أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

على هامش البرامج الوثائقية الإسرائيلية.. أجهزة الامن والعلاقات مع المجتمع الاسرائيلي

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي

إعلام محايد!!
تزداد الحاجة يوما بعد يوم إلى دراسات عميقة ومنهجية لإسرائيل مجتمعا وثقافة ومؤسسات وتطورا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، خاصة في ظل تناقضات وتعقيدات المشهد الاسرائيلي على كافة الأصعدة في السياق المحلي وتقدمها العالمي بل والكوني، ووقوف دول كبيرة الى جانبها مما يعني اننا ما زلنا امام المعادلة القرآنية “وحبل من الناس” التي لَمّا يوفى بعدُ حظها من التفسير والتنظير على ضوء مستجدات الحياة.
في العشريات الاخيرة تزداد أهمية العلاقة بين الإعلام والامن، باعتبار الاعلام بكل أنواعه بما فيه السايبر أداة من أدوات القوة الشعبية والامنية والسياسية عامة وله تداعيات مباشرة على الامن القومي خاصة.
ثمة علاقة عميقة وجدلية بين الامن والاعلام وتأثيراته على المناخ المجتمعي والشعبي خاصة في صيرورات وكيفية ومحكمات هذه العلاقة، خاصة اثناء التوترات والحروب، ففي عصر سيولة المعلومة وسرعة انتقالها بل وفي احايين كثيرة استحالة السيطرة عليها في ظل من يملكون ادوات التعامل مع تعقيدات الشبكة العنكبوتية وأدوات التواصل الاجتماعي، تصبح هذه العلاقة أكثر أهمية للباحثين والمراقبين ويُلحَظُ متابعات جادة لهذا الموضوع من طرف العديد من مراكز البحث الاسرائيلية والدولية.
في إسرائيل ثمة أبحاث تتناول وظيفة الاعلام الاسرائيلي اثناء الحروب وكيفية تغطيته للعمليات الخاصة للجيش أو أجهزة الامن كما دور الاعلام في العلاقة بين الجيش/ أجهزة الامن والمجتمع فضلا عن مسألة حريات التعبير عن الرأي وعلاقاتها مع أجندات الجيش وعملياته المختلفة ومدى اطلاع المجتمع على تلكم العمليات، ولعل من تابع ليلة الخميس الفائتة برنامج المحقق الاعلامي أساف ليبرمان في برنامجه الوثائقي زمن الحقيقة: زمان إميت يدرك جدل هذه العلاقة وحساسيتها بالنسبة للجهاز العسكري الذي يتم تصويره بأنه الجيش الأكثر أخلاقية في العالم.
تتناول العديد من الابحاث الاسرائيلية العلاقات بين الجيش وأجهزة الامن والمستوى السياسي وكيفية تناول الاخبار ذات الصلة بالأمن والامن القومي، وخلاصات هذه الدراسات أنها تعتمد النقد كأداة للمراجعات والتوجيه، وإبقاء الصورة الوردية لهذه المؤسسة، وفي المقابل ثمة دراسات تبحث آثار وتداعيات أدوات التواصل على القيادات السياسية والعسكرية كلُّ على حدة ومعا، وكيفية ضبط هذه العلاقة بما يخدم الامن القومي.
لا يوجد شيء اسمه إعلام محايد فالإعلام وظيفته الاساس خدمة اجندات الدول التي يصدر منها أو من يمولونه من مؤسسات وهيئات وحركات وجمعيات، وعادة ما تكون هذه الخدمات في سياق الدولة والجيش خدمات ذات طابع إستراتيجي مهمته حماية الدولة والجيش.
في ظل هذه الخلفية نتطرق الى علاقة الاعلام والامن في اسرائيل من خلال البرامج التي تمَّ بثها مؤخرا في الفضائيات الثلاثة كان 11 وقناة 12 وقناة 13، وهذه الفضائيات تقوم منذ فترة بتناول العديد من القضايا الأمنية والعسكرية ذات الحساسية العليا من جهة والرصيد التاريخي من جهة أخرى، وهذه الفضائيات الثلاثة تتناول هذه المواضيع بنوع من النقد المبطن من جهة وتبييض وجه هذه المؤسسة من جهة أخرى.
في هذه المقالة أتناول الافلام الاربعة التي بثت في الاسبوعين الاخيرين. القناة كان 11 بثت فيلما عن محاولة العسكر وأجهزة الامن اغتيال قادة حماس عام 2003 وتراجعه عن ذلك باحثا الاسباب والتداعيات لهذا التراجع من منظور تاريخي وراهن، والقناة 12 بثت فيلما وثائقيا عن فشل عملية “سييرت متكال” العام الماضي في غزة، فيما بثّت القناة 13 فيلمين، الاول عن فشل سييرت متكال في غزة من زوايا مختلفة عما طرحته قناة 12 وكلاهما تناولا ابعادا نقدية وتوجيهية وتعظيما وتبجيلا لهذه الوحدة، ويوم الاربعاء الماضي بثت فيلما وثائقيا عن اغتيال الزعيم الفلسطيني خليل الوزير “أبو جهاد”.

مؤسسة متكاملة ومتظافرة

المؤسسة الإسرائيلية، مؤسسة متكاملة ومترابطة ويخدم بعضها البعض وفلسفة فصل السلطات القائم في بينها هو حالة مظهرية ليس إلا، وتتجلى تكاملية هذه المؤسسات في كثير من الاحداث ومن نافلة القول الى ان العلاقة بين الاعلام والجيش في السياق الاسرائيلي قد تم تحديد معالمه، خطوطه وأدواته منذ لحظات السنوات الاولى من عمر إسرائيل، وتم تقنين ذلك قانونيا وعبر مجموعة من التوجيهات الامنية والعسكرية، ولعل من الدلالات المباشرة التي يتم الحديث عنها هذه الايام بيان عمق العلاقات بين هذه الاجهزة المكونة لهذه المؤسسة، فمثلا الاشارة الى دور المحكمة العليا في حماية سياسات وسلوكيات مختلف الأجهزة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على ديموقراطية الدولة. وفي هذا السياق مثلا يعتبر القاضي شمغار الاب الروحي لسياسات حماية مؤسسات الدولة وهو الذي حوّل المحكمة العليا إلى حليف لمؤسسات الجيش والامن وفي الوقت ذاته كرس الاحتلال والاستيطان، حوّل المحكمة العليا إلى أنموذج عالمي للديموقراطية يوم سمح للفلسطينيين بالتوجه للعليا. تماما تقوم بهذه المهمة وبشكل مبدع المؤسسات الاعلامية الاسرائيلية التي تتناول هذه الايام العديد من المواضيع الأمنية المباشرة ذات الصلة بالعرب والفلسطينيين.
كما أشرت سابقا يلاحظ في الآونة الاخيرة تسارع وتنافس القنوات الاسرائيلية الثلاثة، كان 11 وقناة 12 و13 في بث أفلام وثائقية ذات طابع أمني تركز على دور قوات الامن الاسرائيلية المختلفة في الحفاظ على وجود إسرائيل، والحفاظ على المجتمع الإسرائيلي، تتناول بطولات هذه القوات، أعمالها والفرص التي ضيعتها، وكلها تتناول الصراع مع الشعب الفلسطيني، ومعظم هذه الافلام تتناول عمليات قامت بها هذه القوات خارج اسرائيل وفي العمق العربي. يُلاحظ الاهتمام والاستثمار والجهد المبذول في هذه الافلام وحجم الجهود المبذولة فيها والتي تترجم الى أموال، مما يعني اننا أمام تمويل موجه لهذه الأفلام، وهو ما يؤكد ما أشرنا اليه من تعاقدية العلاقة بين المؤسسة العسكرية والاعلام.
يتم بث هذه الافلام بعد النشرات الاخبارية حيث ساعات الذروة في المشاهدة، ويتم بثها مباشرة على التطبيقات الخاصة بهذه القنوات، ويسبق بث هذه البرامج الوثائقية سيلا من الدعاية والاعلانات لهذه الافلام الوثائقية، وعادة ما تحتوي هذه الافلام على كشف وسبق لأول مرة تعرضه هذه القناة أو تلك، وكأن تقسيم هذا الكشف موزع بعناية بين هذه القنوات الثلاثة. وأنت بين هذا وذاك تلحظ وبقوة شريط الرقيب العسكري كيف تمتد يده الى عديد المشاهد والمقابلات فلماذا هذه الحملة من هذه الافلام وبهذا التوقيت بالذات؟ هل لهذا علاقة بتطورات المشهد السياسي-الامني في المنطقة عموما والى اين تتجه المنطقة؟ أم أن للأمر علاقة في تآكل قوتي الردع والحسم وهو ما ترك آثاره على المجتمع الاسرائيلي الذي تتجلى بعضا من معالمه في الاقبال غير المتوقع للحصول على جوازات سفر برتغالية؟ وهل لهذا علاقة في ارتفاع قوة الردع والمواجهة لدى المقاومة خاصة في القطاع وآثاره المباشرة على جنوب البلاد التي تعتبر وفقا للمخطط الاستراتيجي الاسرائيلي خزان المستقبل المادي والبشري لإسرائيل دولة وشعبا وكادرا وقوة؟ أم هناك علاقة بين مستويات الثقة البينية داخل المؤسسة العسكرية والامنية من جهة، والعلاقات مع المجتمع الإسرائيلي، حيث لا تزال الخدمة العسكرية إلزامية ومعلوم أنَّ أجهزة الامن استحوذت على مدار عقود متتالية على الدرجة الاعلى من ثقة الجمهور متجاوزة جهاز القضاء؟ وهل لهذا علاقة مثلا مع ما يتردد من تخوف المجتمع الاسرائيلي من حرب مستقبلية مع المقاومة الفلسطينية ستكون فيه المدن الاسرائيلية كلها تحت رحمة نيران المقاومة، مما يعني تهيئة لمرحلة قادمة تكون فيها البلاد كلها مسرحا لحرب تحتاج الى مجتمع متماسك ويثق بهذه المؤسسات الحامية له وللدولة؟ وهل لهذه الافلام علاقة مع حالات التآكل التي تتعرض لها المؤسسة الامنية الاسرائيلية في السنوات الاخيرة ممثلا بعدم التحاق النخب الاسرائيلية الى القوات الخاصة وانتقالهم الى وحدات امنية-تابعة للوحدات التكنولوجية المتقدمة ولوحدات السايبر والتي تقود معركة ظلال مع المقاومة وتدير دفة العمل في عالمنا العربي والاسلامي (وفقا للأفلام المنشورة).
يقابل ذلك تقدم وتدافع مستمر للمنتسبين للوحدات القتالية ووحدات النخب القتالية من قبل ابناء التيار الديني- الصهيوني، وهوما يعني أن مستقبل المجتمع الاسرائيلي سيكون بين يدي هؤلاء، خاصة إذا علمنا ان خريجي هذه الوحدات هم من يقود البلاد سياسيا ومجتمعيا واقتصاديا، وهذه الافلام اشبه بنداء الى ابناء المجتمع الاسرائيلي غير المتدين للإسراع والعودة الى هذه الوحدات لتبقى هذه المجموعة تقود دفة هذه الدولة كما الحال منذ قيامها.
في هذا السياق ثمة من يتحدث بصوت خافت عن تراجع القوة الاشكنازية الحاكمة للبلاد، حتى أن نتنياهو نفسه أعلن ذات يوم أن اصوله ليست اشكنازية بل سفاردية، وهذا معناه تسارع انتقال القيادة العسكرية من النخب المتشكنزة الى آخرين من فئات المجتمع الإسرائيلي وتتجلى هذه القضية في حالة الشعبوية السياسية المسيطرة على المشهد السياسي والتي يقودها في المعظم يهود المشرق.
لماذا هذا التوقيت؟
في القناة كان 11 يتناول آساف ليبرمان في برامجه الوثائقية العديد من القضايا ذات الصلة الأمنية، وقد كان آخرها تضييع أجهزة الامن لفرصة القضاء على كافة قيادات حماس اثناء الانتفاضة الثانية في عام 2003 وناقشت اسباب تضييع هذه الفرصة التاريخية، وقد كان واضحا أن البرنامج يسعى للتأكيد على القيم الاخلاقية الناظمة للعملين العسكري والمخابراتي وهي رسالة واضحة وقوية ترسل من اسرائيل الى دول اجنبية ومنظمات اجنبية بما فيها الامم المتحدة. تم التأكيد على البعد الاخلاقي في اتخاذ القرارات حول العملية سواء تنفيذا او تراجعا، في المقابل عرضت المحققة التلفزيونية إيلانه ديان فيلمها الوثائقي حول المجموعة الخاصة (سييرت متكال) التي اقتحمت غزة العام الماضي ومنيت بفشل ذريع وقتل قائدها، وعرضت فيه مشاهد وحقائق تعرض لأول مرة نافست فيه ما عرضه المحلل العسكري في القناة 13 آلون بن دافيد في برنامجه الوثائقي الذي يبث كل يوم الأربعاء، وهذه السلسة مكونة من ستة حلقات وقد بث في حلقته الاولى فيلما وثائقيا حول نفس موضوع ايلانه، وقد عرض بعضا من وقائع فشل مجموعة سييرت متكال في غزة في العام الماضي وكشف عن حرب الظلال الشرسة الدائرة بين المقاومة ومختلف الاجهزة الإسرائيلية، هذا وقد كان فيلمه الوثائقي هذا الاسبوع عن مقتل الزعيم الفلسطيني قائد الانتفاضة الاولى من طرف فتح خليل الوزير والشخصية الاقوى في تاريخ حركة النضال الفلسطيني، وقد تعرض الفيلم الى دقائق تفصيلية تناولت كيف اغتالت اسرائيل هذا الزعيم الفذ، والملفت للنظر أنه بعد عرضه، تناولت العديد من وسائل الاعلام العربية حقائق مثيرة حول هذه العملية ايضا تُقال لأول مرة يمكن للقارئ الكريم والقارئة الكريمة أن يطلعوا عليها في مظانها، وهو ما يثير العديد من الاسئلة التي تتعلق بالملف الفلسطيني وكشف عن حجم المتابعة والدراسة والمراقبة للشخص المقصود وكيف يتم اتخاذ القرار وتناول سلبيات وايجابيات العملية في سياق استراتيجي وقدا شترك في هذه العملية اكثر من أربعة الاف جندي وقائد.
هذه البرامج الثلاثة تثير العديد من التساؤلات حول بثها في هذا الوقت بالذات، ففضلا عن المنافسة بين هذه القنوات وفضلا عن حاجة اجهزة الامن الاسرائيلية لإعادة ثقتها مع جمهورها الإسرائيلي، فإننا أمام واقع جديد فرضته المقاومة الاسلامية الفلسطينية، وما المؤسسة الاسرائيلية في عمليتها في غزة العام المنصرم وتوقفها عن قتل قيادات الحركة في اللحظة الاخيرة واستبدالها بسياسات بالاغتيالات المباشرة لعديد القيادات الحمساوية وفي مقدمتها الشيخ المؤسس احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، إلا غيض من فيض الحروب التي تدور رحاها بين الاحتلال والمقاومة، فهل تريد المؤسسة العسكرية أن توصل رسالة الى المجتمع الاسرائيلي الذي تغلغلت فيه الشعبوية لدرجة باتت تهدد الحياة الديموقراطية وعلاقة الامن بالديموقراطية تفيد بأنّ المؤسسة الاسرائيلية ما زالت تمثل عين الرقيب والحامي للمجتمع وللدولة.
كل مطلع على العلاقات البينية داخل الاجهزة الاسرائيلية يعلم أن بث هذه البرامج وبموافقة الرقيب العسكري وأعلى المستويات الامنية والعسكرية ليس مجرد صدفة وإرضاء لرغبات معينة داخل المؤسستين العسكرية والامنية بقدر ما هو تهيئة لواقع قادم يتطلب البحث والدراسة والاستنباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى