أخبار رئيسيةأخبار عاجلةتقارير ومقابلات

عز الدين أبو العيش… فلسطيني يلاحق الاحتلال الذي قتل بناته

المأساة التي عاشها الطبيب الفلسطيني عز الدين أبو العيش، بمقتل بناته الثلاث وابنة أخيه، أمام عينيه بقذيفة دبابة إسرائيلية استهدفت منزله في غزة، دفعته إلى ملاحقة الاحتلال قضائياً بإصرار ومثابرة.

“في يوم الجمعة 16 يناير/ كانون الثاني 2009 كنت في غرفة بناتي، وكان ابني عبد الله (6 سنوات في ذلك الوقت) يلعب معي وقفز على ظهري مع مغادرتنا الغرفة، وفجأة دخلت قذيفة الدبابة الأولى إلى منزلنا الذي كان قد انقطع التيار الكهربائي عنه قبل ذلك، شأن بقية قطاع غزة في أيام ذلك العدوان (2008 – 2009)، ولم أصدق أنّنا نقصف إلّا حين وجدتُ نفسي داخل كتلة من الدخان الأسود وسط صراخ الأطفال. عندها أدركتُ أنّ بيتنا هو الذي أصيب، فدخلت غرفة البنات، لكنّهن تحولن إلى أشلاء، وما إن خرجت من الغرفة حتى دخلت قذيفة ثانية كادت تقتلني”. بهذه الكلمات وبدموع مخنوقة يصف الطبيب الفلسطيني عز الدين أبو العيش مأساة أسرته في ذلك اليوم. لم يكن وحده مع أطفاله، فقد كان شقيقه وأطفاله في منزله، فأصيب معظم الحضور ما عدا الطبيب الذي كان يعمل في مستشفى “الشهيد كمال عدوان” في غزة.

مأساة متكاملة

وسط الدماء والدخان الأسود، حاول الأب الطبيب تلمّس ما بقي من أشلاء وإصابات، متسائلاً: “لمَ لم أُصب مثلهم، لمَ لم أستشهد معهم؟”، فعاد إلى رباطة جأشه، محاولاً إسعاف بناته الثلاث اللواتي استشهدن: بيسان (21 عاماً) وميار (15 عاماً) وآية (13 عاماً) وابنة أخيه نور (16 عاماً) مع إصابة جميع مَن في المنزل. في تلك اللحظة كان له اتصال بصحافي إسرائيلي من القناة العاشرة للحديث عن الوضع في غزة تحت القصف، ولم يكن يدري أنّ المكالمة تُبَثّ على الهواء حين طالبه أبو العيش ببثّ نداء وقف القصف ليستطيع إسعاف مَن أصيب في منزله. كانت الدبابة التي أحاطت بالمنزل قبل يوم من القصف قد تحركت قليلاً، ما منح الطبيب شعوراً زائفاً بالاطمئنان إلى أنّ بيته لن يقصف قبل أن يكون في اليوم التالي على موعد مع مذبحة كان هو ومن بقي على قيد الحياة مصاباً شاهدين عليها “مع تدافع أبناء المخيم لانتشال الجثامين، إذ كان جيش الاحتلال يمنع بالنيران وصول الإسعاف”.

الحدث الدموي الذي يشير إليه الطبيب أبو العيش كان مسرحه مخيم جباليا منذ أكثر من 10 سنوات، وخلال كلّ تلك السنوات لم يتوقف عن ملاحقة قادة الاحتلال وجيشه أمام المحاكم الإسرائيلية، ومنها جلسة مارس/ آذار 2017 التي أجبر فيها المحكمة على أن تقيم مداولاتها باللغة الإنكليزية، لا العبرية. وبالرغم من انتقاله ومَن بقي من أطفاله أحياءً إلى كندا التي يحتل فيها اليوم منصباً رفيعاً في جامعة “تورونتو” كبروفسور أول في التخصيب والإنجاب، يستمر أبو العيش في ملاحقة الاحتلال. فقد جال في برلمانات أوروبية وفي الكونغرس الأميركي يعرض قضية بناته “كاختزال لكلّ الضحايا من الأطفال الفلسطينيين الذين تقتلهم الآلة العسكرية للاحتلال”. ومنذ الجلسة الأولى، أكد أبو العيش في مؤتمر صحافي في تل أبيب في 2017 أنّ “قضية أيّ طفل فلسطيني استشهد بنيران جيش الاحتلال ليست محل مقايضة بالمطلق، فأنا حضرت إلى هنا لأدافع عن حقوق بنات وصبية استشهدوا، ولم تكن لهم علاقة بكل ادعاءات ساسة الاحتلال وعسكره بأنّهم يقاتلون تنظيمات مسلحة في غزة”، بحسب ما يؤكد أبو العيش.

مرّ أبو العيش خلال رحلة إصراره على تجريم الاحتلال بمحطات عدة، ولم تثنِه محاولات محاكم الاحتلال عن التخلي عن القضية بأمور تعجيزية، ومنها مالية، كإلزامه بدفع 20 ألف شيكل (نحو 5800 دولار أميركي) عن كلّ ضحية “معتبرين المبالغ تلك عربوناً إذا ما خسرت القضية”. وبالفعل، ردت محاكم الاحتلال قضيته قبل عام وخسر الأموال تلك وألزمته بتكاليف المحكمة. وبالرغم من ذلك، تقدم باستئناف إلى المحكمة العليا التي ستنظر فيه، في 22 يناير/ كانون الثاني الجاري، بعدما فرضت عليه دفع 50 ألف شيكل (نحو 14.500 دولار) مرة أخرى: “تلك ليست قضية بناتي وحدهن، بل قضية شعب بأكمله. وما أقوم به منذ سنوات، محاولة بسيطة لإنصاف ضحايا الاحتلال، ولا أقبل أن يتحول شعبنا إلى مجرد أرقام، لا أطالب باعتذار على طريقة نحن متأسفون، بل أطالب باعتذار رسمي بما يحمله من تبعات تحميل مسؤولية عن تلك الجريمة، وبالتالي بقية الجرائم التي راح ضحيتها أطفال فلسطينيون بقصف متعمد واستهدف بيوتاً كثيرة في كلّ عدوان على القطاع”.

يتواجد أبو العيش في العاصمة البيروفية ليما، التي حضر إليها مدعواً إلى حضور تجسيد مأساة قتل بناته وابنة اخيه على مسرح الثقافة في ليما من خلال مسرحية أعدّ لها لثلاثة أشهر اعتماداً على كتابه الذي نشر بعنوان “لن أكره”، ومن خلال جهود قام بها السفير الفلسطيني وليد المؤقت، وبرعاية عدد من المؤسسات، من بينها الفيدرالية الفلسطينية والنادي الفلسطيني في البيرو، وبأداء ممثلي مسرح بيروفيين معروفين، وبحضور شعبي ودبلوماسي، في عرضين للمسرحية التي بدأت برواية النكبة الفلسطينية أولاً وقصة انتقال أسرة أبو العيش إلى مخيم جباليا بعد نكبة 1948 وأحلامه وتنقله للدراسة بين عدد من الدول، وصولاً إلى ارتقاء بناته وابنة أخيه شهيدات في العدوان الإسرائيلي على غزة 2008 – 2009.

إصرار على المواجهة

يصرّ أبو العيش، على مدى سنوات، على متابعة قضية بناته لتجريم الاحتلال وتحميله مسؤولية قتلهن وإصابة بقية العائلة، “فهنّ لسن أرقاماً، كنّ يحملن أحلاماً كبيرة ومتفوقات في الدراسة كأختهن شذا التي أصيبت إصابة خطيرة في عينها وكانت من المتفوقات في الثانوية”. يتحدث الرجل وهو يمسح دموعه باستحضار صور لا تفارق مخيلته عن تفاصيل نقلهن عبر الحواجز الإسرائيلية التي كانت تتعاطى مع الجرحى بكثير من اللامبالاة وكأنّهم يريدون لهم جميعاً الموت. وبالرغم من ذلك، ظلّ الأب والطبيب أبو العيش متماسكاً لحظة نقل بناته وابنة أخيه ومحاولة إنقاذ حياتهن بنقلهن إلى مستشفى إسرائيلي عبر حاجز إيريز.

وللعلم، فإنّ أبو العيش كان طبيباً معروفاً في مجال التوليد في مستشفيات الداخل الفلسطيني، فهو عمل فيها مثلما عمل في مستشفيات قطاع غزة بعد تخرجه من “هارفارد” وتخصصه في مجال الحمل والتوليد. تلك الشهرة ومعرفته بصحافي إسرائيلي جعلت قصة قصف منزله ومقتل بناته وابنة أخيه منقولة على الهواء مساء السادس عشر من يناير/ كانون الثاني 2009.
ويرى أبو العيش أنّ استشهاد بناته وافتضاح أمر القصف للمدنيين بنقل حيّ على الإذاعة، وضعا إيهود أولمرت وقادة جيش الاحتلال في وضع حرج في أثناء مفاوضات وقف إطلاق النار: “الفضيحة التي هزت مجتمع دولة الاحتلال، أنّهم كانوا يكذبون ويقولون إنّهم لا يقصفون سوى حماس، فيما فضحهم قتل بناتي وقصف منزلي، حين راح بعض الصحافيين يتحدثون عن أكاذيب أولمرت وقادة الجيش، قائلين إنّ من يُقصف هم المدنيون، فهذا الطبيب الفلسطيني الذي عالج وولّد في مستشفياتنا تُقتل بناته وابنة أخيه ويصاب مَن في منزله في جباليا، وهو مؤشر على مستوى الكذب”. ووسط تلك المأساة، ما زال أبو العيش يردد: “الحمد لله أنّ استشهاد بناتي كان سبباً في فضح ما جرى ودفع إيهود أولمرت، الذي يعرف من أكون، إلى إعلان وقف إطلاق نار في اليوم التالي للجريمة”.

يؤكد أبو العيش أنّ “الجلسة المقبلة في 22 يناير الجاري ستكون حاسمة، فإما تحكم المحكمة العليا الإسرائيلية لمصلحتنا أو ترفض وتؤكد حكم المحكمة السابق بردّ القضية، وفي الحالتين أنا أقولها صريحة: لن أجعل دولة الاحتلال تهدأ، ولن أتراجع عن قضية حق، وسأحمل القضية عندها إلى المحاكم الدولية، بما فيها محكمة الجنايات الدولية بعد استنفادي كلّ الطرق القانونية، وليتحمل حينها الاحتلال تبعات ما أنا مقدم عليه”. في الوقت عينه، يأمل أبو العيش من الجهات الفلسطينية أن تتعاون معه في قضية ملاحقة دولة الاحتلال: “القضية ليست خاصة ولا تتعلق بتعويض مالي، بل هي محاكمة لدولة الاحتلال وإنصاف لكلّ الضحايا، وتثبيت للرواية الفلسطينية التي يحاول كثيرون طمسها باعتبار الشهداء مجرد ضحايا ثانويين، خصوصاً المدنيين والأطفال منهم”.

وكانت تحقيقات إسرائيلية قد برأت جيش الاحتلال من جريمة قتل بنات أبو العيش وغيرهن من الأطفال الفلسطينيين في الحرب على غزة في ديسمبر/ كانون الأول 2008 ويناير/ كانون الثاني 2009، وهو ما دفع منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى إصدار تقرير في إبريل/ نيسان 2010 يحمّل الاحتلال مسؤولية القتل المتعمد للمدنيين بعنوان لافت “تجاھلٌ تام… الإفلات من العقاب على انتھاكات قوانين الحرب في أثناء حرب غزة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى