أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

شيب وعيب!!!

الشيخ كمال خطيب
لقد تحدث القرآن الكريم في بيان المراحل التي يمر بها الانسان من يوم أن يكون نطفة حتى يوم مولده، ومن يوم مولده حتى يوم مماته ورحيله عن هذه الدنيا وليعود ترابًا، ذلك العنصر الذي خلق الله منه آدم أبا البشرية عليه السلام.
فلقد حدد الله تعالى سبع مراحل يمر بها الإنسان قبل مولده وهي التي وردت في قوله سبحانه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} آية 11-14 سورة المؤمنون.
أما المرحلة الأولى فهي النطفة من الرجل “الحيوان المنوي” والنطفة من المرأة وهي البويضة.
أما المرحلة الثانية فهي الأمشاج، وهي الخليط من تلاقح نطفة الرجل مع نطفة المرأة {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} آية 2 سورة الإنسان.
أما المرحلة الثالثة فهي العلقة حيث الجنين يتعلق بالمشيمة في اليوم السادس عشر.
أما المرحلة الرابعة فهي المضغة، وسميت كذلك لأن مجموع الخلايا تكون على شكل قطعة لحم قد مضغت في الفم بين الأسنان، ويكون ذلك في اليوم السادس والعشرين.
أما المرحلة الخامسة فإنها بخلق العظم {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا}.
أما المرحلة السادسة فإنها بكسوة اللحم للعظم {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا}.
أما المرحلة السابعة فإنها بتشكل الرأس والأطراف والأعضاء التناسلية وغير ذلك {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}.
وحدد سبحانه ثلاثة مراحل يمر بها الإنسان بعد مولده وهي التي وردت في قوله سبحانه {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} آية 54 سورة الروم.
فليس عن النطفة ولا المضغة نتحدث، ولا عن الطفولة ولا الشباب نتحدث وإنما عن المشيب، هذه المرحلة الهامة من حياة الانسان لأنها تتزامن مع مرحلة الضعف الذي معه يبدأ العد التنازلي في حياة الإنسان وصولًا إلى الموت وبدء رحلة الدار الآخرة.
تأتي مرحلة المشيب بعد الشباب الذي ما بكت العرب على شيء أكثر من بكائها على الشباب، ولأن الشباب هو زهرة العمر وقد جعل الله تعالى أهل الجنة في عمر ثلاث وثلاثين كما ورد في الحديث الشريف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “يدخل أهل الجنة جردًا مُردًا مكملين أبناء ثلاث وثلاثين”.
إنه ريعان الشباب وزهوته وزهرته، والشباب هم جلساء الله في الجنة، وهم أهل جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأهمية فترة الشباب من حياة الإنسان فإنه مسؤول عنها يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: “لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه”.
ولقد ندب كثير من الشعراء شبابهم عند مشيبهم ورؤية الشيب في رؤوسهم، وقد قال قائلهم:
ولّى الشباب فخلّ الدمع ينهمل فقد الشباب بفقد الروح متصل
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها من الشباب بيوم واحد بدل

وكيف لا يندب العقلاء والشباب فقده منذر بفقد الروح، وستأتي من بعده الشيخوخة والهرم حيث ستحل قسوة الحياة على أجسام نحيله وأعضاء ضعيفة، ويكون المشي دبيبًا وحمل العصا أكيدًا، ولقد قال أبو العتاهية في ذلك بيته المشهور:

ألا ليت الشباب يعود يومًا فأخبره بما فعل المشيب

وقال شاعر آخر:
وقد جعلت إذا ما قمت يوجعني ظهري فقمت قيام الشارب السكر
وكنت أمشي على رجلي معتدلًا فصرت أمشي على أخرى من الشجر

وقد قيل لأعرابي بلغ من العمر عتيًا وتقدمت به السن كثيرًا، كيف أصبحت يا هذا، فقال: “أصبحت تقيّدني الشعرة وأعثر بالبعرة”، أي أنه يجر رجليه جرًا حتى أنه يتعثر بكل شيء على الأرض ولو كان صغيرًا بحجم البعرة وهي روث الماعز والغنم.

شيب الرأس مطردة للكأس
لأن الشيب نذير تقدم السن وقرب الموت وعلامته الأولى، فكان الصالحون إذا رأوا الشيب يغزوا رؤوسهم فكان هذا مفترق طرق في حياتهم وانعطافة لا بد منها، فكانوا يعتبرون أن فترة الشباب قد ولّت وبدأ عهد العودة إلى الوراء فيبدأ أحدهم يكثر من زاد الآخرة ويتهيأ لها.
فهذا إياس بن قتادة وكان كبير قومه وقد رأى شعرة بيضاء في لحيته فقال: “أرى الموت يطلبني ولا أراه يفوتني، أعوذ بك من فجأة الموت، يا بني سعد قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبتي” أي أنني أفنيت شباب في خدمتكم فدعوني الآن أخدم آخرتي.
وإذا كانت أيام الشباب والفتوّة مدعاة وسببًا للهو والمجون والعبث حتى قيل “إن الشباب شعبة من الجنون” فإن ظهور الشيب يجب أن يكون حاجزًا عن الفساد واللهو والحرام والمعاصي والتصابي، حتى أن مسلمة بن عبد الملك قال: ما وعظني شعر مثلما وعظني قول القائل:

ما صبا حتى علا الشيب رأسه فلمّا علاه قال للباطل أبعد

وقال رجل لآخر: ألا تشرب الخمر؟ فقال له: في شيب الرأس مطردة للكأس.
وقيل لآخر تعال نفعل الحرام وقد تهيأت لهم ظروف فعل الفاحشة. فقال رافضًا: وقد مد يده إلى رأسه “شيب وعيب؟!”.
ورأى رجل رجلًا آخرًا يتصابى بينما ظهرت بعض شيبات في رأسه، فقال له: “اتق الله فإن الموت قد غرز أعلامه في لحيتك”. وقال حكيم: “كنت أخاف إذا أنا شبت أن تزهدني النساء فلمّا شبت كنت أزهد فيهن منهن في”.
ومع اختلاف سرعة وتوقيت ظهور الشيب بين رجل وآخر، وقد يكون لهذا عوامل وراثية لكن من أسباب الشيب كذلك كثرة الهموم وإطالة التفكير، فهذا مروان بن عبد الملك وقد سئل لماذا عجّل إليك الشيب؟ فقال: “شيبني ارتقاء المنابر وتوقع الموت”. بل إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال شيبتني هود وأخواتها. أي سورة هود وأخواتها وهن سورة هود، الواقعة، المرسلات عم يتساءلون وإذا الشمس كورت، لما فيهن من كثير تفصيل أهوال يوم القيامة {يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شيْبًا}.
وقد نظر كسرى ملك الفرس إلى رجلين من جلسائه أما أحدهما فقد شاب شعر رأسه قبل لحيته، بينما الآخر شابت لحيته قبل رأسه، فقال للأول: لم شاب رأسك قبل لحيتك؟ فقال: إن شعر رأسي نبت قبل شعر لحيتي والكبير يشيب قبل الصغير. وقال للآخر: لم شابت لحيتك قبل رأسك؟ فقال: لأن اللحية أقرب إلى الصدر موضع الهمّ والغمّ.

# ما عاد ينفع الترقيع
ومع أن ظهور الشيب أمر حتمي بغض النظر عمّن يظهر الشيب في رأسه مبكرًا وعمّن يظهر الشيب في رأسه متأخرًا، إلا أن كثيرين من الناس يكرهون الشيب ويودّون طمسه وصبغه في محاولة لإقناع أنفسهم أنهم ما يزالون في مقتبل العمر وفي عنفوان الشباب مع خضاب الشعر أو صبغه فإنه لن يعيد الجسم حديدًا ولا البصر سديدًا ولا السمع مثلما كان في أيام الشباب. وإنها القصة المشهورة عن تلك العجوز التي تقدمت بها السنون فضعف جسمها وشاب شعرها فقامت بصبغ شعرها وتزينت بالمساحيق وتعطرت بالعطور، وظنت أنها بذلك قد عادت لشبابها الأول وهذا ما لم يكن، وفي هذا قال الشاعر:
عجوز تمنت أن تكون صبية وقد نحل الجنبان واحدودب الظهر
فراحت إلى العطّار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

ومثل قصة تلك العجوز فإنها قصة ذلك الشاب الذي رأى يومًا شيبة تلمع في شعره الأسود وهو الشاب الممتلئ شبابًا الغارق في شهواته وأحلامه. ولأن الشيبة تنذر بتقدم العمر وهو لا يريد ذلك، فقام ونتفها بيده وتنفس الصعداء، وبعد أسابيع ظهرت شيبتان في الشق الآخر من رأسه فقام ونتفهما، وبعد أسابيع ظهرت عدة شعرات بيض في شقيّ رأسه الأيمن والأيسر فأيقن أن هذا هو الحال والمآل الذي لا بد منه وعرف حقيقة ما هو عليه وما يجب أن يستعد له فأنشد قائلًا:
وزائرة للشيب يومًا لاحت بمفرقي فبادرتها خوفًا من الحتف بالنتف
فقالت على ضعفي استطعت ووحدتي رويدك حتى يأتي الجيش من خلفي

وأراد رجل أن يتزوج امرأة أعرابية فسألت عنه، فقيل لها أنه يخضب شعره بالسواد حتى يرى شابًا فقالت: “لا ينال الشباب بالخضاب كما لا ينال الغنى بالمنى”.
وقال رجل كهل لامرأته قومي واخضبي شعر رأسي ولحيتي، فقالت له: “دعني يا هذا فلقد تعبت من كثرة الترقيع”.
وقال آخر يصف الشيخوخة والهرم وكيف تؤثر على جوارح الإنسان:

فأسمع أنبئك بآيات الكبر تقارب الخطو وضعف في البصر
وقلة الطعم إذا الزاد حضر وكثرة النسيان ما بي مدّكر
وقلة النوم إذا الليل اعتكر أوله نوم وآخره سهر

عيرتني بالشيب وهو وقار
فإذا كان أهل الدنيا يرون بالشيب علامة تدل على دنو الأجل وانتهاء مرحلة بريق الدنيا ولمعانها، فيحزنون على خسارة الدنيا، فإن أهل الصلاح يرون في ظهور الشيب دافعًا للطاعة والقربات والصلح مع الله تعالى، وتصحيح مسار حياتهم التي سلكوها في شبابهم.
لا بل إن الصالحين يرون في الشيب علامة وقار وهيبة كما روي إبراهيم عليه السلام لمّا رأى شيبًا في عارضيه، فقال يا رب ما هذا؟ فقال له الله سبحانه: يا إبراهيم إنه وقار. فقال إبراهيم: يا رب زدني وقارًا.
وقال الشاعر يمتدح الشيب ويرد وينكر على من يعيّروه به:

عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيّرت بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب مني فالليالي تزيّنها الأقمار

لا بل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح من شاب شعره في الإسلام ومن طال عمره وهو على طاعة لله تعالى فقال: “من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة”. وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليستحي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام”. وقد ورد في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه أنه قال: “عبدي شاب شعرك وانحنى ظهرك، استح مني فإني أستحي منك”.
فإذا كانت مرحلة المشيب الفاصلة بين الشباب وبين الموت وهي التي يرى العاقل ارهاصاتها وعلاماتها في كل سكنة وحركة يؤديها، فتخاطبه من غير كلام بضرورة الاستعداد لما هو آت، وهو ليس إلا لقاء الله تعالى، فيكثر الزاد ويحسن العمل ويلح على الله تعالى ويرجوه أن يرزقه حسن الختام.
وما أعظم ذنب أولئك المكابرين والمصرّين على الذنب رغم تقدم أعمارهم، وفيهم قال رسول الله صلى وسلم عن الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وأن أحدهم كما قال “شيخ زان” أي كبير السن الذي ما يزال يقترف الفاحشة، وما أكثرهم في زماننا.
إن أهل الصلاح كان أحدهم إذا بلغ الأربعين طوى فراشه، والمقصود أنه يقلل من النوم ويكثر من صلاة الليل ولسان حاله يقول “انقضى عهد النوم” وجاء وحان عهد الطاعات والقربات استعدادًا للآخرة وللموت الذي قد يأتيه في كل لحظة.
فاللهم وأنت تعلم أننا ما عرفنا صبوة ولا قضينا شبابنا إلا في طاعتك وخدمة دينك، وما شاب شعرنا إلا ونحن نحبب الناس إليك وإلى رسولك ودينك، فاللهم حرّم شيبتنا على النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى