أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

صحيفة “المدينة”، بيت المبدعين.. الطبيب الرياضي الصحفي

توفيق محمد

وأنا أتصفح أرشيف صحيفة “المدينة” في سنته الأولى قبل أيام، وقع نظري على خبر عن فريق كرة السلة الفحماوي منشور يوم 2.11.1992، والذي لفت نظري في الخبر ليس الخبر ذاته بقدر ما كان الصحفي الذي كتب هذا الخبر، وهو اليوم يشغل منصبا رفيعا في خدمة لجمهور، وكان هو واحدا من كثير من القياديين الذين مرّوا عبر بوابة “المدينة”.
كانت تلك الفترة تعج بالصحافة الورقية المكتوبة القطرية، وكان قسم منها يوزع مجانا، لكن لم تكن الصحافة المحلية- وأقصد الخاصة ببلد دون آخر- قد أخذت حيزا في البلدان المختلفة، إذ أن ذلك يحتاج جهدا خاصا حتى يتم إنتاج صحيفة محلية، ولا أقصد جهدا ماليا إذ كانت الإعلانات كفيلة بأن تمول أي صحيفة محلية في حال صدورها، فلم تكن وسائل التواصل الاجتماعي التي استولت على سوق الإعلان اليوم قد ظهرت، بل لم تكن مواقع الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي استولت على هذا السوق في الفترة التي سبقت وسائل التواصل الاجتماعي قد ظهرت أيضا، بل كان الإنترنت بطيئا إلى درجة كبيرة جدا إذ كان في حينه في بداية تحويله إلى وسيلة شعبية، كل ذلك جعل من الصحافة الورقية عنوان المعلنين، كان ذلك في مطلع العقد الأخير من القرن الفائت أي في بداية عام 1993 عندما بزغ فجر صحيفة المدينة المحلية، وكان من أهم المصاعب التي تواجه الصحيفة المحلية هو توفير المواد الصحفية أو قل الإعلامية التي من شأنها أن تملأ صفحات الصحيفة، خاصة إذا كانت هذه الصحيفة ملتزمة بقضايا شعبها وأمتها وبلدها الوطنية والدينية والأخلاقية، وغير مستعدة أن تنشر أي شيء لتملأ هذه الصفحات، ولديها خط سياسي وأخلاقي ووطني وديني ثابت يسعى إلى ترسيخ هذه القيم بين جمهور قرائها، ومن هنا فإن توفير هذه المواد الملتزمة بتلك القيم كان من الصعوبة بمكان، إذا علمنا أن الصحيفة المحلية كان عليها أن تلبي الحاجة الإعلامية المحلية لأم الفحم بمعنى أن المواد التي تعتمد نشرها يجب أن تعالج الشأن المحلي، وليس الشأن القطري في الداخل الفلسطيني، ولا الشأن الدولي أو الإقليمي المحيط بالوطن الجغرافي الذي نشأت فيه، فتلك حاجة تلبيها الصحافة القطرية والدولية والإقليمية، والفضائيات التي كانت يومئذ هي موضة العصر، حيث ظهرت مرة واحدة كالفقع وبكثرة جعلت من المعلومة متاحة بين أيدي الناس بسرعة البرق، ولذلك فقد كانت مهمة الصحافة المحلية حينئذ مهمة شاقة وصعبة إذا استذكرنا أيضا غزو السوق المحلي بمحطات التلفزة المحلية وهو ما عرف بمحطات “الكوابل” والتي بدأت أيضا بموجات مفتوحة تصل كل البيوت قبل أن يتم ضبطها بالاشتراكات لمن يريد.
في هذه الظروف بدأت صحيفة المدينة المحلية عملها بكادر صغير يعتمد غالبا على عدد محدود جدا من الصحفيين المبتدئين الذين يتوجب عليهم منافسة هذا الكم الهائل من الغزو الإعلامي الورقي منه والفضائي، المحلي والدولي، وتوفير مادة إعلامية تحاكي الشأن المحلي، وتعالج القضايا المحلية ليس علاجا إخباريا فقط، وإنما عليها أن توفر معالجات إعلامية لقضايا مجتمعية وسياسية مختلفة، ولذلك كان عليها أن تبحث عن الإبداع حتى تتمكن من إقناع القراء بالإقبال عليها.
أعتقد أن صحيفة المدينة التي أطفأت شمعتها الـ 29 قبل أيام وبدأت عامها الثلاثين، هي الأولى فحماويا وأعتقد الوحيدة قطريا التي نجحت بأن تجتاز هذه الأعوام كلها، وتبقى محافظة على صدورها وخطها الاستراتيجي قبل أن تتحول إلى صحيفة قطرية توزع في المثلث والجليل والنقب.
لقد نجحت صحيفة المدينة أيما نجاح في أن تعالج القضايا المجتمعية، وأن تثير القضايا التي تلامس الهم المجتمعي المحلي، فكانت أسبوعيا تفتح ملفات من صلب معاناة الناس كقضايا الفقر والبطالة والتعليم والرياضة المحلية وغير ذلك الكثير، وتمكنت من الدخول إلى البيوت بصحفييها وليس فقط بأوراقها وإثارة هموم الناس، وأن تفتح خطا مباشرا بين الناس، وبين السلطة المحلية بأن تثير القضايا التي تقلق الناس والتي لم تجد- ربما- بسبب عدم تمكن الناس من التوجه الى العناوين الصحيحة وربما بسبب مماطلات من بعض الموظفين، فكان الخط المباشر الذي افتتحته الصحيفة كفيلا بعلاج هذه القضايا بشكل مباشر، كما وتميزت الصحيفة بالتقارير المحلية التي كانت تبحث في خبايا المجتمع حتى أصبحت عنوانا معتمدا عند الناس، وكان لا يخلو بيت من عدد المدينة الأسبوعي، بل إن الأحياء التي ربما تنقطع المدينة أسبوعا عنها لسبب أو لآخر كان سكانها يتواصلون مع هيئة التحرير لتوفير عدد الأسبوع لها، بل إن المحال التجارية كانت تتسابق على توفير أعداد المدينة فيها لتوزيعها على زبائنها، وكان جمهور القراء يحجزون نسخهم عند أصحاب هذه المحال.
ليس ذلك فحسب بل إن الصحيفة أنشأت جيلا من الصحفيين المحليين، وكانت بيتا للطلاب الذين يعتزمون إتمام دراستهم الجامعية، إذ شكلت المحطة الأولى لهم بعد مرحلة الثانوية في طريقهم للالتحاق بالجامعات، وأستطيع أن أقول أن منهم اليوم من هو المحامي الناجح، والقاضي الناجح، ومدير المدرسة الناجح، والطبيب المتفوق، والناشط السياسي المتميز، وغير ذلك ممن كانت المدينة بيته الأول بعد المرحلة الثانوية، فيها بدأ بصقل شخصيته الاجتماعية والسياسية والقيادية، وهم اليوم قيادات في المجتمع الفحماوي يُفتخر بهم وبإنجازاتهم وبحاضرهم السياسي والمهني، ليس ذلك فحسب فقد كانت “المدينة” أيضا بيتا لكثير من المبدعين والشعراء منهم الشاعر المرحوم سهيل سليم يرحمه الله تعالى، ومنهم الشاعر المرحوم الحاج محمد أبو فارس خضور الذي كان يناديني بعد انتهاء دوام العمل، ويقرأ عليَّ من مطولاته الشعرية المنظومة نظما يستعصي على كبار شعراء اليوم والمكتوبة بخط يده الجميل الرائع بقلم رصاص، وبعد إذ ينهي قراءتها يمزق الورقة والقصيدة، ويترك في قلبي غصة كبيرة، ويقول: إن قصائدي عرائس وُلدت دون عرسان، ورغم محاولاتي المتكررة فقد استطعت أن أقنعه بنشر بعض عرائسه لتتزين بها صفحات المدينة، وكانت بيتا أيضا للمبدعين من رسامي الكاريكاتير مثل الأستاذ محمد وليد ملك الذي كان له زاوية أسبوعية في الصحيفة، وغيرهم من المبدعين في مجالات شتى ممن كانت المدينة بيتا لهم ولإبداعاتهم، أما بالنسبة لـ “المراسل” الرياضي الذي افتتحت به هذه المقالة فهو لاعب فريق كرة السلة في حينه الدكتور المبدع مدير قسم الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى “ايخلوف” الدكتور نضال مهنا، كل أولئك وغيرهم كانت المدينة بيتهم وصحيفتهم ولبعضهم كانت المدينة أولى خطواتهم للانطلاق نحو عوالم النجاح والإبداع.
في عامها الثلاثين من عمرها المديد أتمنى لها ولكادر التحرير المتميز الذي ما يزال يقوم على تحرير المدينة الغراء دوام التوفيق والتميز والنجاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى