معركة الوعي (265) حبر على ورق وكلام بلا رصيد يسحرون به أعين الناس!
حامد اغبارية
1)
قبل بضعة أسابيع أعلنت مجموعة من الدول الاستعمارية، التي أذاقتنا الويلات، اعترافها بالدولة الفلسطينية!! وقد فرحت سلطة رام الله ومن لفّ لفها، ورقصت وضحكت وابتسمت وفرفشت وتجشأت وتمطّت و “تجبّدت”، وربما صدر قرار رئاسي بتوزيع الحلوى، ودفع محفزات للموظفين، خاصة ذوي الإنجازات في التنسيق الأمني،، واعتبار ذلك اليوم، الذي اعترفت فيه تلك الدول بـ “دولتنا”، من الأيام الوطنية التي يُحتفى بها سنويًا، تماما مثل “اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني” الذي أُرِّخ له بـالتاسع والعشرين من تشرين الثاني، ذلك اليوم الذي صدر فيه قرار توجيه طعنة إلى جسد الوطن الفلسطيني تحت مسمى “تقسيم فلسطين” بين (أبناء العمومة) سنة 1947.
ومنذ ذلك اليوم، يوم إعلان الاعتراف بـ “الدولة” وحتى الآن لم يقل لنا أحدٌ، لا من السلطة، ولا من الأمم المتحدة، ولا من الدول التي اعترفت بها، ما هي هذه الدولة؟ أين تقع؟ ما مساحتها؟ ما حدودها الجغرافية؟ ما نظام الحكم فيها؟ وكيف يمكن تركيب بازل ما تبقى من قطع أرض في الضفة الغربية لم يستولِ عليها الاحتلال ومستوطنوه؟ ويبدو أننا لن نسعد يوما بسماع الجواب على تلك الأسئلة..
ومنذ ذلك اليوم كذلك واصل الاحتلال ومستوطنوه قضم الأراضي في الضفة المحتلة عام 1967، كما واصلوا الفتك بأصحاب الأرض، وتجريف المخيمات وهدم البيوت وتشريد الأهالي…
ثم إنه قبل يومين – ثلاثة أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا أمميا يؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بتأييد من 164 دولة (واااو!).
ثم إن جماعة سلطة رام الله فرحت وأُعجبت بالقرار، وثمّنته وقدّرته وقدمت له آيات الشكر الجزيل ورفعت إصبعيها؛ السبابة والوسطى بشارة النصر…
ولأنّ هناك مجموعات بشرية تظن أن ذاكرة الشعب الفلسطيني قصيرة، وأنه ينسى، فقد قدّموا القرار الأخير هذا وكأنه فتح مبين ونصر وتمكين للفلسطينيين، بعد كل هذا العذاب على مر السنين، وأنه لم تبق سوى خطوة واحدة وإذا بـ “الدولة” قد قامت تمشي على قدمين، وأن الشعب الفلسطيني قد أمسك بتلابيب تقرير المصير الذي انتظره طوال ثمانية عقود!
غير أن الحقيقة محفورة في أعماق ذاكرة الشعب الفلسطيني، وفي أرشيف الأمم المتحدة. فمصطلح “حق تقرير المصير” يشكل لازمةً في العديد من قرارات الأمم المتحدة التي صدرت منذ النكبة ولغاية اليوم.
في 22/11/1974 صدر القرار الذي يحمل رقم 323/6 وفيه تأكيد من جديد على حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وعلى رأسها “حقه في استعادة حقوقه بما في ذلك تقرير مصيره وحقه في الاستقلال والسيادة الوطنية وحقه في العودة”!
ولعل أحد أشهر القرارات هو القرار 242 الصادر سنة 1970، عقب حرب الأيام الستة عام 1967، والذي ينص على أن احترام حقوق الفلسطينيين يشكل عنصرٌ لا جدال فيه في إقامة سلام عادل وشامل!!
وفي 15/12/1975 صدر قرار رقم 6/35 الذي يقرّ بالسيادة الدائمة للفلسطينيين على الموارد الوطنية في الأراضي المحتلة. وقد صدر قرار مشابه عام 1979 يحمل الرقم 136/34. أما الموارد الوطنية فقد استولى عليها الاحتلال والمستوطنون. وكلما صدر قرار بهذا الشأن رفع الاحتلال من مستوى سيطرته على تلك الموارد. وبطبيعة الحال فإن المقصود بـ “الأراضي المحتلة” هي الضفة الغربية وقطاع غزة. وبذلك يُفهمونك، أو يحاولون إفهامك، بأن تاريخ القضية الفلسطينية والصراع بدأ من حزيران 1967!! وهكذا تتضح لك عدالة ما يسمى بالمجتمع الدولي، ممثلا بالأمم المتحدة، كما يتضح لك المقصود بمقولة “السلام العادل والشامل”!!
وفي 24/11/1976 صدر القرار رقم 31/20، وفيه تأكيد على “الحقوق غير القابلة للتصرف للفلسطينيين، بما في ذلك حق العودة والاستقلال الوطني”…
وفي 2/2/1977 صدر قرار رقم 32/20 الذي يعيد “تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف بما في ذلك حق العودة والسيادة الوطنية”.
وفي 15/12/1980 صدر تقرير لجنة تحقيق خاصة معنية بـ “ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف”!! ثم قرار آخر مشابه عام 1981، يحمل الرقم 36/120، وقرار ثالث عام 1982، يحمل الرقم 37/86، وقراران عام 1983 يحمل الأول الرقم 38/58، ويحمل الثاني رقم 38/144، كلها تتحدث عن “السيادة الدائمة للشعب الفلسطيني على الموارد الوطنية”؛ تلك الموارد التي بدأ الاحتلال ينهبها ويسيطر عليها منذ أول ثانية من احتلاله للضفة والقطاع عام 1967.
وفي 15/12/1988 صدر قرار رقم 43/176 يؤكد “حق الشعب الفلسطيني في ممارسة حقوقه، ومنها حقه في تقرير مصيره”.
في 1/12/1999 أكدت الجمعية العامة “حق الشعب الفلسطيني في ممارسة حقوقه وتقرير مصيره بنفسه”.
“بنفسه” تعني أنه لا أحد غيره له الحق في تقرير مصيره. ونحن- كما تلاحظ- نرى الدنيا كلها، من الأزعر لممعوط الذنب، تتصرف بمصير الشعب الفلسطيني كما يحلو لها!
في 10/10/2000 عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورتها الـ 55 وأعلنت فيها صدور تقرير اللجنة المعنية بـ “ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، بما فيها حق تقرير المصير”…
وفي 22/12/2011 صدر قرار رقم 66/225 الذي يؤكد “السيادة الدائمة للشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة”. وطبعا كما أفهموك، فإن المقصود بالأرض الفلسطينية المحتلة هي الضفة الغربية (وربما قطاع غزة).، على اعتبار أن قطاع غزة هو “دولة معادية” في نظر الاحتلال…
هكذا يتضح لك أن قرار الأمم المتحدة الأخير، الصادر قبل أيام حول حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره هو حِبر جديد على ورقة قديمة، وأنه ليس اختراعا أمميا جديدا، بل هو “تصفيط” كلام قديم يسحرون به أعين الناس..
كما يتضح لك أن الدنيا كلها تتلاعب بـ “حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني”، وعصابات المافيا السياسية تلهو به وتُلهي به، بينما الشعب الفلسطيني يتعرض يوميا لحرب شعواء من هذه العصابات لتجريده نهائيا من هذا الحق.
كما يتضح لك أن الأرض الفلسطينية التي تتحدث عنها قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة يُقصد بها الـ 21% من مساحة فلسطين التاريخية، وأن هذه الـ 21% لم يبق منها شيء تقريبا يمكن أن يشكل أرضية لإقامة دولة، أو يمكن أن يمارس عليها الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير…
كما يتضح لك أن هذه إحدى كبريات الأكاذيب والأضاليل التي يخدعون بها الشعب الفلسطيني ويخدّرونه، وأن حق تقرير المصير لا يُمنَح بل يُؤخذ. وأن جميع شعوب الأرض التي احتُلت أرضُها من الاستعمار، ونُهبت موارد بلادها وخيراتها على مرّ التاريخ، انتزعت حقها في تقرير المصير، ونالت حريتها واستقلالها، ليس بحبر على ورق، ولا بقرارات أممية، ولا بتفضُّل من أحد، ولا بكرم كاذب من هيئة دولية، وإنما انتزعته انتزاعا.
كما يتضح لك أن الشعب الفلسطيني ما يزال يدفع الأثمان الباهظة من اللحظة التي سلّم بها رقبته لعصابةٍ أوهمته أنها ممثله الشرعيّ الوحيد، وأنّ عليه أن يتخلص من هذه الوصمة، وأن يقوّم الاعوجاج، ويصحح المسيرة إذا ما أراد تحقيق مصيره بنفسه.
2)
وإن الأدلة على دجل المجتمع الدولي وتآمره على الشعب الفلسطيني لا تُحصى، وكلّها أدلة موثقة؛ منها ما هو موثق بالحبر ومنها ما هو موثق بالدم وبالصوت وبالصورة. ولعلّ آخرها ما صرح به البلطجي الدولي المناوب، دونالد ترامب، الذي قال إن إدارته تفحص ما إذا كان اغتيال الاحتلال لرائد سعد، وهو أحد قيادات كتائب القسام في غزة، هو خرق لاتفاقية وقف إطلاق النار!!
ماذا يعني “تفحص”؟
هذا يعني أنها تبحث عن طريقة لإخراج الشعرة من العجين.. بينما الدنيا كلها تشاهد 7/24 عمليات خرق متواصلة للاتفاقية من طرف الاحتلال… بينما “المجتمع الدولي” منشغل بإصدار قرارات دونكيشوتية لتأكيد “حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه”!!
وإن أخشى ما يخشاه المرء أن تبشّرنا نتائج “الفحص” بحمل كاذب، هو في حقيقته انتفاخ طاريء أصاب اتفاقية وقف إطلاق النار…



