رسائل من أغلى الغوالي

الشيخ كمال خطيب
إنها قصة ألزمته ظروف الحياة أن يسافر إلى بلاد بعيدة طلبًا للرزق تاركًا خلفه زوجته وابنته وولدين، وكان الوالد يحب أبناءه وزوجته، وكذلك هم كانوا يبادلونه نفس الحب سوى أنها الظروف الصعبة وطلب الرزق جعله يسافر بعيدًا أو يتركهم.
وكان الوالد يتواصل مع أبنائه وزوجته عبر الرسائل البريدية يكتبها لهم. أرسل الوالد رسالته الأولى ووصلت إليهم وأخذوا يمسكونها بشغف بل ويقبّلونها لأنها من عند أحب الأحباب الوالد الغالي، لكنهم لم يفتحوا الرسالة وإنما وضعوها في علبة ثمينة مغلفة بقطيفة “قماش مخملي” حرصًا عليها واعتزازًا بها. وبين المدة والمدة كانوا يخرجون الرسالة من علبة القطيفة ينظرون إليها ويمسحون ما علق بها من غبار ثم يعيدونها من غير قراءتها، وهكذا فعل بعد وصول الرسالة الثانية والثالثة إليهم من والدهم.
مضت السنون ورجع الوالد من سفره وهو مشتاق لعائلته لكن المفاجأة كانت أنه لم يجد من الأسرة إلّا ولدًا واحدًا، فسأله الأب: أين أمك؟ فقال له ابنه: لقد أصابها يا أبي مرض عضال ولم يكن معنا من المال ما يكفي لنعالجها فماتت. فقال الأب وبغضب ممزوج بالألم: ألم تفتحوا الرسالة الأولى وفيها أوراق نقدية كثيرة أرسلتها لكم لتنفقوا منها؟ ثم قال الوالد لابنه: وأين أخوك؟ قال: يا أبت لقد تعرّف أخي على أصدقاء سوء بعد موت أمي ولم يجد من ينصحه ويوجهه فانحرف وضلّ السبيل ولم يرجع إلى البيت، ولا ندري أين هو اليوم. قال الأب: ولكن لماذا لم تقرأوا الرسالة الثانية كتبت له فيها أن يحذر رفقاء السوء وألّا يصاحب إلّا الشباب الأتقياء، لا بل إنني كتبت له فيها أن يأتي إليّ، فقال الابن لا يا والدي إننا لم نقرأ الرسالة ولكننا احتفظنا فيها في علبة القطيفة.
ثم سأل الأب وحزن وغضب، وأين أختك؟ فقال الابن: لقد تزوجت من الشاب الذي أرسلت إليك تستشيرك في زواجها منه، لكنها لم تأخذ بنصيحتك وهي اليوم تعيسة أشد التعاسة مع زوجها ويوشك أن يقع بينهما الطلاق. فقال الأب: ولكن ألم تقرأوا رسالتي الثالثة وقد كتبت لكم فيها أن سمعة ذلك الشاب سيئة ورفضت أن أزوجه ابنتي، فلماذا فعلت عكس ما كتبت. فقال الابن: يا والدي إننا لم نقرأ الرسائل أبدًا، ولكننا كنا نقبّلها ونحملها ونحتفظ بها في علبة القطيفة تقديرًا لك وحبًا لك.
لقد تفككت الأسرة وتبعثر شملها وضاعت في سراديب الحياة وعاشت عيش الذل والفرقة والهوان والحياة الضنك لأنها لم تقرأ رسائل الأب الحريص المحب ولم تعمل بها، وإنما اكتفت بتقبيل الرسائل والحفاظ عليها في علبة ثمينة.
هكذا هو حال أمتنا وبيوتنا مع القرآن الكريم كتاب رب العالمين كحال هذه الأسرة مع رسائل الوالد رب العائلة في هذه القصة الرمزية.
كم منا هم الذين يحتفظون بالمصحف الشريف في علبة جميلة ثمينة يزينون بها الطاولات في الصالون أو يزينون بها المكتبات وفيها القرآن الكريم ولا يفتحونه أبدًا، وإنما عند المناسبات يقومون بتنظيف العلبة ويمسحون الغبار عنها ثم تقبّل الأم والبنت أو الولد هذا المصحف ثم يعيدونه داخل العلبة دون أن يقرأوا رسائل الله فيه.
إنها البيوت الكثيرة من بيوتنا لا ترى في القرآن الكريم إلا شيئًا مقدسًا ويكون سببًا للبركة والحفظ، وليس أنه منهاج حياة ودستور لبناء الأسرة والأمة. إنهم يهجرون القرآن فلا يقرأونه إلا في شهر رمضان أو عند موت عزيز ثم يعيدونه إلى تلك العلبة.
كم من البيوت التي تفككت اجتماعيًا وانهارت وتبعثرت فكريًا وأخلاقيًا وضلّت البوصلة سياسيًا وعقائديًا لا لشيء إلا لأنها لم تقرأ رسائل رب العالمين الموجهة في قرآنه إلى بيوتنا وأبنائنا وبناتنا.
وإن مثل تفكك البيوت فإنه تفكك الأمة الإسلامية وتمزقها، ومظاهر الفقر والجهل والذلّ والتبعية فيها للشرق والغرب لا لشيء إلا لأنها لم تقرأ جيدًا رسائل الله في القرآن الكريم حيث أمرنا بالتعليم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} آية 1 سورة العلق. وأمرنا بالوحدة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} آية 103 سورة آل عمران. وأمرنا بإعداد القوة {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُون َ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} آية 60 سورة الأنفال. وأمرنا ألّا نوالي أعداء الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} آية 13 سورة الممتحنة. وقد أمرنا بحسن تربية الأولاد على الأخلاق الفاضلة والسلوكيات الحميدة، فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} آية 58 سورة النور.
لقد أغفلنا رسائل الله لنا وإذ بنا نعود ونعيش في ضلالة وفي جهل وفي ذلّ، ونحن الذين جاء الإسلام وجاء القرآن وجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليعلمنا من جهالة ويهدينا من ضلالة ويوحدنا بعد فرقة بل ويجعلنا سادة الدنيا وقادتها بعد أن كنا قبائل متناحرة لا يعبأ بنا أحد.
ويومها واليوم وفي كل يوم فما أحوجنا إلى أن نحسن فهم القرآن وتدبر آياته والعمل بها لأن في ذلك عز الدنيا وفلاح الآخرة، وما ينطبق على حالة الأسرة فإنه ينطبق على حال الأمة فلا شفاء ولا نجاة ولا خلاص إلّا بالقرآن، وكما قال الشاعر:
الله للدين كم ظلمًا أهين وكم ظنوه نقصًا وفي التفكير نقصان
سل صفحة الأمس عمّن أيدوه أما كانت لهم في نواحي الأرض تيجان
دين الحضارة والأخلاق أسعدهم فمذ أهانوه قد ذلّوا وقد هانوا
عدل من الله تأييدًا لسنته حظ المقصر إقصاء وحرمان
يا قوم لوذوا بحبل الله واعتصموا إن الدواء لداء العرب قرآنُ
إنه القرآن الكريم كلام رب العالمين أرسله مع جبريل أمين السماء إلى محمد صلى الله عليه وسلم أمين الأرض. فكيف لا تقرأ رسائل رب العالمين إليك أيها المسلم وفيها الخير كل الخير لك. إنها رسائل رب الأرباب أغلى الغوالي فلا تهجرها بل اقرأها واعمل بكل ما ورد فيها.
# كأنك تقرأه على الله تعالى
بلغ الإمام احمد بن حنبل أن أحد تلامذته يقوم الليل حتى الفجر ويختم القرآن الكريم كاملًا خلال صلاته. أدرك الإمام أحمد أن تلميذه وإن كان يختم القرآن في ليلة إلا أنه يكون قد قرأه بدون تدبر وفهم لمعانيه فأرسل إليه ليعلّمه كيف يتدبر القرآن، فقال له: بلغني أنك تفعل كذا وكذا في صلاة الليل، فقال التلميذ: نعم صحيح ما بلغك يا إمام.
قال له الإمام أحمد: اذهب الليلة وقم لصلاة الليل كما كنت تقوم ولكن اقرأ القرآن وكأنك تقرأه عليّ، أي كأنني أراقب قراءتك ثم ارجع إليّ في الغد وأبلغني عن قراءتك. رجع تلميذ الإمام أحمد في اليوم التالي فسأله الإمام أحمد كيف فعلت؟ فقال التلميذ: لم أقرأ سوى عشرة أجزاء يا إمام.
فقال له الإمام أحمد: اذهب الليلة وقم لصلاة الليل كما كنت تقوم ولكن اقرأ القرآن كأنك تقرأه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. رجع التلميذ في اليوم التالي وقال: يا إمام، والله ما استطعت إكمال جزء عمّ. فقال له الإمام أحمد: اذهب الليلة وقم لصلاة الليل كما كنت تقوم ولكن اقرأ القرآن كأنك تقرأه على الله جل جلاله. دهش التلميذ من هذا الطلب ولكنه استجاب ولم يخالف ما أمره به الإمام أحمد. وفي اليوم التالي رجع التلميذ باكيًا حزينًا وتبدو عليه آثار السهر، فسأله الإمام أحمد: كيف فعلت الليلة يا ولدي؟ فقال التلميذ: يا إمام والله لم أكمل سورة الفاتحة طوال الليل، فكلما قرأت آية غمرني الشعور بالرهبة والجلال وأنا أخاطب الله تعالى بقوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. وقوله قبلها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وكنت أعود على الآية عشرات المرات وأنا أرددها ولا أتمالك نفسي من البكاء.
نعم إنه القرآن كلام الله لنا، فاقرأ كلام الله بقلبك وجوارحك كلها، وليس فقط بلسانك. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل بآية واحدة يظل يرددها ويبكي هي قوله سبحانه {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آية 118 سورة المائدة. ولمّا قال يومًا صلى الله عليه وسلم لابن مسعود “اقرأ عليّ” فقال ابن مسعود: أعليك أقرأ وعليك أنزل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أحب أن أسمعه من غيري؟ قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلمّا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} آية 41 سورة النساء، رأيت عيني رسول الله تذرفان يقول لي حسبك حسبك.
وهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه كان إذا نشر المصحف بين يديه غُشي عليه ولا يُسمع إلّا وهو يقول كلام ربي كلام ربي، بينما كثيرون منا اليوم لا يوقّرون المصحف لا وهو يتلى حيث ينشغلون عنه بالكلام، ولا حين يكون ملقى في أي مكان في البيت.
وكان تميم الداري رضي الله عنه يقوم الليل في آية واحدة من القرآن يظل يرددها في قوله سبحانه {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} آية 21 سورة الجاثية.
وهذا سعيد بن جبير رحمه الله يقوم ليلة كاملة يردد قول الله تعالى {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} آية 59 سورة يٰس.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع نشيجه من البكاء من آخر الصفوف وهو يتلو قول الله تعالى في سورة يوسف {إِنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّى وَحُزْنِىٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 86 سورة يوسف.
وهذه أمنا عائشة رضي الله عنها سُمعت وهي تبكي تردد قول الله تعالى في قيام الليل {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} اية 27 سورة الطور.
نعم هكذا يجب أن يكون حسن تعاملنا وأدبنا مع كلام ربنا سبحانه نتلوه ونتدبره كأننا نقرأه بين يدي رب العالمين جلّ جلاله.
# عند الأذان يكرم المرء أو يهان
كما أن القرآن لا بد أن نتدبر آياته لنحسن فهمه وليس مجرد قراءته وتكرار ختماته كذلك الأذان والدعوة للصلاة فإن له معان لا بد أن نفهمها وندرك مراميها. فأنت أيها المسلم لمّا تسمع صوت المؤذن يقول – حيّ على الصلاة حي على الفلاح- وكما يقول الدكتور حسان شمسي باشا: “فإنها إيذان بانطلاق جولة جديدة من معركة الإنسان مع الشيطان فهو سيسعى جاهدًا ليصد ابن آدم عن ذكر الله وعن الصلاة وإجابة النداء. فالأذان يصل إلى الجميع ولكن الناس يختلفون، فمنهم منتصر ومنهم منهزم فهذا يسمعه فيدع كل ما كان ينشغل به ويجيب النداء ويذهب للمسجد للصلاة، وهذا يجيب النداء ولكنه يصلي في بيته، وثالث لا يستجيب للنداء إلّا بعد أن يسمع النداء الآخر أي يؤخر الصلاة عن وقتها، بينما رابع وما أكثرهم من أبناء المسلمين فإنه لا يستجيب للنداء ولا يفهم معاني الأذان وينتصر عليه الشيطان فلا يصلي أبدًا. وهكذا يستخرج الأذان ما في القلوب من إيمان ويكشف لكل عبد درجة إيمانه، فإذا كان الإيمان يعرف عند كما قال الله سبحانه الطاعات {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} آية 1-2 سورة المؤمنون. وإذا قيل عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، فإن أصدق منها القول عند الأذان يكرم المرء أو يهان. فالكرامة هي لمن يلبي النداء، والخسران والإهانة هي لمن يصمّ الآذان عند سماع الأذان.
إن الرسالة تصلك بالبريد من حبيب وغالٍ على قلبك، فإنك تفتحها بشغف وتقرأها حرفًا حرفًا، وتتمعن في كلامها بتدبر ولعلك تعود لقراءتها مرة ومرة لأنها توصلك وتذكرك بالحبيب الغالي، فكيف يكون حالك أيها المسلم مع القرآن الكريم إنه كتاب ورسالة أغلى الغوالي.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون



