أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

المسجد الأقصى في العقلية الصهيونية

ومسائل الفرص التاريخية (3)
صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
الفرصة التاريخية كما أراها في سياق القضية الفلسطينية والقدس والمسجد الأقصى، هي تلكم اللحظات التي تسنح للاحتلال الاسرائيلي لفرض واقع جديد لصالحه مستغلا عديد الاحداث الجارية التي تصب كما يراها في مصلحة فرض رؤيته وقناعاته على أرض الواقع، والتي بالضرورة تنسجم مع موروثه الديني والايديولوجي فالاحتلال يستثمر تلكم الأحداث “السياسية” في جوهرها لصالح مشروعه الأيديولوجي، وبذلك يتم تسخير السياسة ومسارات التاريخ لصالح الفكرة الايديولوجية التي في جوهرها استعادة “أرض الميعاد” و”بناء الهيكل”.
كل الايديولوجيين على مسار التاريخ سخّروا حركة الحياة ومسارات التاريخ لصالح أفكارهم ومعتقداتهم بغض النظر عن صوابية هذه الأيديولوجيا، والقيم الناجمة عنها وتداعياتها عبر مسارات التاريخ. العقلية الصهيونية بشقيها الصهيوني-الديني والصهيوني-العلماني وما استحدث بعد ذلك من حاريدية صهيونية، كلها تعمل على تحقيق بناء الهيكل باعتباره الرمز النهائي المُؤَكِدْ للوجود اليهودي على هذه الارض والرمز الالهي على أحقية اليهود “التاريخية” على هذه البلاد وأنهم شعب الله المجتبى وإن وقعَ منه فسوق وفجور وانحلال وتعال على الذات الإلهية، فـ “والدهم” الذي في السماء يظللهم ويحميهم وما حدث معهم في عصور التيه هو إعداد للحظة الدولة وتطورها لتصل ذروتها “الاولى” ببناء الهيكل على جبل موريه ولو مرحليا إلى جانب المسجد الاقصى.

بين كورش وترامب
تشير الميثولوجيا الدينية اليهودية الى أنَّ كورش الملك البابلي الذي حرر “جزئيا” اليهود من أغلال النفي والعبودية وأعادهم كما كل الشعوب التي استعمرها البابليون وأجلوهم الى مملكتهم، وسمح بالحرية الدينية في مملكته على اختلاف انواع هذه الديانات، وسمح لليهود وبعون مباشر منه مادي ولوجستي ببناء معبدهم الثاني، أكد على قضيتين: فصل البُعد الإلهي عن السياسي وفصل الروحي ممثلا بالهيكل وسدنته وحرية التعبد عن السياسة واجراءاتها، فبعودتهم إلى يهودا لم تقم لهم مملكة، بل ظلوا تحت الراية الفارسية وسلطتها السياسية فيما منحتهم فارس حق التعبد، فاصلة الدين عن السياسة والرب عن الملك، وارتضت سدنة اليهود آنذاك بهذه المعادلة وفي هذا يقول يهشوع غرينبرغ في مقالته: ما وراء الخطيئة والعقاب: هروب التاريخ الإلهي: هل تم نفينا بسبب خطايانا وعودتنا بسبب توبتنا، مقالة لاهوتية حول الإله الضاحك نماذج تاريخية “في السياق الروحاني-الميثولوجي (الميثولوجيا: علم الاساطير أي العلم الذي يهتم بالقصص التاريخية الأسطورية القديمة التي يصعب تفسيرها والتوصل إلى فهم صحيح بشأنها، وذلك بسبب ما تتضمنه من تعقيدات في روايتها يتحقق معها عدم القدرة في التعرف على المعنى الحقيقي لها، وفي بعض الأحيان تكون واقعية حدثت بالفعل في الماضي، كما يمكن أن تكون خرافية لا أساس لها من الصحة، وتختص الميثولوجيا بما يلي: تاريخ نشأة أمة أو زوالها، الممارسات الثقافية والعادات والتقاليد الخاصة بمجتمع معين، الأفكار التي ظهرت في وقت معين ومكان محدد) حدث تغير عميق وفي اعتقادي ان أول من أحدثه كورش، فهو الذي فصَلَ بين المعبد والحكم وهو من أدى إلى فقدان المعبد دوره السياسي، بمعنى أنه كان سببا في فقدان الرب قوته السياسية، ففي عصر الهيكل الأول، تشابك مجد الرب ومجد الملك “السلطة” ومع سقوط الملك “السلطة” سقط الرب وعمليا كان هذا هو خراب “الهيكل”، بكلمات أخرى، ضرورات قيام الدولة تتطلب قيام المعبد “الهيكل” وهذا يتطلب قوة خارجية قوية تُسَخَرُ لتحقيق هذه الغاية الهامة، وهذا ممكن أن يتحقق مرة أخرى إذا تحققت الشروط الموضوعية لذلك، وفي مقدمتها وجود حاكم قوي ودولة قوية كدولة كورش-الامبراطورية الفارسية-التي هزمت مملكة بابل القوية وتستطيع أن تستحوذ على دول المنطقة في الجزيرة العربية والهلال الخصيب والشام كما فعل كورش من قبل وهو ما يتمثل في الولايات المتحدة كدولة وترامب كحاكم.
لذلك رأت الصهيونية العالمية فرصتها التاريخية في هذه الشخصية التي يمكنها أن تُحقق هدفها المرتجى الساعية إليه عدد عقود، عبر سيطرته على هذه المنطقة حيث بدأت هذه المسيرة خطواتها العملية أواخر القرن العشرين وتحديدا مع اندلاع الحرب العراقية-الايرانية في ثمانينات القرن الماضي والتي لا تزال آثارها إلى هذه اللحظات.

نتنياهو ملك إسرائيل الثانية ودرس باراك
يطمع نتنياهو أن يدخل في سجل حكام إسرائيل ليس كأي رئيس عابر فإذا كان بن غوريون مؤسس إسرائيل الأولى، وإذا كان ليفي اشكول فاتح الطريق نحو إسرائيل الثانية، فإن نتنياهو بوسعه أن يكون مؤسسها الفعلي، تأسيسا يقوم على موروث آباء إسرائيل، مستغلا المصالحة القائمة بين العلمانية الصهيونية والدينية اليهودية بكل مدارسها، ساعيا لاستثمار هذه الوضعية لتحقيق ما يسمى “حلم الآباء والأجداد”، هذا من جهة، ومستفيدا من نتائج الانتفاضة الثانية وظهور المدرسة الدايتونية الفلسطينية القائمة على تقديس التنسيق الأمني وتسليع القضية الفلسطينية بجعلها قضية اقتصادية عبر ما أسماه نتنياهو السلام الاقتصادي.
لا تكمن قوة نتنياهو ببرجماتيته السياسية فحسب، بل وباستثماره التقاطعات والتناقضات والمصالح الاقليمية لتحقيق بغيته الايديولوجية واستلهامه الدروس التاريخية لحكام اسرائيل وفهمه وفقا لأيديولوجيته الصهيونية الجابوتنسكية وتقاطعاتها اليهودية المسيحيانية، ويعتبر نتنياهو وكافة صناع القرار السياسي أن عامل الزمن وظرفية الأحداث جزء من اتخاذ القرارات الكبرى، فضلا عن ثقل التاريخ المحملة به جموع اليهود عبر التاريخ. في سياق مناقشات ميخائيل هرصغور استاذ التاريخ في جامعة تل ابيب وآهود فوكس استاذ نظريات الادارة واتخاذ القرار في جامع بن غوريون في كتابهما “لحظات تاريخية ولحظات هستيرية: قرارات في ظروف الأزمات”، يتحدثان عن حساسية المسجد الاقصى كنقطة اندلاع كبيرة يمكن أن تقلب الامور رأسا على عقب، إذا لم تتم القراءة الصحيحة للظروف والأحداث وتكون التقييمات أقرب ما يمكن الى الواقعية، فالتجربة التي خاضتها المؤسسة الاسرائيلية في الانتفاضة الثانية، انتفاضة الاقصى، تطلبت تدخلا عربيا أمريكيا لحماية بيضتها بعدئذ جيء بأبي مازن الى السلطة ودخول الجنرال دايتون على خط بناء عقيدة عسكرية -أمنية للفلسطينيين وتدريبهم في الاردن وإنشاء كلية أريحا العسكرية (وضع حجر أساس للكلية عام 1998 تحت مسمى الأكاديمية الفلسطينية للعلوم الأمنية، وافتتحت سنة 2007 كمؤسسة تعليم عال. وفي عام 2011 حولت إلى جامعة تسمى جامعة الاستقلال). في هذا السياق يقولان: “… لقد كان باراك في عجلة من أمره في كامب ديفيد.. كيف فكر في امكانية الخروج لقمة معقدة في كامب ديفيد عام 2000 دون اتفاق مسبق مع عرفات.. ملايين البشر من الشعبين في صراع تجاوز المئة عام على قطعة ارض صغيرة فيما ظن أن باستطاعته التوصل الى حل نهائي مع الفلسطينيين دون تحضيرات جادة مسبقا، وهذا كله خلال اسبوعين.. إنَّ ما نجح باراك في تحقيقه في فترة قصيرة جدا هو انتفاضة جديدة وحشيتها أكبر بكثير من الأولى، ففيها استعمل السلاح الناري والعمليات الانتحارية في قلب اسرائيل.. مفاوضات كامب ديفيد انتهت كما هو معلوم بفشل ذريع ومع نهاية سبتمبر من عام 2000 دخل رئيس المعارضة ارئيل شارون -دخولا تمَّ بموافقة رئيس الوزراء إيهود باراك دون أي مشاكل خاصة- دخولا تظاهريا الى المسجد الاقصى وزهو ما شكل سببا مباشرا للفلسطينيين للشروع بالانتفاضة القاسية التي أسموها انتفاضة الاقصى.. ص316”.
هذا معناه أن المسجد الاقصى وفقا للتجارب والتصورات الاسرائيلية سبب من اسباب المواجهات والحروب القادمة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، ومن هنا فالاحتلال الاسرائيلي يستعد لهذه اللحظة القادمة عبر سياسات تعزيز قوته الامنية والعسكرية وفرض سياسات الامر الواقع وعزل الشعب الفلسطيني عن حاضره العربي والاسلامي وتفكيكه ما أمكن من الداخل، حتى إذا وقعت الواقعة يكون الحسم جارفا ومدمرا ونهائيا على غرار معركة أريحا مع نبي الله يوشع بن نون كما تنص على ذلك الكتب في الديانات الثلاث مع اختلافات في التفاصيل.
لذلك شكلت انتفاضة الاقصى، الانتفاضة الثانية، محطة دراسات عميقة وتفصيلية في الأدب الصهيوني السياسي والتاريخي والاجتماعي ولا تزال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى