أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (9): في “قضية” الأرمن”… (2-2)..مَن الذي ذبحَ مَن؟!! عندما يتحول الساسة ورجال الدين إلى “مؤرخين”!

حامد اغبارية
كان الأرمن الذين يسكنون شرق الأناضول ضمن سلطة الخلافة العثمانية، يسعون إلى تحقيق الانفصال عن الدولة العلية، وإنشاء دولة نصرانية مسيحية تابعة للنظام القيصري في روسيا. وقد عملت دول الغرب الصليبي على تحريض الأرمن من أجل التمرد على الخلافة وإثارة القلاقل من خلال تقديم العون المالي والعسكري للعصابات الأرمنية التي بدأت تتشكل في أواخر القرن الثامن عشر.
في سنة 1796 ميلادية وقعت المدينة العثمانية “دربند” في الأناضول تحت حصار القوات الروسية، فعمل جواسيس الأرمن من داخل المدينة والمنطقة على تزويد القوات الروسية بالمعلومات المتعلقة بالإمدادات العثمانية للمدينة، الأمر الذي مكَّن الروس من السيطرة على المدينة. وواصل الأرمن تحالفهم مع القوات الروسية، وشاركت عصاباتهم المسلحة بالسلاح الروسي والأوروبي الغربي في غزو مناطق أخرى شرق الأناضول عام 1827 ميلادية، كما ساعدت تلك العصابات القوات الروسية في عملياتها العسكرية عام 1877 ميلادية، ولما بدا لهم أن الروس اقتطعوا أجزاء من الأناضول وسيطروا عليها بدأ الأرمن يتمردون في مواقع عدة في المنطقة، وعاثوا فسادا وقتلا وذبحا وتخريبا في القرى المسلمة في تلك المنطقة، وقد أشرت إلى هذا ببعض التفصيل في القسم الأول من هذا المقال. وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، استغل الأرمن انشغال الجيش العثماني بالحرب، في الوقت الذي أعلنت روسيا القيصرية الحرب على الدولة العثمانية، فرفع الأرمن من وتيرة تمردهم في شتى مناطق شرق الأناضول، وما أن دخل عام 1915 حتى تصاعدت جرائم الأرمن ضد المسلمين في مناطقهم، فلم يكن أمام السلطة العثمانية إلا أن تتخذ قرارا بنقل الأرمن من مناطقهم في شرق الأناضول إلى أماكن أخرى، بهدف عزلهم عن التواصل مع القوات الروسية. وقد صدرت القرارات الواضحة أن نقل الأرمن يجب أن يكون سلميا، مع الحرص على عدم إلحاق الأذى بأي منهم، وتوفير الرعاية الصحية للجميع وتوفير المؤونة الكافية لهم، وتوطينهم في أماكن مشابهة لأماكن سكناهم حتى لا يتضرروا اجتماعيا واقتصاديا. بل إن السلطان العثماني أصدر تعليماته بالسماح للأرمن المهجرين بنقل أموالهم، وأن تعاد إليهم مساكنهم التي خرجوا منها عندما يعودون إلى مناطقهم بعد انتهاء الأزمة، كما أمر بعدم إلحاق الأذى بكنائسهم وإصلاح ما تضرر منها جراء المعارك، رغم أن عصاباتهم هدمت المساجد وقتلت المصلين فيها، وأمر السلطان الخليفة بتوقيع العقوبة المشددة ضد كل من يؤذي مواطنا أرمنيا، بل أكثر من هذا، قال في تعليماته إن كل أرمني “اعتنق الإسلام” خوفا على حياته، يمكنه أن يعود إلى دينه. وقد وردت هذه المعلومات بالتفصيل في كتاب “الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين” للكاتب الأمريكي جاستن مكارثي، الذي أشرت إليه في القسم السابق من هذا المقال، وفيه يستند إلى وثائق عثمانية رسمية.
ومن الضروري هنا أن نذكر بمعلومة في غاية الأهمية، حتى تكون الصورة واضحة كما يجب. فقد كانت السلطة العثمانية في تلك الفترة (بين 1908 – 1915) تحت سيطرة الاتحاديين العلمانيين (حزب الاتحاد والترقي العلماني الماسوني) الذين ربطوا مصيرهم بالماسونية العلمانية وبالغرب الصليبي، ولم تكن الخلافة الإسلامية العثمانية أكثر من مجرد سلطة رمزية، وفي التالي إن كانت هناك جهة عثمانية تتحمل جانبا من المسؤولية عما وقع من أحداث (لا ترقى غلى مستوى الإبادة)، فإنها تقع على كاهل تلك القوى التي ساهمت مع الغرب الصليبي-الماسوني – الصهيوني في إسقاط الخلافة الإسلامية. علما أن ما حدث في الحقيقة ليس كما يصوره الغرب، وإنما كان سلوك العثمانيين رد فعل على جرائم ارتكبت بحق مواطنيها المسلمين، وكذلك سعيا منها إلى وقف التمرد الأرمني. وفي نهاية الأمر فإن ما يسمى “مذابح الأرمن” ليست سوى فرية غربية صليبية تهدف إلى ممارسة الضغوط والابتزاز السياسي لتركيا.
في طريق الهجرة الأرمنية من مناطقهم في الأناضول ماتت أعداد كبيرة منها في تلك السنة (1915) جراء البرد الشديد والثلوج والأمراض، ولم يحدث أن تعرضوا لعمليات إبادة كما يفترى الغرب الصليبي.
عندما احتلت القوات الصليبية البريطانية والفرنسية والإيطالية عاصمة الدنيا يومها (اسطنبول) في تشرين الثاني 1918 ولغاية عام 1923، عملت بريطانيا على وجه الخصوص جاهدة على البحث عن وثائق تدين العثمانيين في مذابح الأرمن، لكنها صُدمت عندما وجدت العكس تماما. فقد كشفت الوثائق العثمانية الرسمية حجم الكذبة التي أطلقها الأرمن والروس على وجه الخصوص، حيث تحدثت جميع الوثائق عن القرارات بحماية الأرمن والحفاظ على حياتهم، وكافة التفاصيل التي أشرت إليها أعلاه، إضافة إلى وثيقة تأمر بتعويض كل أرمني فقد آلته الصناعية التي يسترزق منها بآلة جديدة. وقد اضطرت بريطانيا إلى الاعتراف بأن “إبادة الأرمن” لم تكن سوى كذبة كبيرة، بل هي واحدة من أكبر أكاذيب التاريخ. هذا علما أن الوثائق العثمانية الرسمية أشارت بوضوح إلى تآمر عصابات الأرمن مع القوات الروسية ومحاولات التمرد والمذابح التي ارتكبتها ضد المسلمين، لكنها فرّقت بين العصابات ذات الأجندات الغربية – الروسية، وبين المواطن الأرمني العثماني المدني، الذي وقع ضحية لأطماع العصابات وأطماع الروس.
فهل كان أحد يتوقع من السلطات العثمانية أن تسكت على خيانة مواطنيها الأرمن الذين تآمروا على وطنهم الأم مع الروس الطامعين بالأراضي العثمانية؟ هل هناك دولة يسعها أن تغض الطرف عن خيانة مجموعات من مواطنيها ضدها وتحالفها مع قوى خارجية تكيد للبلاد؟ أين يمكننا أن نجد دولة كهذه على وجه الأرض؟
لقد عملت روسيا القيصرية على تحريض الأرمن ضد وطنهم، ومدت العصابات الأرمنية بالسلاح، وقدمت لهم كل الإمكانات والتدريبات العسكرية، وساهم ضباطها في وضع خطط التمرد ضد السطات العثمانية، ثم منحت تلك العصابات الأراضي التي احتلتها في شرق الأناضول بعد أن طردت منها من بقي حيا من سكانها المسلمين، وذلك على مدار عدة قرون، وليس فقط في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وكانت الفظائع التي ارتكبها الجيش الروسي في القرى والبلدات العثمانية التي يشكل المسلمون غالبية سكانها أضعاف ما ارتكبته العصابات الأرمنية، فكانت تعمد إلى القرية الواحدة، وتقتل كل متحرك فيها، ثم تسلب وتنهب، وبعد ذلك تطرد منها من بقي من المسلمين على قيد الحياة، ثم تسلم القريبة بما فيها للأرمن.
ولا يخفى على أحد اليوم تحديدا الجرائم والمجازر التي ارتكبها الروس سواء زمن الحكم القيصري أو الشيوعي لاحقا، وسواء اليوم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وما حدث في الشيشان وأفغانستان وما يحدث في سوريا اليوم ليس عنا ببعيد.
فما الذي يجعل حفنة من الدول الاستعمارية (22 دولة بينها المشروع الصهيوني) تعترف بكذبة إبادة الأرمن، في الوقت الذي ترفض أكثر من 190 دولة في العالم هذه الفرية؟
إن للغرب الصليبي ولروسيا ثأرا مع الخلافة العثمانية لا تريد أن تناساه، خاصة فتح القسطنطينية التي تحولت لاحقا إلى حاضرة الخلافة العثمانية، وأصبحت في أذهان شعوب العالم عاصمة الدنيا.
لقد سعى الغرب الصليبي والمحفل الماسوني والمشروع الصهيوني إلى إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية بدوافع دينية بحتة، وهم يبذلون اليوم كل جهد ووسيلة لمنع نهوض تركيا المسلمة من جديد، اعتقادا من هؤلاء أن تركيا تملك كل المقومات التي تمكنها من إعادة تجميع العالم الإسلامي ليشكل قوة تهدد الهيمنة الغربية الصليبية – الصهيونية على مقدرات شعوب الأرض قاطبة. ولعلنا نلاحظ أن إثارة قضية “مذابح الأرمن” بوتيرة متصاعدة بدأت تحديدا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا والتغييرات ذات الطابع الإسلامي التي حققتها السلطات التركية، وسعيها إلى إخراج تركيا من التبعية الاقتصادية والعسكرية للغرب، سعيا للوصول إلى العام 2023، وهو العام الذي ستسقط فيه أغلال اتفاقية لوزان الثانية المذلة، التي حالت دون النهضة التركية طوال قرن من الزمن.
لقد تحدت السلطات التركية كل تلك القوى التي تتحدث عن “مذابح الأرمن” بأن تضع كل شيء فوق الطاولة، وأن تترك للمؤرخين والباحثين أن يقولوا كلمتهم في هذه المسألة، وعدم تجيير القضية لتحقيق مصالح وأهداف سياسية قذرة تسعى إلى توجيه طعنة للنهضة التركية. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد عقب عام 2016 على تصريحات لبابا الفاتيكان فرنسيس الأول، الذي تحدث عن “إبادة الأرمن” في احتفال ديني مسيحي في كنيسة “القديس بطرس”، في روما، مشيرا إلى أن “المجازر التي ارتكبتها السلطنة العثمانية بحق الأرمن هي عمليات إبادة”، مناقضا بذلك تصريحاته التي قالها لدى زيارته قبل ذلك لتركيا نفسها عام 2014. وهذا يشير إلى الدور الذي تلعبه دولة الفاتيكان في الكثير من الأحداث خدمة للمصالح الصليبية والصهيونية.
وقد قال الرئيس أردوغان ردا على تصريحات فرنسيس الأول: “إذا لعب رجال الدين دور المؤرخين فإن النتيجة ستكون التحريف وعدم الواقعية. ولا يجب أن نسمح بأن تنتزع الأحداث التاريخية من سياقها وزمنها وتصبح أداة لصالح بعض الدول والشعوب. وإذا كنا نرغب في مناقشة المسألة الأرمنية فعلينا طرح القضية بصورة صحيحة، وهذا من شأن المؤرخين، ونحن على استعداد تام لفتح كافة أراشيفنا. ولكن عندما يؤدي السياسيون ورجال الدين دور المؤرخين فإنه ينتج عن ذلك حالة من الهذيان”. كما أكدت الخارجية التركية أن تصريحات البابا تحمل عقلية الحروب الصليبية.
وهذه هي حقيقة الأمر.. نفَسٌ صليبي يؤُزُّه نفَسٌ صهيوني ليس فقط ضد كل ما يتعلق بتركيا الحديثة أو بالخلافة العثمانية، وإنما بكل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى