أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةعرب ودوليمنوعات

كيف يحدد اختيار الميدان والشارع نجاح الاحتجاجات أو فشلها؟

يمكن لجغرافية المدن أن تساعد أو تؤكد نجاح حركة الاحتجاج أو تثبطها.
نشر بيتر شوارتزشتاين تقريرًا في مجلة سميثسونيان حول تأثير جغرافية المدن على نجاح أو فشل حركات الاحتجاج. ويرى الكاتب أنه في إطار الصراع الأزلي بين المحكومين الساخطين والحكام المستبدين، تعمد بعض السلطات إلى تغيير جغرافية المدن حتى يصعب العثور على أماكن مفتوحة يمكن أن تكون أرضًا للاحتجاج، بل إن بعضها يعمد أحيانًا إلى نقل مركز السلطة بعيدًا عن أماكن الاحتجاجات مثلما حدث عندما نقل العسكر في بورما العاصمة من يانجون إلى مدينة قليلة السكان، أو ما يحدث في مصر الآن من نقل العاصمة إلى الصحراء.

كيف تختار ساحة مثالية للاحتجاج؟
ويستهل الكاتب التقرير بقوله: إذا أمكن للمحتجين أن يخططوا لمسرح مثاليّ للتعبير عن مظالمهم، فربما يختارون مكانًا على غرار أثينا باليونان. ذلك أن الطرق الواسعة، وان لم تكن طويلة، التي تقع في وسط المدينة تبدو كما لو كانت مصممة خصيصًا للاحتشاد الاستعراضيّ.
وتمثل الساحة الكبيرة التي تواجه البرلمان، والمعروفة باسم ميدان سينتاجما، نقطة محورية طبيعية للمحتجين. ومع وجود متاهة من الشوارع الضيقة التي تحيط بوسط المدينة، بما فيها حي إكزارشيا المتمرد، يكون من السهل إلى حد كبير على المتظاهرين أن يتسللوا خفية حين تسوء الأمور.
أما لوس انجلوس، فعلى النقيض من ذلك، تمثل كارثة للمحتجين. فليس لها وسط مدينة معروف تمامًَا، إلى جانب مسافات قليلة للسير، ولا يوجد سوى القليل من المساحات الصديقة للمحتجين. وما يثير اهتمام المحتجين في المدينة من زمن هو أن مجرد جمع حشود صغيرة يمكن أن يكون إنجازًا في حد ذاته.
يقول المنسق العام في مجموعة «الدولية التقدمية» السياسية الجديدة، ديفيد أدلر: «في الواقع، لا يوجد مكان يمكن أن تذهب إليه؛ فالمدينة مبنية بشكل يجعلك في المدينة، ولكنك لستَ فيها. يعتمد الاحتجاج على حشد مجموعة كبيرة من الناس، لكن هذا يتعارض مع طبيعة لوس أنجلوس».

سحر التصميم الحضريّ.. الفيصل بين الهروب والاعتقال
يضيف الكاتب: من بين المزيج المعقد للأجزاء المتحركة التي توجه حركات الاحتجاج، قد يبدو التصميم الحضري عنصرًا هامشيًا إلى حد ما. ولكن حاول أن تقول ذلك للمحتجين من هيوستون إلى بكين، وهما مدينتان لهما سمات جغرافية تعقد الاحتجاجات الشعبية.
فالكثافة السكانية المنخفضة يمكن أن تحبط المشاركة الجماعية. ويمكن أن تحرم المساحات العامة المحدودة المحتجين من الرؤية، ومن ثم الزخم الذي يحتاجونه للحفاظ على استمراريتهم. وعندما تتحول الإجراءات إلى الارتباك أو العنف؛ تكون الأزقة والحدائق والطرق التي تشبه المتاهات بين المناطق السكنية هي الفيصل بين الهروب والاعتقال.
وأكدت الاضطرابات الأخيرة في الولايات المتحدة على هذه الأهمية الجغرافية، في حين أظهرت أيضًا الطرق التي يمكن بها أن تغذي البيئات المبنية بطريقة غير مُرضية مظالم لا علاقة لها بها في الظاهر. فالمدن التي بها أماكن عامة صغيرة أو منظمة على نسق واحد مثل نيويورك، شهدت بعض أشرس الاشتباكات، عندما تحركت الشرطة لتطبيق حظر التجوال وفرض القيود الأخرى.
والمدن التي بها قلة من نقاط التجمع الطبيعية وامتداد هائل مثل «فينيكس» (في ولاية أريزونا) غالبًا ما تحول أصلًا دون تجمع السكان بأعداد كبيرة. أما المدن التي تنقسم إلى أحياء متشظيّة، التي يسود فيها الفصل العنصري، مثل مينيابوليس، فتبدو ذات حساسية مفرطة تجاه الاحتجاج في المقام الأول.

تخطيط الساحات العامة.. صراع بين المستبدين والساخطين عمره ألف عام
يقول الأستاذ في جامعة واشنطن ومدير مختبر التطوير الحضري في الجامعة، جيف هو: «عندما ترغب في تنظيم احتجاج، عليك أن تحدد مكانًا، وعليك أن تفكر في طرق الدخول، وحتى مدى ضخامة الاحتجاج. أحيانًا يكون الناس على وعي بهذه القيود، وأحيانًا ما يكونون أقل وعيًا. ولكن إذا كنت تحتج؛ فإن التصميم الحضري سوف يفرض نفسه في مكان ما على طاولة التخطيط».
وطبيعة الساحات العامة كانت على الدوام سياسية إلى حد بعيد، وبصورة ما تعد الاحتجاجات المعاصرة هي الفصل الأخير في صراع مضى عليه ألف عام بين الحكام والمحكومين.
منذ اندمج البشر في المدن منذ حوالي 4 آلاف عام قبل الميلاد، كان التصميم الحضري يعكس إلى حد كبير هياكل وأولويات القوة السائدة، مع كل التأثيرات الثانوية التي تصاحب ذلك وتلقي بظلالها على الأشخاص العاديين.
كانت الساحة العامة في أثينا القديمة، حيث كان الناس يتجمعون في ظل الأكروبوليس، هي تعبير عن الديمقراطية المبكرة. وكانت أرض تنفيذ الإعدام العامة في تيبرن Tyburn في لندن، حيث كان يعدم العديد من السجناء الإنجليز حتى أواخر القرن الثامن عشر، ترمز إلى سيطرة الدولة.
ومن الأمور الشهيرة أن باريس أعيد تصميمها جزئيًا على يد البارون هوسمان منذ ستينات القرن التاسع عشر لتسهيل تحركات الجنود عبر مدينة تعتبر تاريخيًا سريعة الغضب، كما عمل على تحديث وتجميل جوهر المدينة الذي يعود إلى القرون الوسطى. وتصميم هوسمان يعد مثار إعجاب السياح حتى اليوم إلى حد كبير.

أحيانًا تكون الطرق السريعة هي أفضل مكان للاحتجاج
ولكن الأمر الملحوظ، ربما بشأن المظاهرات المستمرة في الولايات المتحدة والمظاهرات العديدة في الخارج هو المدى الذي يمكن أن يحدد به التصميم الحضري المختلف نجاح الحركة، وحتى في بعض الأحيان الدفع إلى نتائج مختلفة للمظالم نفسها.
في المدن الواقعة في الغرب الأمريكي، مثل لاس فيجاس ومدينة سولت ليك حيث تعد السيارات هي وسيلة التنقل ذات الشعبية الكاسحة، يحاول المحتجون إثارة الزخم بين الأحياء المتفرقة وشبكات الطريق السريعة الشاسعة التي تسهل السيطرة عليها بسهولة.
كيف يمكن على سبيل المثال لمنظمي الاحتجاج أن يُحركوا مسيرة، أو للمتظاهرين أن ينظموا اعتصامًا، في حين يتعين عليهم أن يتغلبوا على مثل هذه الشواغل المادية مثل استعادة السيارات المتوقفة بعيدًا، أو في ظل الافتقار إلى مناطق رمزية يمكن الوصول إليها لاستهدافها؟ والنتيجة هي أن الناس لم يشعروا بأنهم يمكن أن يجعلوا وجودهم محسوسًا، إلا على الطرق السريعة نفسها فقط، كما حدث بعد مقتل ترايفون مارتن في عام 2012.
يقول ستيفانو بلوك، خبير الجغرافيا الثقافية في جامعة أريزونا، ومؤلف كتاب «المرور في المدينة بأكملها: الصراع والبقاء في الثقافة التحتية للجرافيتي في لوس أنجلوس» Going All City: Struggle and Survival in LA’s Graffiti Subculture: «تقاطعات الطرق هي أقرب الأشياء لدينا لساحات المدن. ولذا يعرف المحتجون ذلك، وهم يحتاجون إلى الوصول إليها مربعًا بعد الآخر». وبقيامهم بذلك «فإنهم ينتزعون الشوارع أيضًا من السيارات ويعيدونها إلى الناس». وحين يبدو أن المحتجين قد تغلبوا على هذه الحواجز الجغرافية، ليتجمعوا بقوتهم العددية داخل العديد من الأحياء، ربما يكون شهادة على عمق المشاعر الحالية.
في الساحل الشرقي، يواجه المحتجون في الغالب تحديات مختلفة، وإن تكن موهنة للعزيمة أحيانًا بالقدر ذاته. لأنه في حين قد يتاح لهم التنقل بأعداد هائلة، بين الأحياء الأكثر اكتظاظًا بالسكان والمسافات الأقل عرقلة لمسيرتهم، فإنهم غالبًا ما يفتقرون إلى الوصول إلى أرض عامة كبيرة أو قابلة للاستخدام.
بمعنى آخر يمكن أن يكون من الأسهل إثارة نوع التجمعات التلقائية الكبيرة التي تعتمد عليها المظاهرات بصفة عامة، ولكن سيكون من الصعب استدامتها بعد الانطلاقة الأولى. وكانت مظاهرات احتلوا وول ستريت مثالًا على ذلك. إذ كافح المحتجون في النهاية وسط قيود مطبقة بصورة عدوانية لاستخدام زاكوني بارك، وهي واحدة من الأماكن المفتوحة الأساسية في الحي المالي.

لماذا فشلت جهود تفريق المحتجين في القاهرة والخرطوم؟
عبر العالم، وخلال الانتفاضات المتكررة التي اتسم بها العقد الماضي، كانت هناك قصة مماثلة للجغرافيا الحضرية كعامل مساعد أو معوق للاحتجاج. وربما يُفَسَّر النجاح الأولى لثورات الربيع العربي في القاهرة عام 2011 جزئيًا بالحجم المضغوط نسبيًا للمدينة.
ويعيش حوالي 75% من سكانها الذين يزيدون على 20 مليون في نطاق تسعة أميال من ميدان التحرير، وفقا لما يذكره ديفيد سيمز وهو خبير في التخطيط الحضري المصري في كتابه «فهم القاهرة» Understanding Cairo. هذا يعني أنه كان من الممكن الوصول إلى الميدان على الأقدام حتى بعد إغلاق الطرق والسكك الحديدية.
وأدت الطبيعة الشاسعة للخرطوم عاصمة السودان على ما يبدو إلى إحباط قوات الأمن في العام الماضي أثناء محاولتهم – التي فشلت في نهاية المطاف – تفريق المعارضة لعمر البشير، الديكتاتور الذي حكم طويلًا. ومهما كان عدد المساحات المفتوحة التي أخلوها أو الميادين التي أغلقوها، فقد كانت هناك على الدوام أماكن لتتجمع فيها الحشود.

طبوغرافية قاسية.. العاصمة الجزائرية غير صديقة للمحتجين
على العكس من ذلك، يبدو أن المظاهرات المستمرة ضد النظام المتحجر في الجزائر تعاني من الطبوغرافية الحضرية القاسية. وبتلالها المنحدرة وشوارع وسط المدينة الضيقة والعدد القليل من الساحات الكبيرة فيها، لم تقدم عاصمة الجزائر لسكانها الساخطين أي ظروف مواتية.
وتقول كاهينا بوغاشي، وهي محامية جزائرية ومديرة منظمة غير حكومية وناشطة في مجال حقوق النساء: «إنها ليست مصممة من أجل المحتجين. هذه هي بنية المدينة. 60% منها تلال». وبفضل هذه الطبيعة، ربما وجدت الدولة حتى الآن سهولة في التغلب على الغضب الشعبي.

إعادة تصميم الساحات العامة للتضييق على المحتجين
ولا شك أن قلة من المخططين على ما يبدو انطلقوا لبناء مدن مقاومة للمظاهرات منذ البداية. ولكن السلطات التي أصبحت على وعي بتأثير التصميم، لم تتردد في إعادة هندسة المناطق الحضرية في غير صالح المحتجين.
وسلم مسؤولو البلديات في العديد من الدول الغربية قطع من الأراضي إلى شركات التطوير العقاري الخاصة، وجعل العديد منهم استخدامها متوقفًا على قواعد مشددة إلى حد بعيد. وأصبح ذلك واضحًا على نحو سافر عندما حاول تجمع «احتلوا لندن» وفشل في ترسيخ نفسه في العديد من المساحات العامة ذات الملكية الخاصة، قبل أن يستقر على درج كاتدرائية القديس بول.
وأعاد العديد من الدول تشكيل نقاط التجمع التقليدية على نحوٍ يعوق احتشاد أعداد كبيرة. ومن بين هؤلاء، قامت تركيا التي يقودها أردوغان بتغيير شكل ميدان تقسيم في إسطنبول عن طريق الحواجز ووجود معزز للشرطة، بعد سبع سنوات من استخدامه كمحور لمظاهرات جيزي بارك.
والأكثر إزعاجًا من الكل، ربما هي واشنطن العاصمة. إذ كانت طرقها الواسعة ومساحاتها المفتوحة الهائلة ترمي إلى أن تكون نقيضا للمدن الأكثر انعزالًا في أوروبا، ولكن القيود المزعجة التي فرضت منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول). غيرت الكثير من ذلك.
يلفت التقرير إلى الممرات الجديدة المحفورة حول نصب واشنطن والتي التهمت الكثير من المساحة حول قاعدته، حيث اعتادت حشود كبيرة التجمع في الماضي. وعزلت الجدران والأسيجة والحواجز الجديدة المتظاهرين عن المنشآت الحكومية الرئيسة. وأصبح تدشين مظاهرة قانونية في «ذا ناشيونال مول» أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
تقول ليزا بنتون – شورت وهي أستاذة الجغرافيا في جامعة جورج واشنطن ومؤلفة كتاب «ذا ناشيونال مول: مكان عام غير عادي» The National Mall: No :Ordinary Public Space «نظريًا أنت تحتاج إلى تصريح، وهي عملية معقدة، ولذا إذا كنت تحاول أن تنظم احتجاجًا فمن الصعب أن تتحرر من أسر هذه القيود. أعتقد أن ذا ناشيونال مول تمثل مساحة للاحتجاج أكثر من أي وقت آخر مضى، ولكن تنفيذ ذلك أصبح أصعب بالتأكيد».

نقل العاصمة.. عسكر مصر على خطا عسكر بورما
ولعدم استعدادهم لمواجهة أي مخاطر على الإطلاق، ذهب أكثر الطواغيت تسلطًا أشواطًا بعيدة لحماية أنفسهم من قوة الاحتجاجات. ونقلت الطغمة العسكرية الحاكمة في بورما عاصمة البلاد من يانجون الصاخبة إلى مدينة جديدة مهيبة ليس بها الكثير من السكان منذ عقد، وهو تحرك فسره مراقبون على أن دوافعه جزئيًا على الأقل هي الاعتبارات الأمنية.
كذلك فإن الديكتاتورية العسكرية في مصر، بحسب التقرير، التي تطاردها تجاربها منذ ثورة 2011، تفعل الشيء ذاته في الصحراء. وقامت نظم أخرى بتدشين ساحات للتظاهر مخططة بعناية. وهذه الأيام إذا رأيت جمعًا حاشدًا في إسطنبول، فمن المرجح إلى حد كبير أن يكون في ساحة يني كابي، حيث نظم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم تجمعات وصلت إلى مليون شخص.

دروس جديدة للمحتجين
في الصراع الدائم بين الدول والمواطنين الساخطين، لم يقف المحتجون مكتوفي الأيدي، بل تعلم المحتجون في هونج كونج أن يتجمعوا في مجموعات صغيرة، ويتفرقوا، ثم يتجمعوا في مكان آخر بمجرد وصول الشرطة. وتعلم منظمو الاحتجاجات في أماكن أخرى أهمية التركيز على حجم المحتجين.
وفي إشارة إلى أهمية الصورة البصرية في عصر تهمين عليه الوسائط الفائقة، اكتسبت المساحات المفتوحة الكبيرة أهمية أكبر، ولا سيما بين الجماعات التي ربما تجنبت من قبل بسهولة أراضي الاحتجاجات المتفرقة. يقول بلوك عن ذلك: «أن تكون مرئيًا تعني أن تكون مسموعًا».
والمحتجون الأمريكيون، الذين يعانون من الضيق والاستياء جراء صعوبة التجمع المتزايدة في نقاط محورية، مثل الساحات أمام مباني الكونجرس في الولايات، يبدو أنهم يبحثون أيضًا عن مواقع رمزية جديدة. ومنذ مقتل جورج فلويد في مينيابوليس، تجمعت الحشود مرارًا بالقرب من موقع الجريمة.
وبعد عقود من إحكام القيود، التي انكمشت خلالها المساحات العامة، أو تحولت واختفت، يشير الباحثون إلى أن التصميم الحضري سوف يصبح نفسه له تأثير أكبر على الاحتجاج خلال السنوات المقبلة. وإذا كانت الجائحة وعمليات الإغلاق التي أسفرت عنها قد أكدت للكثيرين على أي شيء فإنما أكدت على أهمية هذه الأماكن. حتى ولو كان دور الأماكن العامة في الحياة العامة يتناقص تدريجيًا.
يختم التقرير بقول جيف: «مع احتجاجات احتلوا وول ستريت وحياة السود مهمة، فإن ما رأيناه هو نوع من إعادة اليقظة. إنه نوع من البندول الذي يتأرجح إلى الخلف».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى