مقالات

معركة الوعي (31).. الذيــــن قالــــوا “لا”! (10)

حامد اغبارية
مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.
***
أفغانستان – ربع قرن من المراغمة
قبل أن تقرأ ما يلي تذكّر: طالبان ليست تنظيما إرهابيا. وبن لادن لم يكن عميلا لأمريكا. كن على حذر في التعاطي مع سموم الإعلام الغربي المضلل. هذا الإعلام بإيعاز من قوى السيطرة يمكنها أن تحوّل نتنياهو إلى إرهابي وتأليب الدنيا كلها ضدّه، إذا اقتضت المصلحة ذلك. واحرص ألا تغتر بأضاليل إعلام الأنظمة العربية القامعة. فهي لا تريد لهذه الأمة أن تنهض. أنت تملك عقلا، فلا تترك لأحد مجالا للسيطرة عليه وتوجيهه إلى حيث يريد.
قد تختلف –كمسلم- مع منهج طالبان وتعاطي تنظيم القاعدة مع الأحداث وأسلوب عملها على الأرض والمنهج الفقهي الذي سارت عليه، ولكن لا تقع في فخ أعداء الأمة، فتتحول من حيث تدري أولا تدري إلى سهم يغرزه الأعداء في جسد الأمة.
***
رغم مرور عقدين من الزمن على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في أمريكا، وتوافق إعلام إمبراطوريات فسطاط الشر على أن مسؤولية الحدث تقع على عاتق تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، إلا أن النقاش حول المسؤول الحقيقي لا يزال حيا “يُرافِس” و “يلبُط” حتى اليوم.
لقد شكل ذلك الحدث الضخم مبررا لشن حربين من أقذر الحروب التي شنها الغرب بقيادة أمريكا في التاريخ المعاصر: الحرب على العراق، وقد سبق وتحدثنا عنها في مقال سابق، والحرب على أفغانستان.
كانت أفغانستان قبل ظهور حركة طالبان قد أوجعت الاتحاد السوفييتي وأثخنته بجراح دامية حتى اضطرته إلى الخروج من أرض إسلامية يجرجر أذيال الهزيمة مذموما مدحورا. وقد ظهرت حركة طالبان على خلفية الحرب الأهلية التي شهدتها أفغانستان بعد طرد السوفييت، وتمكنت خلال فترة قصيرة من السيطرة على العاصمة كابول وترسيخ حكمها في البلاد. وفور إعلان الحركة أنها ستبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية (على المذهب الحنفي) جُن جنون فسطاط الشر، الذي ينطلق من استراتيجية منع قيام نظام إسلامي مخالف لسياساته في أي مكان في العالم. وأزعُم أنه على هذه الخلفية فقط شُنَّت الحرب على أفغانستان، وأما كل ما قيل ويقال فكان مجرد مبررات لأقناع الرأي العام العالمي بضرورة الحرب تحت شعار “محاربة الإرهاب”، وإلا فإن ذلك الفسطاط لم يكن ليجرؤ على التصريح علانية بأن سياساته مبنية على العداء للإسلام ومنع ظهور أية قوة يمكنها أن تفتح الباب وتهيئ الأسباب لعودته كنظام حكم. وقد كان شعار “محاربة الإرهاب” في حقيقته حربا طاحنة على أهل الإسلام سعيا إلى تعطيل صعود قوتهم في مناطق مختلفة من المنطقة الإسلامية.
كان مجرم الحرب وقائد الحملة الصليبية المعاصرة على العالم الإسلامي جورج بوش الابن قد صرح في حينه أن حركة طالبان تؤوي أسامة بن لادن، وأن عليها أن تسلمه لواشنطن بصفته المسؤول عن هجمات أيلول وإلا فإنه سيشن عليها حربا طاحنة لا هوادة فيها. وكان بوش يعلم أن طالبان لن تسلم بن لادن، وهو في الحقيقة لم يكن يريدها أن تسلمه، بل كان يريدها أن ترفض التسليم حتى يعلن حربه القذرة. ثم تدحرجت كرة الثلج وبدأ البيت الأبيض يتحدث عن نشر الديمقراطية وخلق شرق أوسط جديد من خلال ما سماه “الفوضى الخلاقة”. ولم يكن هذا كله سوى مجرد غطاء ناعم لحقيقة هذه الحرب الصليبية على أفغانستان، مثلما على العراق.
وقد اعترفت كونداليزا رايس، وزيرة خارجية بوش عام 2017 في حوار صحافي بأن الحرب على العراق وأفغانستان لم تكن من أجل نشر الديمقراطية وإنما للإطاحة بنظام صدام حسين ونظام طالبان لأنهما يخالفان سياسة واشنطن ويهددان مصالحها في المنطقة. إذاً لم تكن هجمات 11 أيلول 2001 سوى تلك الصدمة القوية التي سحرت أعين الناس واستُخدمت وسيلة لصرف أنظار الرأي العام العالمي عن حقيقة الأمر. ولو لم تقع تلك الأحداث في نيويورك لوجدت أمريكا مبررات أخرى لغزو هذين البلدين، اللذين اختارا مصادمة المخرز الأمريكي، وقررا أن يقولا “لا” للتبعية، و “لا” للخضوع” و “لا” للذل والمهانة في سبيل إرضاء أمريكا وتمهيد الطريق أمامها للتوغّل أكثر والتغوّل أكثر في المنطقة.
كانت واشنطن قد نجحت عام 2000 في استصدار القرار 1333 من مجلس الأمن الدولي والذي قضي بفرض عقوبات على أفغانستان تحت حكم طالبان “لأنه يسمح باستخدام أراضي أفغانستان كقاعدة لتنظيم القاعدة لتنفيذ عملياته ضد المصالح الغربية”. وكان هذا القرار مقدمة لما سيأتي. وما أن “وقعت” أحداث أيلول في نيويورك حتى سارعت واشنطن إلى إعلان الحرب على أفغانستان. وقد بدأت هذه الحرب خلال ثلاثة أسابيع فقط!! وهذا توقيت لافت للنظر ومثير للتساؤل: هل يمكن التحضير لحرب كتلك التي شنت على أفغانستان وسعت إلى تدميرها تدميرا شبه كامل خلال ثلاثة أسابيع فقط، مع الأخذ في الاعتبار بُعد المسافة بين واشنطن وكابل؟ حقيقة الأمر أن التجهيزات كانت قد بدأت للسيطرة على أفغانستان من لحظة خروج الاتحاد السوفييتي، ثم إشعال فتنة الحرب الأهلية بين الفصائل التي قاتلت السوفييت بالأمس، ثم صعود طالبان للحكم. فحشد كل تلك القوات ووضعه الخطط العسكرية والعمليات الاستخبارية الميدانية والمعلوماتية تحتاج إلى أشهر طويلة إن لم يكن أكثر من ذلك. فواشنطن لم تقدم كل تلك المعونات العسكرية للمجاهدين الأفغان في حربهم ضد السوفييت لتأتي طالبان وتعلن قيام نظام حكم إسلامي!
وفقط لتذكير الذي يساعد على قراءة الأحداث على حقيقتها: يوم الثلاثاء 11 أيلول 2001، بعد أقل من ساعتين على وقوع ذلك الحدث في نيويورك خرج شمعون بيرس، وزير خارجية تل أبيب يومها (في حكومة شارون) بتصريح ملفت قال فيه ما معناه إن القاعدة وأسامة بن لادن هما المسؤولان عن هجمات البرجين والبنتاغون. وقد صدر هذا التصريح حتى قبل أن “يفيق” جورج بوش من الصدمة المفتعلة. وهو نفسه شمعون بيرس صاحب نظرية “الشرق الأوسط الجديد”. هل اتضحت الصورة الآن؟؟؟
كان كل شيء مخططا له بدقة ومدروسا بحذافيره، ولم يبق سوى اختيار اللحظة المناسبة لتوجيه الضربة الأولى التي تعلن بدء الحرب، بعد أن توفرت لها الأسباب المعلنة والمبررات التي ستسوّق للرأي العام وإعداد خطة الحرب الإعلامية بكل تفاصيلها لترافق خطة الحرب العسكرية في الميدان. وكان عنوان المرحلة: شيطنة الإسلام من خلال شيطنة طالبان والقاعدة. وهذا ما كان.
تمكنت أمريكا وحلفها الدولي من الإطاحة بحكم طالبان، في أفغانستان، لكنها غرقت في الوحل الأفغاني حتى أذنيها. ولم ينته وجود طالبان الذي أوجع الاحتلال الأمريكي وأثخنه طوال سنوات وجوده هناك، حتى اضطرت واشنطن إلى الاستسلام للواقع، وأعلنت عن بدء التفاوض مع طالبان في محاولة منها لتحقيق ما لم تحققه في الحرب التي كلفتها ثمنا باهظا، ولم تحقق من ورائها ما سعت إليه. فإلي أين ستصل أمريكا؟ وكيف سيكون شكل المشهد الأفغاني مع عودة طالبان إلى الواجهة بقوة؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام القادمة في ظل متغيرات دولية متسارعة.
في نهاية المطاف فشلت أمريكا كما فشل الاتحاد السوفييتي. لكن المؤكد أن واشنطن لن تقف مكتوفة اليدين، ومن خلفها كل قوى فسطاط الشر ورأس حربته المشروع الصهيوني. فهذا المعسكر مصمم على ضرب أية قوة إسلامية تسعى للنهوض بالأمة. غير أن الأساليب قد تختلف ما بين حروب عسكرية ومعارك سياسية لا تخلو من المؤامرات ووضع الخطط البديلة التي قد تستدعي الضرورة إخراجها إلى حيز التنفيذ. (يتبع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى