أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الضم بين سياسات التدرج والخيار الفلسطيني

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي

توطئة..
وافقت قطاعات لا بأس بها من الشعب الفلسطيني ومنظماته السياسية على القبول بقيام دولة فلسطينية على أراضي عام 1967 أي الضفة الغربية وما تبقى من القدس وفي القلب منها البلدة القديمة وقطاع غزة والأغوار، فيما سعى الاحتلال الإسرائيلي عبر سياسات الضم والمصادرة الى تقليص هذه المساحات الى الحد الأدنى مغلفا نظريته الايديلوجية بغلاف الامن الى أن سنَّ قانون القومية عام 2018 ليتكشف كل شيء، ولتتضح معالم الصراع على أنه صراع منشأه عقدي تداخلت فيه المصالح والسياسات. وجاءت صفقة القرن التي تجلت معالمها الأولى في ورشة البحرين المعقودة في 25 حزيران/ يونيو من عام 2019، وأعلن عنها رسميا في 28 يناير من العام الجاري، بحضور سفراء البحرين والامارات وغياب فلسطيني، وكان قد سبق الإعلان الأمريكي عن الصفقة اجتماعات بين ترامب ونتنياهو وغانتس، كلُّ على حدة، لاستمزاج رأي الأخير بكونه ينافس نتنياهو على رئاسة الحكومة ومنحته الاستطلاعات آنذاك إمكانية تشكيل الحكومة.
كل ما في هذه الصفقة يخدم الاحتلال وعبر عن وجهة نظر الاحتلال وقد أعطت هذه الخطة إجابات عن كل الأسئلة التي طرحتها الجهات الإسرائيلية، بما فيها الأكثر تطرفا وتناست كلية الشعب الفلسطيني لذلك أسماها البعض ببلفور الثانية.
الحقيقة الفلسطينية الجوهرية أنَّ هذه الاتفاقية لا تعتبر بالنسبة له شيئا سوى أنها داعمة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي، وفرصة تاريخية للفلسطينيين للتخلص من أوهام أوسلو وكافة الاتفاقيات التي كبلت الفلسطينيين وحاصرتهم بسبب تداعياتها المرتبطة بأوسلو ومن بعد بدايتون واتفاقياته الأمنية.
لا يختلف عدلان على أن أوسلو شكّل كارثة بل نكبة ثانية للشعب الفلسطيني، وأسس أرضية خصبة لاستمرار مصادرة الأرض ومحاصرة الفلسطيني، إنسانا وحضارة وكان أكبر من تضرر من هذه الاتفاقية المناطق “ج” والقدس وأهلها، وفي مقدمتها، المسجد الأقصى المبارك الذي يتعرض لعملية قرصنة جهارا نهارا تحت سمع وبصر العرب والمسلمين. فمنطقة “ج” تشكل عمليا 73% من أراضي الضفة الغربية والقدس، وبموجب اتفاقية “واي ريفر” للعام 1998 كان من المفترض أن ينسحب الاحتلال من 13% من المنطقة “ج” لتصبح مساحتها 61% من الضفة الغربية، ومع ذلك فقد انسحب الاحتلال فقط من 2% من تلكم الأراضي ومنذ عام 2013 أضحت مساحة هذه المنطقة 63% من أراضي الضفة الغربية وشرقي القدس.
وفقا لصفقة القرن، سيستولي الاحتلال على 30% من هذه الأراضي دفعة وحدة، فضلا عن سيطرته على أراضي مدينة القدس التي يتعامل معها الاحتلال على أنها جزء لا يتجزأ من أراضيه بناء على القوانين ذات الصلة بمدينة القدس.
إعلان نتنياهو ليس بالمقدس
في سياق حملته الانتخابية أعلن نتنياهو أن الأول من يوليو سيعلن فيه عن تنفيذ بنود صفقة القرن المتعلقة بضم 30% من المنطقة “ج” الى إسرائيل، مستندا على وعود ترامب رافضا الرفض الدولي والأممي لهذه الصفقة. لكن تداعيات المشهد السياسي في المنطقة وبالذات الفلسطيني وتعدد وجهات النظر الإسرائيلية اتجاه الصفقة ومخرجاتها، دفع نتنياهو للتلميح، أن تنفيذ المخطط قد يحتاج الى وقت أكثر من المتوقع.
نتنياهو وفريقه العامل على خرائط الضم والذي يبدو أنه يمكث ساعات عمل في مكاتب الإدارة الامريكية، أكثر مما يمكث في مكاتب رئيس الحكومة، أدرك أن العملية لن تتم بالسهولة التي يتوقعونها، وهذا ما دفع نتنياهو للاستعانة برئيس الموساد للتواصل المباشر مع أقرانه العرب (الأردن، السعودية، الامارات ومصر كما يرشح على الأقل حتى هذه اللحظات) بعد أن فتلت سلطة رام الله عضلاتها وبادرت بعمل لوجستي رافض لعملية الضم برمتها معلنة عبر جبريل الرجوب عن سلسلة من الفعاليات السياسية السلمية بدأت في اريحا وشارك فيها عدد من الشخصيات الدولية بما فيها السفير الأردني، ومؤكدة أنّ كافة الخيارات مفتوحة أمامها وهو ما لاقى صدى واسعا لدى رجال الامن الإسرائيلي تُرجِمَ مباشرة بتصريحات مقابلة من طرف قائد هيئة الأركان أفيخاي كوخافي بأنهم يدرسون سلسلة من السيناريوهات في كيفية مواجهة الرفض الفلسطيني للضم.
الملفت للنظر أن مهمة رئيس الموساد ايلي كوهين كما تتحدث وسائل اعلام إسرائيلية مقربة من صناعة القرار الإسرائيلي، هي في إقناع نظرائه العرب بالموافقة على الضم وأنه مصلحة فلسطينية -إسرائيلية مشتركة (على غرار المصلحة المشتركة في التعاون والتنسيق الأمني) وإقناع الجانب الفلسطيني بذلك، ولو أن تعلن الأطراف العربية رفضها للضم مقابل أن تصمت وتمارس ضغطا على الفلسطينيين، فالاحتلال الإسرائيلي على ما يملك من قوة وسطوة وتغلغل في الضفة الغربية، متخوف من انتفاضة مسلحة يكون هدفها الأساس المستوطنين في الضفة الغربية، وهو ما سيدفع لمواجهة شاملة مع مكونات الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية الأمر الذي سيجعل كافة الخيارات مفتوحة، وقد يؤدي إلى حرب مفتوحة على قطاع غزة سيكون صداها في عواصم عربية وإسلامية قد تؤسس لربيع ثان يُخَطِرُّ المنجز الاستعماري الذي حققته الرجعية العربية والصهيونية -الصليبية العالمية.
المواجهات المسلحة تعتبر خيارا صعبا وسيئا للاحتلال على الرغم مما يملك من قوة، فهو يتنفس في الضفة الغربية بفضل التنسيق المني وما نجم عنه من سياسات شراء الذمم وتسميم الشارع الفلسطيني المدني والسياسي، وكل عمل مقاوم سينسف كافة الجهود التي بذلتها واشنطن ومعها المخابرات الإسرائيلية والعربية، وسيضع المنطقة عموما على فوهة بركان لا يمكن التكهن براهنه ومستقبله، ولذلك فهذا السيناريو لا تريد دولة الاحتلال الوصول إليه مهما كلفها الثمن ولو أن تتراجع عن الضم، وقتا وزمنا معينا تقتنص فيه الفرصة ثانية، وقد زاد الطين بلة إعلان الدوحة أنها تدرس سبل وقف الدعم المالي الشهري لقطاع غزة خاصة وأن هذا الإعلان من طرف الدوحة جاء بعد أن تقدمت مجموعة من العائلات الإسرائيلية الحاملة للجنسية الإسرائيلية وفي مقدمتهم النائب الليكودي السابق يهودا غليك حيث تمت رفعت الدعوى ضد عدد من افراد العائلة الحاكمة وبنكين قطريين بتهمة رعاية ودعم الإرهاب الفلسطيني، وهو ما يعني تداخل الأوراق نهائيا ولا يستبعد كاتب هذه السطور أن وراء هذه الورقة الإدارة الإسرائيلية للضغط على الدوحة للموافقة على الضم والضغط على السلطة الفلسطينية وحماس مقابل إسقاط الدعاوى فنحن في عصر الصفقات والمساومات.
تصريحات بيني غانتس وموقف نتنياهو
نتنياهو يتمتع بذكاء سياسي قلَّ نظيره بين الزعماء الإسرائيليين ويعرف من أين تؤكل الكتف، وقد زج بمنافسه وإن كان شريكه في الحكم بيني غانتس الى ملف الضم وصفقة القرن، أولا بسبب انه وزير للدفاع وثانيا لأنه من سيأتي مكانه وثالثا لأن سلطة رام الله توقعت منه خيرا، وقد دعمته القائمة المشتركة لتولي رئاسة الحكومة كما يبدو بأوامر من سلطة رام الله، وأخيرا لأنه ذو خلفية عسكرية وقد اجتمع معه ترامب وهو شخصيا أبدى موافقته المبدئية على الضم بحيث لا يلحق الضرر بمصالح إسرائيل الاستراتيجية الأمنية والسياسية، وستتم كما يرشح من حديث القيادات الإسرائيلية على مراحل وبموافقة أمريكية عربية، وإن لم توافق السلطة الفلسطينية وحماس والشعب الفلسطيني وسيتم التعامل مع ردود الشعب الفلسطيني بما يتلاءم ودرجة رد الفعل الفلسطيني، كل ذلك سيتم إن تحقق للاحتلال حماية دولية وعربية وأمريكية ولو ان تعرض لانتقادات ومضايقات مؤقتة من اطراف أوروبية يمكنه تحملها هذا الى جانب تقليم أظافر أي فعل مقاوم وضمان تعاون امني فلسطيني حتى لو كان المقابل عمليات استشهادية ومقتل عدد من الجنود والمدنيين الإسرائيليين، فالثمن الذي سيتحقق للاحتلال بشرعنة الضم رغما عن الاتفاقيات الدولية امر مهم لا يتكرر دائما.
غانتس قال بصراحة: “لن نضم فلسطينيون الى مناطقنا-أي إسرائيل- ولن نمس حقوقهم الإنسانية ولا حقهم بالحركة -داخل المناطق التي ضُمَتْ- وسنعمل ذلك بالتنسيق مع دول الجوار التي تربطنا بهم علاقات ولن نخاطر باتفاقيات السلام وسنعمل على تنفيذ الإجراء المناسب بالتنسيق مع الجيش وأجهزة الأمن والمجلس الوزاري المُصغرْ”.
قراءة الخارطة السياسية الإسرائيلية وموقف الأطراف السياسية اليمينية تحديدا من الضم تضعنا امام وجهات نظر متعددة لكنها كلها تصبُّ في تحقيق ضم المناطق التي يتم الحديث عنها أي مناطق “ج” والأغوار، الأولى الرافضة لعملية الضم والتي يتولاها اليمين الديني الصهيوني لاعتبارات دينية صرفة ترى أن الأرض برمتها حق خالص لليهود والقيام بعمليات الضم وفقا للرواية الأمريكية، يعني قيام دولة فلسطينية ولو دولة مشتتة جغرافيا إذ الاعتراف بها وفقا لهذه العقلية معناه ضياع أجزاء من ارض إسرائيل على يد يهود محسوبين ومقربين من التيار الديني، ولذلك فهؤلاء يرون بضرورة الضم من جانب واحد وضرب الموقف الأمريكي بعرض الحائط. الموقف الثاني ويتمثل بموقف الجنرالات ويمثلهم غانتس وغابي أشكنازي، ويرى أن الضم يجب ان يتم بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأمريكية والأطراف الإقليمية وحتى بمشاركة فلسطينية إن أمكن، ويدفعون نحو سياسة الضم التدريجي بناء على سياسة ورعاية وموافقة الولايات المتحدة وفي سياق هذه السياسة: سياسة الضم التدريجي لن يحصل الفلسطيني على حقوق المواطنة فالضم للأرض وليس للبشر وإن تحدث غانتس عن عدم نية ترانسفير للفلسطينيين فإن السياسة تتجه الى بقاء الناس على ما سيتبقى لهم من أراض والتعامل معهم على انهم رعايا لا يملكون أي نوع من الحقوق الأساسية.
الخيار الفلسطيني الوحيد هو رفض هذه الصفقة ومخرجاتها على الرغم من الهوان والضعف الذي يعتور الجسد الفلسطيني، لكن المسائل آخذة بالوضوح، فالفلسطيني اليوم في المعركة مع الصهيونية ودول الاستكبار العالمي لوحده يعاركها منفردا، بل ويتآمر عليه المخذولون من العرب، ولذلك لا يملك الفلسطيني سوى خيارا واحدا: خيار الرفض والمقاومة، وهذا الخيار ينجم عنه سياسات وعمل مقاوم.
إسرائيل دولة مارقة
يذهب الفيلسوف ناعوم تشومسكي في كتابه الدولة المارقة الى تعريفين لمعنى الدولة المارقة، الأول كما يقول، تعريف دعائي ينطبق على الدول المصنفة كأعداء (طبعا الذي يفعل ذلك الدول الكبرى كما فعلت أمريكا مع العراق مثلا) والثاني موضوعي (يتأسس بناء على القرارات الأممية الصادرة عن الأمم المتحدة) وهي تلك الدول التي لا ترى ضرورة بالتقيد بالأعراف الدولية وواضح ان الولايات المتحدة والدول الخمس في مجلس الامن ودول كثيرة في العالم تخضع لهذا التعريف، ومنها إسرائيل، فالأعراف الدولية بالنسبة لها انتقائية ومزاجية وتخضع لمعيار المصلحة الذاتية.
صفقة القرن من ألفها إلى يائها بلطجة دولية وحالة من حالات العربدة التي تمارسها الولايات المتحدة بخلفية عقائدية صرفة (نظرة الى عراب هذه الصفقة ستجد ان كل من شارك فيها من الصهاينة والجمهوريين الانجيليين اتباع الكنيسة الالفية) لذلك فكل مشارك في هذه الصفقة المناقضة للقوانين والمواثيق الدولية التي أوجدت إسرائيل وقامت على أساسها، هو بهذا الاعتبار مارق دولي يجب محاسبته، وبالتالي فأحد أهم وظائف الفلسطيني اليوم هي متابعة دقيقة لتجاوزات الاحتلال السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والمجتمعية) إذ رصد الاحتلال بدقة متناهية سيؤتي ثماره قريبا وإن كان يحتاج الى فعل فلسطيني ميداني، ولقد بات واضحا أن كافة الأمور مفتوحة ويبدو أنَّ المنطقة برمتها مقبلة على مرحلة جدية من تكسير العظام في الشأنين السياسي والعسكري، ولا أخال الأمر سيتجاوز فلسطين التاريخية إن لم يكن شراراتها الأولى.
التعدد في وجهات النظر الإسرائيلية يجب ان لا يبعدنا عن الحقيقة الجوهرية اننا امام احتلال يجب أن يزول عن كافة مناطق الضفة الغربية لتحقيق قيام دولة فلسطينية وفقا لما اتفقت علية الأسرة الدولية، والاحتلال في كل ممارساته في القدس والضفة الغربية يناقض القانون الدولية ويدوس عليه، ولعل في قرار العليا الإسرائيلية في العاشر من الشهر الجاري رفضها تبييض الاف البيوت الاستيطانية التي بنيت على أراض خاصة مؤشر الى حجم التناقض القائم بين السياسي والقانوني فيما يتعلق بالأراضي الخاصة في الضفة الغربية، حيث تم بناء 3455 مبنى ما بين سكن ومدارس ومراكز جماهيرية وكنس على أراض فلسطينية خاصة، وتعمل إدارة الاحتلال على تبييض هذه المباني وتجد في الضم وفرض القانون الإسرائيلي فرصتها التاريخية وهي فرصة للفلسطينيين لرفعها الى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي إذ رفض المحكمة الإسرائيلية تبييض هذه البيوت يصب في المعركة القانونية التي تصر السلطة في رام الله على خوضها.
الشعب الفلسطيني اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى الى كتلة صلبة تتجاوز خلافاته لصالح القضية الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطيني، وهذا ما يدفعني لأقول إننا نحتاج الى جيل تاريخي، جيل الكتلة الحرجة، ذلك الجيل الذي يتفق على نقل الشعب الفلسطيني من مرحلة الى أخرى، من مرحلة أوسلو باعتبارها آخر حلقات النكبة وجزء منها الى مرحلة التحرر والتحرير، وسيتم لها ذلك من خلال تصفية صراعاتها الداخلية برسم أهدافها التاريخية “الكبرى” وتجسيدها لوفاق وطني خلاق يؤسس لوضعية فلسطينية اكثر رشدا وهديا، ولذلك فصفقة القرن ومخرجاتها هي في الحقيقة الفرصة التاريخية أمام الشعب الفلسطيني وقواه الحية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى