بين ذكرى محرقة رابعة وسجن الشيخ رائد صلاح
الشيخ كمال خطيب
لوجه الله أم لوجه ابليس؟!
في مثل هذا اليوم 14/8 من العام 2013 ولم تكن قد مضت إلا بضعة أيام على انتهاء شهر رمضان وعيد الفطر، وإذا بالدنيا تعيش على بث مباشر على وقع مجزرة ومحرقة يرتكبها الانقلابي عبد الفتاح السيسي بحق آلاف المعتصمين السلميين المصريين ممن رفضوا الانقلاب الذي قام به يوم 3/7/2013 وأطاح فيه بالرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي، وقام بسجنه وإخفائه، واغتصب الحكم في مصر ناقضًا للقسم الذي أقسم به على القرآن الكريم أن يكون وفيًا لمصر وقانونها ولرئيسها الذي اختاره آلاف المصريين رجالًا ونساء، صغارًا وكبارًا، عمالًا وفلّاحين وأكاديميين، إخوان مسلمين وغيرهم كانوا هدفًا لقناصة اعتلوا السطوح ولرشاشات طائرات هليكوبتر حصدتهم حصدًا، ولجرافات ومجنزرات عسكرية راحت تجرف كل ما تجده أمامها، جثث وجرحى، أجساد تفحمت بفعل النيران التي أشعلت في الخيام، ومن نجح بالهرب إلى داخل مسجد رابعة والذي تحول إلى عيادة ميدانية وسرعان ما تحول إلى مشرحة بفعل مئات الجثث والمصابين، وسرعان ما تم إشعال النار فيه، فمن أراد النجاة من الرصاص بالهرب إلى داخل المسجد فإنه وجد الموت ملاقيه حرقًا في داخله.
لقد كان هدف السيسي ليس إلّا منع جماعة الإخوان المسلمين التي انتخب مرشحها محمد مرسي للرئاسة من استمرار أداء دورها الذي اختارها له الشعب المصرى فى صناديق الاقتراع. فلم يكتف بقتل الآلاف منهم في محرقة ومجزرة رابعة، وإنما اعتقل ما يقرب من 70 ألف من قياداتها وأبنائها في سجونه وهرب إلى خارج مصر عشرات الآلاف إن لم يكونوا أكثر من ذلك.
علينا ألّا نذهب بعيدًا ولا ننتظر كثيرًا لنعرف دوافع المهمة القذرة التي قام بها الدموي السيسي، فيكفي أن نسمع إلى حالة الزهو والغبطة التي ظهرت على قادة المؤسسة الإسرائيلية في وصول السيسي إلى سدة الحكم لنعرف من يكون السيسي ولماذا فعل الذي فعله، ويكفي أن نسمع عن عشرات المليارات التي صبّتها عائلتي آل سعود وآل زايد لدعم السيسي وبمباركة بل وطلب أمريكي لنعرف من يكون السيسي.
إن شعار تخليص مصر من حكم الإخوان المسلمين وقطع الطريق عليهم حتى لا تنتقل التجربة إلى اليمن ولا إلى ليبيا ولا إلى بلاد الحرمين، فإن هذا الشعار قد ظهر وكأنه عمل محمود ومهمة مقدسة، وأنه قام بذلك الفعل ابتغاء وجه الله ولنيل مرضاته دون أي اهتمام ولا توقف عند آلاف الأرواح البريئة التي قتلها السيسي والأعراض التي انتهكها والأموال التي سلبها والعوائل التي شتتها. وكل هذا ومع الأسف كان بغطاء من مفتين وأدعياء علم باعوا دينهم بدنيا السيسي وزبانيته. وقد كتب رجل إلى ابن عمر رضي الله عنه يسأله عن العلم فكتب له: “إن العلم كثير يا ابن أخي، ولكن إن استطعت أن تلقى الله عز وجل خفيف الظهر من دماء المسلمين وأموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، خامص البطن من أموالهم، لازمًا لجماعتهم فافعل”.
فأي علم بقي عند مفتي الدم إن كانوا قد وقعوا في كل هذا، وأين هو وجه الله الذي أرادوه وقد وقعوا في ما حرّم الله على المسلم أن يقع فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”.
إن مثل السيسي وانقلابه ومحرقته في رابعة واغتياله الرئيس الشهيد محمد مرسي، وكل ما فعله من موبقات وجرائم يدّعي أنه عملها من أجل مصر ومصلحة شعبها، وكأن من قتلهم ليسوا من أبناء مصر ولا من شعبها وأن ما قام به كان لوجه الله وابتغاء مرضاته، فمثله كمثل قصة الإمام الأصمعي التي قال فيها: “كنت أمشي في السوق فرأيت رجلًا مرّ بحمّال مسكين يحمل سلة رمان، فاختطف منها رمانة وخبأها في ثوبه ومضى، تعجبت من ذلك.. ثم تبعت الرجل فبينما أنا خلفه إذ مرّ على مسكين يمد يده يسأل الناس، فأخرج الرمانة فناوله إياها ومضى، فتبعته وقلت له: يا هذا رأيتك اختلست رمانة من حمّال مسكين وأعطيتها ذلك المسكين!! فقال الرجل متعجبًا مني: أما علمت أنني أخذت الرمانة من الحمّال المسكين وكانت سيئة واحدة، فأعطيتها ذلك الفقير المسكين فأصبحت عشر حسنات؟! فقال له الأصمعي: أما علمت أنك اخذتها بغير حق فكانت سيئة وأعطيتها فلم تقبل منك لأنها حرام، والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا”.
إنه الدموي السيسي قد ارتكب مجازره بحق المصريين وما يزال يفرّط في حقوقهم في مياه النيل، وجعلهم حراس على إسرائيل ومصالحها، وتنازل عن جزرها تيران وصنافير لصالح مغرور مثله هو ابن سلمان، ويثير فتنًا في ليبيا وهو يزعم أن كل ذلك لمصلحة المصريين وأنه يتقرب إلى الله بخدمتهم.
لقد ورد ذكر الجاهلية في القرآن الكريم في أربعة مواضع تدل على أربعة معان. جاهلية فساد الحكم {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} آية 50 سورة المائدة. وجاهلية فساد العقيدة {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} آية 154 سورة آل عمران. وجاهلية فساد الأخلاق {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} آية 33 سورة الأحزاب. وجاهلية فساد المجتمع بإثارة العصبيات والقبليات على حساب أخوّة الدين والعقيدة {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} آية 26 سورة الفتح.
فكيف يكون السيسي يعمل لوجه الله من أجل مصر المحروسة وهو الذي وقع في فساد الحكم والدين والأخلاق وتقسيم الشعب المصري إلى المقولة التي رددها أنصاره “هم شعب واحنا شعب” في إشارة إلى الإخوان المسلمين والإسلاميين، وكأنهم ليسوا من الشعب المصري.
وليس هذا وحسب بل إن السيسي الدموي الذي ارتكب مجزرة ومحرقة رابعة في مثل هذا اليوم 14/8/2013 فإنه وإلى جانب دمويته ومجازره والمقاتل التي ارتكبها فإنه يعتمد الكذب أسلوبًا ومنهجًا سواء هو بشكل شخصي أو عبر أبواق إعلامه، وما أكثرها ليجتمع في السيسي الكذب والقتل الذي حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا أن بين يديّ الساعة الهرج. قيل وما الهرج؟ قال الكذب والقتل. قالوا: أكثر مما نقتل الآن؟ قال: إنه ليس بقتلكم الكفار ولكن قتل بعضكم بعضًا حتى يقتل الرجل جاره ويقتل أخاه ويقتل عمه ويقتل ابن عمه. قالوا: سبحان الله ومعنا عقولنا؟ قال: لا، إلّا أنه ينزع عقول أهل ذلك الزمان حتى يحسب أحدكم أنه على شيء وليس على شيء”.
إن جرائم السيسي بحق الشعب المصري خاصة والشعوب العربية والإسلامية كما هو دوره القذر في ليبيا وفي حصار غزة وفي دعم بشار وفي اليمن والسودان للتي تؤكد على المهمة التي أوكلت إليه.
صحيح أن سبع سنوات عجاف قد مرّت على مصر منذ 2013 وحتى 2020، وصحيح أن السيسي ما يزال يخاطب المصريين بمنطق فرعون {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} الذي يتظاهر فيه بالحرص على المصريين دينهم وأموالهم من الإخوان المسلمين كما ادّعى فرعون على موسى {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.
ليس أنني أشك لا سمح الله من زوال ملك السيسي ونهاية عصر الظلم والجور الذي بدأ به، ولكنني أكاد أجزم أن دور السيسي لم ينته بعد بانتظار ممارسات سيقوم بها في خدمة إسرائيل وآل سعود، وهي بالتالي لوجه إبليس يستحق من خلالها أن تكون نهايته نهاية غير عادية، وزوال ملكه سيكون غير مألوف تتلائم مع حجم القذارة والفساد والظلم الذي مارسه، وليكون بذلك آية وعبرة.
حاشى الله سبحانه أن تضيع دماء شهداء رابعة ولا دم الشهيد الرئيس محمد مرسي، وإنما هي الأيام لا يعلمها إلّا الله سبحانه ولا أظنها بعيدة فيها سيفرح المصريون بل كل العرب والمسلمين بزوال طاغية ظالم ظنّ أن الدنيا قد ابتسمت له وما عرف لجهله أن ذلك إنما هو استدراج للحظة التي فيها سيأخذه الله ولا يفلته في مشهد وظرف يظل للأجيال آية وعبرة .
# أخي أنت حرّ بتلك القيود
صباح يوم بعد غد الأحد 16/8 هو اليوم الذي سيدخل فيه أخي فضيلة الشيخ رائد صلاح إلى السجن لقضاء محكومية مدتها 17 شهرًا قررتها المحكمة الإسرائيلية الظالمة التي باتت وبلا رتوش ذراعًا لظلم السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية الإسرائيلية.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي فيها سيدخل الشيخ رائد السجن، ولكن السجن هذه المرة يأتي بعد فترة تغييب متعمد، وتحييد خبيث عن المشهد والواقع السياسي والاجتماعي الذي يمرّ به شعبنا وتمرّ به قضيتنا، هذه الفترة التي بدأت منذ يوم اعتقاله في مثل هذا اليوم 14/8/2017، فكانت ثلاث سنوات بالتمام والكمال قضى منها أحد عشر شهرًا في سجن فعلي ظالم، بينما قضى ما تبقى في حبس منزلي أكثر ظلمًا وها هو سيقضي الآن سبعة عشر شهرًا خلف القضبان.
ليس أننا لا نخاف على الشيخ رائد من عتمة السجن ولا من وجه السجان الأغبر، وإنما نحن الواثقون المطمئنون إلى أن فترة السجن ستزيد من صلابة الشيخ رائد وقناعته بالقضية التي دافع عنها وأفنى في خدمتها زهرة شبابه وسيمضي لأجلها سحابة عمره.
نعم ليست كل الطيور تعلف ولا كل الرجال يثبتون عندما يساومون على مبادئهم ترغيبًا وترهيبًا، وأن أخي الشيخ رائد من الطراز الذي تزيده المحنة إصرارًا بل إنها التي ستتحول بإذن الله ورحمته إلى منحه مباركة.
نعم سيخرج أخي الشيخ رائد من سجنه مرفوع الهامة، عالي القامة، سيخرج ومتغيرات كثيرة تكون قد طرأت ومرّت بها قضية شعبنا وأمتنا بل والعالم أجمع، وهي بيقين ستكون إلى الفرج أقرب بإذن الله تعالى.
نعم سيخرج أخي الشيخ رائد ونحن أقرب إلى أن تكون المعادلة قد تغيّرت، فليس القوي سيظل قويًا إلى الأبد ولا الضعيف سيظلّ ضعيفًا إلى الأبد، ولا السجّان سيظلّ سجانّا ولا المسجون سيظلّ سجينًا، بل لعله بكره السجّان راح يقلك يا سيدي، بل ويقبّل يديك ورجليك، فصبرًا أخي ولا بأس عليك.
وإنني أهديك بعض أبيات الشهيد سيد قطب كان قد أرسلها لإخوانه خلف القضبان في سجون عبد الناصر، هؤلاء السجناء أو الذين قضوا منهم شهداء ممن الشرف كل الشرف أننا على نهجهم ومن معين مدرستهم قد نهلنا:
أخي أنت حرٌ وراء السدود أخي أنت حرٌ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصمًا فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجرٌ جديد
فأطلق لروحك أشواقها ترَ الفجر يرمقنا من بعيد
قد اختارنا الله في دعوته وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم ومنا الحفيظ على ذمته
أخي فامض لا تلتفت للوراء طريقك قد خضبته الدماء
ولا تلتفت ها هنا أو هناك ولا تتطلع لغير السماء
فلسنا بطير مهيض الجناح ولن نستذل أو نستباح
سأثأرُ لكن لربٍ ودين وأمضي على سنتي في يقين
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
ستدخل أخي الشيخ رائد وأنت تردد ما ردده أخوك ونبيّك يوسف {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ}. إنهم يدعونك للسير في قافلة العبيد والمساومين والمفرّطين من أدعياء الواقعية والبراغماتية، وأنت تدعو للحفاظ على الثوابت وعدم التفريط مهما كان الثمن.
نستودعك الله الذي لاتضيع ودائعه، فعينه ترعاك ورحمته تغشاك، وكتابه وذكره أنيسك وسلواك.
لا نقول وداعًا ولكن إلى اللقاء.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولأخي الشيخ رائد ولوالدينا بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون



