أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

وحدة الأمة الإسلامية (3) ومفهوم الطائفية

د. محمود مصالحة
لم أقصد بهذا المقال الردَّ على د. عزمي بشارة في كتابه بعنوان “الطائفة والطائفية”، ولا أدافع عن الإسلام لكونه دين الحق المهيمن على الدين كله، الذي أُنزل من عند الله الحق على نبي الحق محمد صلى الله عليه وسلم، فأخرج الله عز وجل به أمة العرب بالحق فتوحدت بعد شتات، وأعزها الله بعد ضعف وذلة، وأوتيت العلم بعد جهل، فأخرجها للناس كافة، فقامت وأقامت دولة ذات قوة وصولة، ولم تقعد فصنعت مجدًا حضاريًا، وحملت رسالة الخيرية للناس كافة، قال تعالى: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ” آل عمران:110…، وخاطب الله تعالى البشرية بخطاب مطلق بالتزام قيمة التقوى التي هي من أمهات القيم الإسلامية، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” النساء: 1، ثم خاطب الله المسلمين وحثّهم على التزام قيمة البر وهي جماع الخير، وقيمة القسط أي العدل وصولاً إلى مقام الإحسان حتى مع غير المسلمين الذين لم يعتدوا على المسلمين ولا على دينهم، لقوله تعالى: “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” الممتحنة:8، وجعل الله حسن معاملتهم متعلقة بالإيمان لنيل محبته، وقيمة التقوى جُعلت قاعدة التفاضل بين الناس، لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الحجرات:13. أي أن الشعوب من القبائل تتآلف على روابط بينها، ولكن للتعارف، وليس للتفاخر، أو للتقاتل وسفك الدماء، أو للتعصُب لنزعةٍ حزبية أو فئوية، وكذلك ليس أفضل الناس أشرفهم مكانة، أو أغناهم مالاً، أو أرفعهم جاهاً، أو أكثرهم تأييدًا، أو أشدهم تمسكًا بعصبية القومية، بل هو الأتقى لله وأخشاهم له، هذا هو ميزان الله في التفاضل بين الناس. إذن فما هو مفهوم الطائفية التي جُعلت شماعةٌ لتعزيز ولصيانة الفكر القومي العلماني؟
و “الطائفيَّة لغةً: اسم مؤنَّث منسوب إلى طائِفة: ويقال فتنةٌ طائفيّة.
والطَّائِفيّةُ اصطلاحا: هي التعصُّب لطائفةٍ معيّنة ضد أخرى”. وهي وضع اجتماعيّ وسياسيّ قائم على التركيب الطائفيّ، والطائفيّ: الشخص المنتسب إلى طائِفة، له علاقة بطائفة معينة، والطائفيّ: شخص متعصب لطائفة ذات مذهب معيَّن” (معجم الوسيط). والطائفي: الشخص الذي يدور حول الطائفة ويتحدد سلوكه في نطاقها.
ولفظة الطائفية لم ترد في القرآن الكريم، ولكنها مشتقة من طافَ يطوفُ، ويَطَّوفُ وطائفة، والطائفية بمعنى الفئوية أو القبليّة أي التعصب والحَمِيَّة الجاهلية القَبَليّة، وهو سلوك دوني مُنفِّر ومُفرق أنكره الإسلام وحذر منه، وأنكر من يدعو إليه، أما وقد ظهر المكثرون من استعمال الطائفية لتثبيت الفكر القومي والهوية والعَلمانية الحداثية في حراكهم السياسي، فيرمون بها أصحاب المشروع الإسلامي الوسطي ودعاته، فاستخدامهم للطائفية في هذا السياق باطل وتلفيق مردود، ومعجم القيم الإسلامية ينكر السلوك الطائفي المرتكز على الحميَّة الجاهلية المنكرة على الاطلاق، لقوله تعالى: “إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا” الفتح:26، في هذه الآية الكريمة استُبدِلت الحميَّة العصبية الجاهلية في الملَّة الكافرة، استبدالًا ربانياً، بقيم التقوى والسكينة والوقار في المجتمعات الإسلامية، فقيم الإسلام وقواعده القرآنية بخصائصها المطلقة لا تحابي أحداً من البشر، فتخاطب الناس على حدٍ سواء دون تمييز عرق دون عرق، أو لون دون لون، أو مجتمع دون مجتمع، وهذه الاطياف والوان والأعراق والعقائد تجتمع تحت سقف الدولة الإسلامية، لتؤكد عظمة عدالة الإسلام.
أمّا تعريفات الطائفية في كتاب د. بشارة، نذكر منها ما يلي: “إذا اعتبرنا الطائفية تحديد الفرد لهويته بالتعصب لانتماء ديني أو مذهبي إلى جماعة أو طائفة، بحيث يتحدد سلوك الفرد تجاه باقي الأفراد داخل الجماعة أو خارجها”،…” فحتى في ظل هيمنة الثقافة الدينية، أدت بنى اجتماعية مثل القبيلة والعشيرة أدواراً هي أكثر أهمية في حياة الفرد” ص77، والباحث غالبًا ما يربط اعتناق الدين بالطائفية أو المذهب أو كما يسميه التدين السياسي في تعريفاته، ويعرضها كأنها “مُسَلَّمات” تتكرر، فتضلل القارئ، وهي ليست كذلك، وتحتاج إلى مراجعة علمية، وسنفرد المقالين القادمين للردِّ بإذن الله.
يقول د. محمد عمارة: “الطائفية التي تمثل تعصباً لطائفة من الطوائف مثل المذهب والمذهبية، المذهب شيء مشروع فيه تنوع فيه اختلاف أما المذهبية فتعني أحيانا التعصب للمذهب”.
وهل يبقى للطائفية موطئ قدمٍ في النداء الحواري القرآني؟! فقيمة الحوار من القيم الحضارية الإسلامية العليا، حيث سُطرت قيمة الحوار في القرآن الكريم مع أهل الكتاب من نصارى نجران الذين جاؤوا إلى المدينة لمحاورة النبي صلى الله عليه وسلم في الدين، فخاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ” أي تعالوا يا أهل الكتاب إلى كلمة عدل بيننا وبينكم لنتحاور، يستوي الجميع في الحوار، ولا يفرض أحدٌ دينه وموقفه ورأيه على أحد، أما مادة الحوار “أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا”، هذا هو منطلق الإسلام ودعاة المشروع الإسلامي في الحوار مع كل الأطراف والأديان والجماعات والتوجهات، فلا مكانة للحميَّة الجاهلية، ولا للأنفة، ولا للتعصب القبلي، ولا للفئوية ولا للنزعة الحزبية الضيقة، حوار مفتوح دون شروط مسبقة، تُقابَل فيه الحجة بالحجة، ولا يُكره أحدٌ من غير المسلمين عليه، هكذا هو الحوار الإسلامي الحضاري الإنساني مع الغير، أمّا استقراء التاريخ الغربي ومقارنته بالتاريخ الإسلامي ومن ثم اسقاطه عليه من الوجهة العَلمانية المادية، هذه محاولة غير موفقة، ولا تُقبل كمُسَلَّمات، تحتاج إلى مراجعات علمية لما تحتويه من تجاوزات تاريخية عقدية وفكرية، ونظام الحكم الإسلامي شمولي، جاء من عند الخالق لينظم شؤون الناس الحياتية، ويُسيرها نحو الأمن والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني والصحي والعلاقات الدولية.
خلاصة القول: إننا لا ننكر أن تكون الطائفية متمثلة في تنظيمات كتنظيم الدولة، والسلفية المدخلية التي انحرفت عن مسار الأمة الإسلامية، وفي الفرق الشيعية، كالإسماعيلية، والقرامطة في الماضي، والعلوية، فهي فِرَقٌ قد ارتدَّت عن الإسلام، وليست من الإسلام في شيء بإجماع الأمة.
وهكذا هي “الطائفية” كمصطلح عصري بمفهومها الإسلامي: فهي تعني الحميَّة الجاهلية، والكِبْر والأنفة ورفض الحق، والتعصب لقوم بتسميتها ب”القومية” الحداثية، أو لفئة فتسمى الفئوية، أو لحزب فتسمى بالحزبية، أو لمذهب فتسمى بالمذهبية، أو لقبيلة فتسمى بالقبلية، لكونها المحرك السياسي والاجتماعي للفرد وللجماعة في إطار مصلحي ذاتي ضيق مُفرِّق، لا تعرف للعدالة قيمة، وأما أن يجيء من يجيء بالطائفية للتنظير أو جعلها مُسَلَّمات في الصراعات الاجتماعية والسياسة بمفهومه العَلماني الغربي لإلصاقها بالإسلام وحَمَلَة المشروع الإسلامي الحضاري، كقوله: “والخطاب الديني السياسي الشعوبي للحركات الإسلامية…” ص43، وبقوله هذا، هو يُميط اللثام عن تعصبه َللعَلمانية تجاه المشروع الإسلامي وحملته (وسنرد عليه لاحقا)، علمًا أن روح الإسلام وشرائعه وقيمه العقدية والسلوكية كقيمة العبودية والتقوى، والرحمة والتكافل والبِر، والعدالة، والشورى، والعلم والحلم، والأناة، والتواضع، والحوار، والإيثار، والانتماء للأمة، هي القيم التربوية القيمية التي تُعبر عن الرُقيّ الحضاري، مما يستدعي وجوب وحدة الأمة الإسلامية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى