هكذا عادت القدس وهكذا ضاعت وهكذا ستعود
د. انس سليمان احمد
بداية أؤكد أنه ليس بيني وبين كاتب هذه المقالة التي سأناقشها أي خلاف شخصي، ولذلك سأناقش أفكار هذه المقالة بغض النظر عن كاتبها الذي لا أعرفه أصلاً، رغم أنه كتب إسمه قرب عنوان هذه المقالة، ولا أرى من الضروري أن أذكر اسمه فهو ليس غايتي، بل غايتي مناقشة أفكار مقالته فقط كما هي مقالة بعنوان “الدين السياسي والثورة” كانت قد نشرتها صحيفة الاتحاد يوم الجمعة الموافق 17/7/2020، وسأرمز الى كاتبها بحرف (س) حتى لا يظن البعض أنني أناقش شخصه لأنه فلان المدعو كذا…، يقول) (س) في مقالته: “في أوروبا وقعت الكتب الدينية المقدسة في يد نقاد التاريخ في بداية القرن السابع عشر الميلادي مع بداية عصر التنوير والثورة الصناعية العلمية وكانت النتيجة الحتمية التي نفضت عن الكتابات المقدسة قداستها الغيبية ونفضت غبار التاريخ المتخلف عنها الذي دام الف عام في متاهات القرون الوسطى وعراها بعد أن كانت بالإضافة الى قداستها الاسطورية تحسب وكأنها كتابات تاريخية واقعية”!! ولن أناقش مؤقتا فحوى هذه الفقرة، إنما سأناقش دلالاتها في ظاهرها، حيث يتحدث (س) في هذه الفقرة عن أوروبا وعن الكتب الدينية المقدسة فيها أي انه يتحدث عن الإنجيل، ويصف الإنجيل في هذه الفقرة بقوله “ونفضت غبار التاريخ المتخلف عنه” ثم يصفه في هذه الفقرة بقوله “قداستها الأسطورية” أي الخرافية، مما يعني أن (س) يعطي لنفسه الحق بوصف الإنجيل تارة بالتخلف وتارة أخرى بالخرافة، فلماذا أجاز (س) لنفسه ذلك؟! سيما وأنه يتحدث في نفس هذه المقالة عن آفة ما سمّاه “فتنة دينية” وسيما أن (س) وغيره الكثير يحذر من (الطائفية)، فكيف أجاز (س) لنفسه أن يصف الإنجيل بهذه الأوصاف التي لا محالة قد تؤدي الى (فتنة دينية) وإخراج العصبية الطائفية من قمقمها؟! أرأيتم لو أن غير (س) من أبناء المشروع الإسلامي وصف الإنجيل بهذه الأوصاف لكان (س) أول من يتصدى لهذه الأوصاف وينعت كاتبها بالدعوة إلى (الفتنة الطائفية) و (عصبية طائفية)!! قد يقول (س) إنه أجاز لنفسه وصف الإنجيل بهذه الأوصاف من باب حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي؛ فلماذا يجمع (س) بين النقيضين في هذه المقالة، فهو من جهة يتذرع بحرية الفكر والتعبير عن الرأي ويصف الإنجيل بالتخلف والخرافة مما قد يتسبب بفتنة دينية وعصبية طائفية، ومن جهة أخرى فإن (س) يحذر في هذه المقالة من التسبب (بفتنة دينية)؟! أم ان ما يحق لـ (س) ومن يدور في فلكه لا يحق لغيرهم، وبذلك يحق لـ (س) ومن يدور في فلكه أن يلبسوا طاقية (حرية الفكر والتعبير عن الرأي) متى يشاؤون، أو أن يلبسوا طاقية التحذير من أية (فتنة دينية) أو (عصبية طائفية) متى يشاؤون رغم انهم غارقون فيها!! وماذا يعني ان يجيزوا لأنفسهم التسبب بفتنة دينية أو عصبية طائفية والتعجيل في نفس الوقت وإتهام غيرهم بالتسبب (بفتنة دينية) أو (عصبية طائفية)؟! أم أن لهجة التحذير عند (س) ومن يدور في فلكه من التسبب (بفتنة دينية) او (عصبية طائفية)؟! ما هي إلا من باب الاستهلاك الإعلامي ليس إلا. ولذلك يواصل (س) شنّ هجومه على الإنجيل بقوله في مقالته: “بدأ نقد ونقض النصوص اللاهوتية التي فسرت وجود العالم أسطوريا، بدأ الاهتمام بالتاريخ المادي الحقيقي للشعوب بعيدا عن القدسية العمياء التي أعمت البشر هناك أكثر من 1500 عام أيضا”!! فها هو (س) يتهم الإنجيل في هذه المقالة بقوله: ” النصوص اللاهوتية التي فسرت وجود العالم أسطوريا” أي تفسيراً خرافيا وفق إدعاء (س) لماذا؟! لأن الإنجيل يقول إن الله تعالى هو الذي خلق العالم، ولأن الإنجيل قال ذلك فقد فسّر وجود العالم تفسيرا خرافيا وفق إدعاء (س)، مما يبين لنا أن القول إن الله تعالى هو الذي خلق العالم هو قول خرافي وفق إدعاء (س)!! ولأن الإنجيل قد فسّر وجود العالم تفسيراً خرافيا لما قال إن الله تعالى هو الذي خلق العالم فإن قدسية الإنجيل وفق إدعاء (س) ما هي إلا “القدسية العمياء التي أعمت البشر هناك (أي في أوروبا) أكثر من 1500 عام”!! وهكذا يواصل (س) في هذه الفقرة التطاول على الإنجيل ووصفه بصاحب “القدسية العمياء التي أعمت البشر”!! وفي الوقت الذي يكتب فيه (س) كل ذلك فلا يزال هو ومن يدور في فلكه يحذرون من أية “فتنة دينية” و “عصبية طائفية” وهم غارقون فيهما حتى آذانهم!! وإلا ما هو المتوقع بعد أن يصف (س) الإنجيل بصاحب “القدسية العمياء التي أعمت البشر”؟! فأين ذهب تحذير (س) ومن يدور في فلكه من أية ” فتنة دينية” أو “عصبية طائفية”؟! ثم يواصل (س) هجومه بلا توقف على الدين المسيحي بقوله في مقالته: “نعم حدث هذا في الغرب وأدى الأمر إلى الثورة الفرنسية البرجوازية عام 1789م التي أنهت دور الدين في السياسة والفكر ووضعته بعيداً عن أعين وحياة الجماهير في الأديرة والكنائس والعقول المتحجرة الفردية”!! ففي هذه الفقرة كما هو واضح ينعت (س) من ظلوا متمسكين بدور الدين المسيحي “بالعقول المتحجرة” أي أن كل مسيحي متمسك بدور الدين المسيحي فهو صاحب عقل متحجر عند (س)!! لماذا كل هذا الهجوم على الإنجيل والمسيحية عند (س)!! إن من الواضح أن (س) أراد من وراء هذا الهجوم التمهيد للهجوم على القرآن والإسلام في سياق مقالته بوضوح وإن لم يصرح بذلك، فبعد هجوم (س) على الإنجيل والمسيحية في مقالته يقول (س) في المقالة نفسها: “ما حدث في الغرب لم يحدث في الشرق الذي يعاني قرون ظلام وسطى عربية منذ 1500 عام أيضاً”!! فالمقصود بكلمة “الشرق” في هذه الفقرة هي الأمة الإسلامية والعالم العربي، ولا يتردد (س) أن يصفهما أنهما عاشا “قرون ظلام وسطى عربية منذ 1500 عام أيضاً” أي أن الذي نسميه التاريخ الإسلامي العربي المجيد والحضارة الإسلامية العربية الزاهرة المتنورة هما في نظر (س) “قرون ظلام وسطى عربية منذ 1500 عام أيضا”، وهي القرون التي حكم فيها الإسلام وساد فيها حكم القرآن، أي أن الأمة الإسلامية والعالم العربي عاشا قرون ظلام وسطة وفق إدعاء (س) بسبب الإسلام الذي حكم فيهما وبسبب القرآن الذي ساد فيهما، أي أن الإسلام والقرآن في نظر (س) هما ظلام خيّم 1500 عام على الأمة الإسلامية والعالم العربي، ورغم أن هذا القول هو فرية تافهة لا تستحق الرد، إلا أن (س) وبعد أن هاجم المسيحية والإسلام والإنجيل والقرآن راح ينعت في مقالته الآخرين بالطائفيين؟! ولا أدري هل هناك أبشع من طائفية (س) التي دفعته للهجوم على الإسلام والقرآن بعد أن أنهى هجومه على المسيحية والإنجيل!! ولا ندري على من يضحك (س) بإدعاء حرية الفكر والتعبير عن رأيه لدرجة أنه يعتبر أن الإيمان بخالق هذا الكون هو تفسير خرافي لوجود الكون!! هل يضحك على نفسه أم على غيره وإلا:
1. هل نسي (س) أن العرب عاشوا في قرون ظلام وسطى قبل الإسلام والقرآن، ولم يتحرروا من ذلك الظلام إلا بنور الإسلام والقرآن.
2. هل نسي (س) أن أوروبا عندما كانت تغرق في ظلام القرون الوسطى كانت الأمة الإسلامية والعالم العربي ينعمان بحضارة إسلامية عربية حضارة علم واختراع وطب وفلسفة وأدب وفن وليت (س) يسأل علماء عصر التنوير والثورة الصناعية العلمية من أهل أوروبا لوجد المئات منهم يؤكدون فضل الحضارة الإسلامية العربية على أوروبا منذ مرحلة التنوير والثورة الصناعية العلمية.
3. ألا يعلم (س) أنه في الوقت الذي ضاعت فيه عزة العرب القومية بعد أن ضاعت القدس والمسجد الأقصى وبعد أن ضاعت فلسطين وسيناء والجولان والأغوار وجنوب لبنان كان الذي يجلس على كراسي الحكم في العالم العربي دعاة القومية وأما من سمّاهم (س) دعاة “الإسلام السياسي” فقد كانوا في السجون وعلى أعواد المشانق.
4. على هذا الأساس ألا يعلم (س) أنّ من فتح القدس على عهد الخليفة عمر رضي الله عنه هم “دعاة الإسلام السياسي” ومن حررها من الصليبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي هم دعاة “الإسلام السياسي” ثم من أضاعها بعد ذلك هم دعاة القومية.
5. ألا يعلم (س) أن العرب كانوا أذلة في ضلال مبين فأعزّهم الله بالإسلام والقرآن ونقلهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام والقرآن.
6. ألا يعلم (س) أن العرب ما ذاقوا عزة “الوحدة القومية” إلا بالإسلام، وما ذاقوا عزة “النهضة العربية” إلا بالإسلام، وما ذاقوا عزة “السيادة العربية” إلا بالإسلام، ثم ذاقوا ذل الفرقة والتخلف والإذدناب بعد وهن تمسكهم بالإسلام، والحاضر خير شاهد على ذلك.
7. ألا يعلم (س) أنه بمثل أفكاره التي تبذر بذور الفتنة الدينية والعصبية الطائفية والتطاول على مبدأ الإيمان بالله تعالى وعلى الإسلام والقرآن قد ضاعت القدس والمسجد الأقصى، وأنهما لن يعودا إلا بأحفاد جيل الفاروق عمر رضي الله عنه وجيل السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي.



