بالنسبة لهم هي المشروع، وهي في مقدمة العمل الوطني!!

ولكن…. سرعان ما سيكتشف جمهور الداخل الفلسطيني أن اللعبة انكشفت وتعرّت ولم يعد في الإمكان ستر عوراتها، وسيتجرّع مرارة الوهم الذي بيع له. سيكون الإنجاز صفرا، كما كان دائما، مهما كانت الجنازة حامية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى