أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الوعي شرط التحرير (3/4)

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
في سياق اللغة..
الوعي لغة كما وردَ في لسان العرب: “حِفْظ القلبِ الشيءَ. ووعَى الشيء والحديث يَعِيه وَعْياً وأَوْعاه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فهو واعٍ، وفلان أَوْعَى من فلان أَي أَحْفَظُ وأَفْهَمُ، وفي الحديث: نَضَّر الله امرأً سمع مَقالَتي فوَعاها، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعى من سامِعٍ. وعند الأَزهري: الوَعِيُّ، الحفظ والواعي، الحافِظُ الكَيِّسُ الفَقِيه. وفي حديث أَبي أُمامة: لا يُعَذِّبُ اللهُ قَلْباً وَعَى القُرآنَ؛ قال ابن الأَثير: أَي عقَلَه إِيماناً به وعَمَلاً، فأَما من حَفِظ أَلفاظَه وضَيَّعَ حُدوده فإِنه غير واعٍ له… والوعي تعني التماسك، ويقال: لا وَعْيَ عن ذلك الأمر. أي لا تماسُكَ دونه. والوعي، الحفظ، ووَعاهُ، أي حفظه. تقول: وَعَيْتُ الحديث أَعِيهِ وَعْياً. وأذنٌ واعِيَةٌ: أي حافظ لما سمع، ووَعى العظمُ، أي انجبر بعد الكسر. والواعِيَةُ: الصارخةُ. ووَعى الشيء في الوعاء وأَوْعاه: جَمَعَه فيه، ووَعى الشيء في الوعاء وأَوْعاه: جَمَعَه فيه.
مما سبق يمكننا أن نستدل بأن الوعي محله العقل ولا يتحقق الوعي الا بشروط: الفهم والحفظ والاستدراك لما فات وانكسر وربط خيوط ما وعى وفهِمَ وجمعها عقلا ونقلا وكل ذلك لا يُفيد إن لم يلازمه شرط العمل.. لذلك من مقدمات الوعي الاساسية القراءة والدراسة والمدارسة (الدراسة مع الاخرين “التعلم “)، وهذه في جوهرها دلالات الوعي عموما ومن ثم تكون تفريعاته وتخصصاته كلُّ قد وعى تخصصه ووصل فيه حدّ الحِرَفيةِ والخِبرة لينتقل من مجرد الوعي الى ان يكون خبيرا في شأن محدد معين وهو ما ينقصنا جميعا فنجد الاخرين وقد وصلوا درجة الخبرة العينية في مسائل دقيقة في قضايانا ذات الخصوصية العالية، وهذه كلها شروط لازمة لتحقيق التحرر والتحرير فكلما تعمق تخصصاتنا في دراسة ظاهرة معينة أي كانت إمكانيات تفكيكها والسيطرة عليها أكثر تأكيدا من مجرد عرض ظواهرها والتحرير اليوم يحتاج الى وعي عميق لتفكيك الاستعمار الحديث الذي جثمَّ على صدورنا منذ سقوط الدولة العثمانية والى هذه اللحظات والذي يأخذ أشكالا مختلفة منذ الحرب على العراق عام 1990.

نحن ملزمون بالوعي..
بالنسبة لنا نحن أبناء الشعب الفلسطيني وأصحاب هذه البلاد مسألة الوعي ليست قضية ترف فكري وعقلي ومتعة ثقافية بل هي لازبة بنا (لصيقة بنا) برسم واقعنا المُعاش منذ الغزو النابليوني والى هذه اللحظات فنحن موضوع الصراع وليس الاخرين ونحن محط الاحداث ولن ينحسم الصراع بمجرد مقارنات ما نملك وما يملكون فمن فعل ذلك فقد خاب وخسر وانتهى امره بل لأننا نملك بحكم طبيعة الصراع ما لا يملكونه فنحن بذواتنا موضوع الصراع، أرضه وميدانه ومداه، فنحن نملك الحق المقدس والاخلاقي والتاريخي على هذه الارض وبذلك تجتمع في مسائل الوعي لطبيعة الصراع عندنا حفظ الذات وهو امضى ما تملكه الشعوب الساعية للتحرر والتحرير، الذات بصفتها المادية والحسية والرمزية: الذات إنسانا وأرضا ومقدسا ووطنا.

تماثلات في تحقيق الوعي
في تسعينات القرن الماضي اطلق هانتغتون نبوءته المتعلقة بصراع الحضارات وتزامنت هذه النبوءة مع ارتفاع اسهم العولمة والنظام العالمي الجديد وكانت نبوءته تستبطن تحذيرا للغرب من ان انتهاء الصراع الايديولوجي مع المحور الاشتراكي لا يعني انتهاء الصراع وان الرأسمالية الليبرالية قد حسمت الجولات القادمة عدد قرون فقد نبه بشيء من الخُبث الى الصحوة الاسلامية وانها المجموعة الصاعدة في مواجهة الغرب ومن الضرورة الإجهاز عليها قبل ان يشتد عودها ويكون لها موطئ قدم أي دولة .نه كما ذكرت الخبيرة والعلامة نادية مصطفى ” …ولكنه لم يكن تحذيرًا وتنبيهًا بريئًا بقدر ما كان دعوة لاستراتيجية تجدد وتنفخ الروح في دعاوى وأسس “الثقافي-الديني” التي حلت قائمة رغم تراجعها الظاهر في لغة العلم العلماني والحداثي. فلقد كانت دعوة هانتجتون استنفارية وتحفيزية وليس دفاعية، لا تعترف بأهمية شيء جديد بقدر ما تعيده إلى الأذهان وتستدعيه إلى الصدارة من جديد في الخطابات والسياسات الرسمية الغربية التي لم تسقط أبدًا من حساباتها وأدواتها هذه العوامل. ولقد أعطت حالة العالم، منذ 1991، مع انفجار صراعات ذات أبعاد دينية–ثقافية مصداقية لهذه النبوءة، إلا أنه كان لتداعيات هذه النبوءة دورها في هذه الانفجارات، وخاصة في الدائرة الحضارية العربية الإسلامية؛ لأن “العدو الجديد” الذي استدعته النبوءة كان “الحضارة الإسلامية” بالأساس. وهو الأمر الذي أثر على مواقف الغرب واستنفاره أدواتٍ وخطاباتٍ ثقافية في إدارة هذه الصراعات كوسائل لحماية مصالح استراتيجية كبرى وبأدوات عسكرية-للتوسع انظر: نادية مصطفى: الأبعاد الدينية والثقافية في تحولات المجتمعات والسياسات والتوازنات العربية، 2011-2018″.
اليوم وفي زخم الاحداث وتدفق الأخبار والمعلومات في عصر تسيل فيه المعلومات عبر شبكات التواصل كسيلان الانهر ثمة حاجة ضرورية لاستيعاب الاحداث وقراءتها بشكل صحيح لبناء مواقف صحيحة اتجاهها ليحيّ من حيّ عن بينة، واذا كانت هموم المسلمين اليوم كثيرة تمتد على طول وجوده الجغرافي العالمي فلا يكاد يخرج عنها احدُّ فأنَّ فهم الاولويات في قراءات الأحداث وجدل العلاقات القائمة معها في السياسات المحلية والدولية والإقليمية يشكل عندنا بناء معرفيا ووعيا متكاملا ومن ذلك على سبيل المثال الاثار التي نجمت عن الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش المصري بقيادة السيسي سواء المباشرة التي خصت المصريين وفي القلب منهم الاخوان المسلمين والتيار الوسطي عموما ومنها أو\وأثاره المباشرة على واقع العرب والمسلمين والقضية الفلسطينية في القلب منها. فالعلاقات ببين الانقلاب ومذابح السوريين وقتلهم وتشريدهم جدُّ وثيقة والانقلاب وعلاقاته وتجرؤ الامارات والسعودية لفتح علاقات مباشرة مع المؤسسة الاسرائيلية جدُّ وثيقة وتجرّؤ الصين والهندوس على المسلمين جدُّ وثيق وتحويل منظمة التعاون الى دكان للمتاجرة الصهيونية-سلفية جدُّ وثيق… ومن ذلك فهم تداعيات اتفاقية اوسلو التي قات بتوقيعها منظمة التحرير بقيادة حركة فتح على القضية الفلسطينية والواقع العربي ومن ذلك فشل الانقلاب العسكري في تركيا عام 2016 وتداعياته على المنطقة عموما وفهم ما يدور اليوم داخل تركيا وما يدور في محيطها وخاصة مثلث ليبيا سوريا ومصر.

المثال الليبي كمحرك لتحقيق ومراكمة الوعي..
كل قضية نريد فهمها جيدا تحتاج الى اربعة اسس: فهم تاريخ تلكم القضية، تفكيك الشخصيات التي رعت ورافقت تلكم القضية، فهم التطورات والملابسات التي احاطت بها والتدخلات التي حصلت إزائها واوصلتها الى ما هي عليه، المشاركون الحاليون في تلكم القضية: اسباب المشاركة، من يقف ورائها، مصالحهم: قريبة، بعيدة، استراتيجية، سياسية، القوى المستفيدة من القضية وحجم الاستفادة وهكذا …
يوم نستمع الى اخبار تتعلق بالملف الليبي من مثل ما تنشره العربية السعودية وما يقابله من نشر للجزيرة او تي آر تي التركية أو فرانس 24 الفرنسية أو تي-ار الروسية أو سي ان ان الامريكية لنفس الموضوع فإنَّ ضرورات الوعي تلزمنا بفهم خلفيات هذه الفضائيات واجندات من تخدم من جهة وفهم حقيقة ما يدور على التراب الليبي من خلال التمحورات فيوم تصطف روسيا والمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مع حفتر الحامل للجنسية الامريكية والذي يتلقى المساعدات اللوجستية بشكل مباشر من السعودية والامارات ومصر وبشكل غير مباشر من روسيا وفرنسا واسرائيل علينا ان نفهم ان هذا المحور لا يريد الخير لليبيا ولا لشعبها بل اقصى ما يسعى اليه نهب خيرات هذه البلد وتدميرها لإعادة بنائها والسيطرة على مقدراتها (مثلا في الحالة المصرية تعتبر مصر السيسي ليبيا فرصتها التاريخية لحسم المعركة بصالح حفتر للاستئثار المستقبلي ببناء ليبيا بحسب لأنها تحتاج الى كل شيء من تعبيد الشارع وبناء المدرسة الى بناء المؤسسات وتنظيم شؤون الحكم وبهذه الوسيلة تحقق مصر السيسي عدة مصالح: القضاء على البطالة المصرية، ارتفاع معدلات المعيشة بين المواطنين وهو ما يعني بقاء نظامه عدد عقود) لتدوير وتطوير وتكثير موارده المالية السائلة وإبقاء شعوبهم او في حالتنا العربية بياداتهم في رغد من العيش ولو على حساب الملايين من الليبيين، فهنا لا مكانة لقيمة الانسان … هنا الحديث يدور عن مصالح فقط مهما علت وصغُرَتْ.
وعندما نجد ان جامعة الدول العربية التي لم تلتئم مطلقا لبحث الازمة الليبية التي تحولت الى ساحات لقتل المدنيين على يد السلفية الجهادية من تنظيم الدولة والسلفية الجامية، واجتمعت فور تصريحات السيسي وبعد نجاحات كبرى حققها جيش الوفاق الليبي بدعم مباشر من تركيا ويوم يعلن نظام بشار دعمه الكامل لحفتر وتتردد أنباء عن دعم ايراني خفي له فنحن امام إكمال المشهد السياسي والاستراتيجي ..فتركيا اليوم لا تفكر بمنطق الدولة الضعيفة بل بمنطق دولة إقليمية تعيش أزمات داخلية لمَّا تخرج منها بعد في مقدمتها ازمة اللاجئين وما ترتب عن ذلك من ضعضعة داخلية وأزمة الليرة المتأثرة من الهزات الاقتصادية والاستثمارية وازمة الهوية بين الديني والعلماني والحداثي والعلاقة مع الإرث العثماني ممثلا بطروحات المفكر نامق كامل (العثمانيون الجدد) وتتحسب دائما من مخاطر محدقة بها: اليونان واطماعها في هضبة الاناضول، روسيا واطماعها في منطقة البحر الاسود وأزمة جزيرة القرم وعلاقاتها المتأزمة مع المشرق عموما وخاصة سوريا ومشاكلها الحدودية ومشكلة اللاجئين السوريين وتنازلها عن نظرية تصفير المشاكل مع الخارج، يقابل ذلك ان لها حاضنة في اسيا الوسطى والبلقان تتجاوز ال500 مليون إنسان وأنها تتطور عسكريا باستمرار وانها تمارس سياسات المصالح والاحتواء مع القوى الكبرى خاصة روسيا والولايات المتحدة وأن مصالحها الاستراتيجية البحرية تتقاطع مع مصالح ليبيا.
أن قراءاتنا العميقة للتحولات السياسية الجارية في المنطقة -ومنها تركيا- ستمنحنا عمقا في التحليل والتفكير الصحيح ومن ثم الوصول ألى الاجابات الصحيحة اتجاه فهمنا للقضايا المختلفة ومن ثم كيفية التحرك والتعامل معها، هذا ينطبق على أحاد الافراد وعلى الجماعات وعلى الدول فعلى سبيل المثال لا الحصر، يوم يدرك أحدنا أن لفرنسا دور تآمري عالمي على مصالح المسلمين عموما وليبيا خصوصا وانها تدير اكبر حرب قذرة ضد المسلمين الافارقة فمن العار على من فهم ذلك ان يسافر مثلا الى هذه الدولة للاستجمام ويصرف أمواله فيها…هذا الفرد بإمكانه أن يقاطع السياحة الفرنسية “مثلا” ولو قام مئات الالاف من المسلمين بمثل هذه السياسة لتركت اثرها في المواقف السياسية بل والسياسات .لذلك كان الوعي مهمُّ للفرد في منطقتنا.

الاسلاميون هم المستهدفون..
من ثوابت الوعي عندنا أنه في خضم التناقضات والمصالح الدولية المستهدف الاول هم الاسلاميون ومنعهم من الوصول المباشر الى السلطة كقوة أساسية يمكنها أن تترجم برامجها الى مشاريع، وهذا يترتب منا فهما لتعقيدات المشهد الاقليمي والدولي وكيف تتم صياغة الأمور ولعل المشهد السوري بدمويته المفرطة التي بزت أعال وجرائم الفاشيين والنازيين وتورط معظم أنظمة الدول العربية بدماء الشعب السوري يبين لنا طرفا من بعض ما أشرت أليه فما الذي يجمع السعودية والامارات وبشار الاسد ومصر وروسيا والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة سوى الحيلولة أن يكون لأهل السنة الحكم في هذا البلد وسوى مصلحة الاحتلال الاسرائيلي الرابض على ارض الجولان منذ نصف قرن .
مكمن حقدهم على تيار الصحوة هو في مسائل الولاء والبراء السياسي فالحركات الاسلامية السياسية لا توالي انظمة الحكم مطلقا بل تعتبر الكثير منها نُظُمُ إكراه واستبداد ومن تتعامل معه سياسيا من خلال البرلمانات لا ولاء لها مطلقا للحاكم بل ولاءها ابتداء لعقيدتها ولوطنها وهو ما لا يريدوه المستبدون العرب من ملوك وحكام عسكريين وتتعزز اهمية الوعي في فهم تاريخ الحركات القومية والوطنية في عالمنا العربي كيف نشأت ومن أين جاءت وما هي أفكارها وماذا قدمت للشعوب التي حكمتها على مدار نصف قرن ويزيد.
في هذا السياق تتكامل مسائل الوعي في الربط بين الديني والسياسي في فهم جدل العلاقة القائم بين علمنة المجتمع والبقاء على هويته الاسلامية … المسائل دائما لها جذورها العقدية التي يسعى عديد المحللين لإخفائها ولهم في ذلك مأرب لا تخفى على الحصيف الواعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى