أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

تصريحات عطاالله حنا حول مسجد آيا صوفيا تضليل وسقوط مريع في مستنقع الطائفية

حامد اغبارية

من حق أي شخص، بمن في ذلك المطران الأرثوذكسي (التابع للكنيسة اليونانية التي ما تزال تحلم بالثأر من تركيا العثمانية) ابن مدينة القدس المحتلة عطاالله حنا، أن يكون له موقف شخصي ومغاير. وهذه هي طبيعة الأمور. فكل إنسان له قناعاته وله عقيدته التي يؤمن بها. ولكن أن تنزلق المسألة إلى الكذب وتزوير التاريخ والسقوط في مستنقع الطائفية البغيضة والتدليس وادعاء ما ليس بحق، فهذا مرفوض وباطل، وهذا ما لا يرضى به عاقل أو منصف ولا يقبله سويٌّ صحيح الانتماء.

استمعت إلى ما أدلى به المطران عطاالله حنا حول قضية إلغاء تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف وإعادته مسجدا كما كان منذ عهد الخليفة العثماني محمد الفاتح رضي الله عنه. والتصريح فيما يبدو لي جاء بأمر من قيادات الكنيسة. وفي الحقيقة لم أندهش ولم تصبني الصدمة مما ورد في تصريح المطران حنا. فهو كان منذ فترة قد خلع قناعه الذي قدم نفسه من خلاله على أنه الشخصية الدينية الوطنية ذات الانتماء لقضايا شعبه الفلسطيني، وذلك يوم أن اختار الوقوف إلى جانب الظالمين، وعبر عن دعمه لنظام المجرم بشار الأسد وزمرته، على حساب دماء مئات آلاف السوريين والفلسطينيين (في مخيم اليرموك وغيره من المخيمات) الذين ذبحتهم قوات الأسد وبوتين (الأرثوذكسي الذي خرج إلى “حرب مقدسة” بمباركة من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية) وإيران وحزب الله بلا رحمة ولا وازع من ضمير ولا حس انتماء للإنسانية.

1. أولى سقطات عطا الله حنا في تصريحه ذاك، أنه زعم أن الرئيس التركي أصدر مرسوما رئاسيا بتحويل كاتدرائية “آيا صوفيا” في القسطنطينية إلى مسجد.
وفي هذه ثلاث ملاحظات: الأولى أن القرار هو قرار قضائي صادر عن المحكمة العليا التركية، وليس قرارا رئاسيا من الرئيس الشجاع رجب طيب أردوغان. وما فعله الرئيس أردوغان أنه صدّق على قرار المحكمة كما يقضي الدستور التركي. هذه أول تدليسة، فالمطران حنا لا يجرؤ أن يتورط بذكر حقيقة أن الأمر صدر قرار قضائي دستوري.
الثانية: أن القرار لا يقضي بتحويل كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد، لأنه لم تعُد هناك كنيسة أصلا، بل هو إلغاء تحويلها إلى متحف بقرار حكومي أيام حكم شياطين العلمانية الأتاتوركيين – خدام الصليبية الماسونية الصهيونية، وإعادتها مسجدا كما كانت من أيام السلطان محمد الفاتح رضي الله عنه.
والثالثة: يستخدم حنا اسم المدينة “القسطنطينية” التي حولها السلطان الفاتح إلى إسلامبول (اسطنبول اليوم) بعد فتحها، وإراحة العباد (بمن فيها أهل المدينة من النصارى) من جرائم البيزنطيين وسوء أفعالهم وقبائح ممارساتهم. وهذا لا أقوله من عندي، بل كتبه مؤرخون نصارى أرَّخوا لتلك الفترة المظلمة التي سبقت فتح المدينة. وإن استخدام المطران للاسم البيزنطي للمدينة له مدلولات تكشف عن مكنونات الصدور.

2. يستطيع حنا أن يعتبر مسجد آيا صوفيا كنيسة كما يشاء، وأن يحلم باستعادتها واستعادة أمجاد أجداده. وهذا حقه، ولكن بين الأوهام والحقيقة فإن المسافات شاسعة. فقد سبقه إلى هذا الحلم الواهم أسلافه الذين حاولوا عشرات المرات عبر تاريخ الإمبراطورية العثمانية استعادة الكنيسة، وخاصة في عصر الخليفة عبد الحميد الثاني، وفشلوا جميعا. ولو أن أوروبا اليوم- كما بالأمس- وجدت طريقة (قانونية أو غير قانونية) لاستعادتها لما تأخرت. ولكن آيا صوفيا منذ عهد السلطان الفاتح هي مسجد بالقانون. وغنيّ عن القول إن السلطان اشترى الكنيسة بماله وأوقفها للمسلمين. فالتاريخ سجل هذه المسألة، ويستطيع حنا وغيره أن يرجعوا ويبحثوا ويفتشوا (ويُبحبشوا) في صفحات التاريخ، وهناك سيعثرون على كل الوثائق اللازمة التي تصفع وجوههم وتوقفهم عن حدّ الحقيقة. وما سوى ذلك فهو دجل وأوهام، وتشدق بكلام مطاطي وتفتفات لا تسمن ولا تغني من جوع.

3. يقول حنا: ونحن نقول إنها ليست مسجدا ولا متحفا. وهذا حقه طبعا. من حقه ألا يعترف بأي شيء. ولكن: أين كان حنا وأسلافه عن هذه القضية، وخاصة عن قضية تحويل المسجد إلى متحف طوال 86 سنة؟ لماذا صمتوا صمت أهل القبور؟ حقيقة الأمر أنه لا يهمهم أمر كون المسجد كان ذات يوم كنيسة اشتراها المسلمون بأموالهم من أصحابها النصارى (كما يحدث في أوروبا في عصرنا!!)، ولا يهمهم أن تعود كنيسة، ولكن يهمهم ألا تعود مسجدا يذكّر البشرية بأن هناك من فتح القسطنطينية (ولم يحتلها). ومسألة (الفتح) استخدمها حتى مؤرخون نصارى غربيون في تأريخهم لتلك الحقبة.

4. يفتري عطاالله حنا على العثمانيين حين يقول إنهم خلال مئات السنين ذبحوا الكثير من المسيحيين ودمروا الكثير من الكنائس، وكانت هناك اضطهادات بحق اليونان والسريان والأرمن وبحق كل المسيحيين في الدولة التركية. باختصار: كذب مفضوح. أولا: لم يسجل التاريخ أن العثمانيين خاصة والمسلمين عامة دمروا كنيسة أو معبدا، بل حرصوا طوال الوقت على حفظ المعابد الخاصة بأبناء العقائد من غير المسلمين، وحموها ورمموها وأنفقوا عليها وعلى أهلها، وأوقفوا لها الأوقاف. بل إن مدينة الناصرة- مثلا – شاهد على ذلك. فما انتشرت الكناس والأديرة والمدارس المسيحية القائمة اليوم إلا في عهد العثمانيين. ثانيا: لم يتعرض النصارى من كل الطوائف لأية مضايقات وأذى من العثمانيين كما يزعم حنا، بل حظي هؤلاء بحماية الدولة العثمانية، وكانت لهم حقوق وعليهم واجبات شأنهم شأن كل مواطن في الدولة. وأما قضية الأرمن فهي إحدى افتراءات الغرب (المتأخرة) على العثمانيين. ولعل رفض كثير من الدول الأوروبية الاعتراف بفرية “مذابح الأرمن” واعتراف بعضها بها لأسباب سياسية في وقت متأخر من القرن العشرين ثم القرن الحالي، دليل على ذلك. (كتبتُ حول قضية الأرمن مقالين بحثيين تحت عنوان (في “قضية” الأرمن”… مَن الذي ذبحَ مَن؟!! وكيف تحولت الضحية إلى متهم والمجرم إلى ضحية؟ يمكن الرجوع إليهما في صحيفة المدينة الفحماوية وصحيفة المركز الكناوية).

5. النفَس الطائفي في تصريحات عطاالله حنا لم يقفز حتى عما يحدث في سوريا. فقد افترى على تركيا أنها استهدفت المسيحيين في سوريا أيضا (يقصد هذه الأيام). أنا كرجل إعلام أتابع الملف السوري لحظة بلحظة، ولم أقف على قصة كهذه. فمن أين اختلق حنا هذه الأضاليل؟ إنه النفس الطائفي، ولعبٌ على وتر شديد الحساسية، وهو يظن أن الناس حمقى، وأنه ليس هناك من يتابع ويكشف ويفضح ويفحص. وهذا الأسلوب هو تماما أسلوب التعامل مع الناس كأنهم قطيع.

6. قرار استفزازي؟! ولماذا يكون قرارا استفزازيا أيها المطران حنا؟ استفزاز لمن؟ دولة ذات سيادة، ودولة عزيزة ذات قرار مستقل غير تابع لا لشرق ولا لغرب تعاملت مع ملف يخصها بالقانون، فأين المشكلة؟ أم أنكم اعتدتم على أن تكون قرارات أنظمة العار خارجة من البيت الأبيض أو من الكرملين أو من مكاتب السوق الأوروبية؟

7. الرجل يفضحه كلامه. فقد نضح تصريحه بالحقد على الإسلام، حين قال إن تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد ليس انتصارا للمسلمين بل هو انتصار للعنصرية والحقد وللكراهية الداعشية… فهل يقصد تحويل الكنيسة إلى مسجد أيام الفاتح أم أيام أردوغان؟ إن كان يقصد الفاتح فإن التاريخ سجل فتح القسطنطينية وانتصار المسلمين تحت الراية العثمانية على قسطنطين بيزنطة، فأين هو الحقد والكراهية والداعشية؟ هو انتصار للمسلمين، شاء من شاء وأبى من أبى. ولا يمكن تغيير الأحداث التاريخية بجرّة قلم أو بنفَس طائفي بغيض لا يزال يحمل أحقاد الثأر من المسلمين طوال مئات السنين. وإن كان يقصد أردوغان، فقد قلنا له إن الرجل أعاد الأمور إلى نصابها بالقانون والدستور.

8. يا أيها المطران حنا: إن الذي مكانه مزبلة التاريخ هو الفحيح الطائفي البغيض الذي نضحت به كلمات تصريحك هذا. أما قرار إعادة آيا صوفيا مسجدا فهو صفحة مشرقة من صفحات تاريخ هذه الأمة التي ما شعر نصارى الكاثوليك ولا نصارى الأرثوذكس ولا غيرهم من أهل الكتاب بالأمن والأمان والرفاهية إلا في الدولة الإسلامية. أنت تعرف هذا وتنكره، لكن غيرك كثيرون يعرفونه ولا ينكرونه. بل إن انتماءك للكنيسة الأرثوذكسية إنما ورثته عن أجدادك الذين أجبرهم قسطنطين بن سوريوس الأول الذي كان وثنيا ثم اعتنق النصرانية، على اعتناقه بالحديد والنار. هؤلاء النصارى كانوا أكثر الناس فرحة بفتح القسطنطينية الذي خلّصهم من هذا العذاب. أما أوروبا الكاثوليكية فقد سجل التاريخ أنها أول من تخلى عن نصارى القسطنطينية. ولذلك فإن دموع البابا ودموع عواصم أوروبا اليوم ما هي إلا جزء من الحرب النفسية والسياسية والدينية ضد تركيا.

9. أخيرا: هناك مواقف تطيح بأصحابها، ومواقف تفضح حقيقتهم، ومواقف تحكي القصة من أولها إلى آخرها.. وموقف المطران حنا أحد هذه المواقف.. وربما تكون لنا عودة.

10. وليس آخرا: يوجه البعض اللوم حول استضافة منصة مهرجان “الأقصى في خطر” للمطران حنا، وكأن الحركة الإسلامية –المحظورة إسرائيليا- أخطأت في ذلك. لا. لم تخطيء. وكان قرارها نابعا من ذات الاعتبارات التي ألقى بها حنا عطاالله وراء ظهره. واستضافته في المهرجانات كانت خطوة لتقريب القلوب والمواقف ولتأكيد الحس الجامع حول قضايا شعبنا وأمتنا. ولم تكن استضافته لشخصه، وإنما لِما ظهر في حينه من مواقفه الإيجابية حول قضية القدس والأقصى. ولكن منصة المهرجان لم تترد أن تبعده عنها في اللحظة التي انكشفت فيها أمور كثيرة تتعلق بالرجل. بل إن استضافته تأكيد لسلامة سلوك الحركة يومها، وهذا لا يعيبها، بل إن العيب كل العيب يلحق بالذين سقطت الأقنعة عن وجوههم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى