كان ولا يزال الحراك النسائي الراشد سائرًا
الشيخ رائد صلاح
1- كان ولا يزال الحراك النسائي الراشد في كل أبعاد انتمائه الإسلامية العروبية الفلسطينية منذ مرحلة ما قبل الإسلام، وكان ما قبل الإسلام حراكًا قبليًا يحرص على صيانة القيم والصبر في المحن والذود عن الحمى والتصدي لأي معتدٍ. وكانت الصحابية الخنساء نموذجًا لهذا الحراك، فهي التي كانت تصون قيمها وتقول: تموت الحرة ولا تأكل بثدييها، مؤكدةً بذلك رفض الانفلات الجنسي مهما كان السبب، وهي التي كانت تتغنّى في شعرها بحبها لحِماها والحفاظ على العهد مع أخيها صخر الذي قُتل دفاعًا عن حرمة هذه الحِمى وحرمة أعراضها وأرواحها وأموالها فكانت تقول:
يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل غروب شمسِ
ولولا كثرةُ الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي
وهي التي تألقت بالفصاحة وبليغ الشعر وجزيل القول، فكان أن اتفقت قبائل العرب على اختيارها حكمًا على الشعراء والشاعرات في سوق عكاظ، ثم ظلت على هذا الحال حتى أسلمت، فملأ الإسلام قلبها وعقلها فكرًا، وضاعف من همتها، ونقل نشاطها النسائي من نشاط قبلي إلى نشاطِ أمّة وحّدت بين كل القبائل برجالها وأدوارهم ونسائها وأدوارهن، وظلت الخنساء هي النموذج الراقي للنشاط النسائي في الإسلام كما كانت كذلك قبل الإسلام.
ثم سجلت موقفها التاريخي المحفوظ يوم أن سارت مع الجيش الإسلامي إلى القادسية، ومعها كل أبنائها، وعندما دارت رحى الحرب، استشهد كل أبنائها، فقالت جملتها المشهورة: الحمد لله الذي شرفني بمقتلهم، ثم واصلت دورها كصحابية من خيرة الصحابيات حتى انتقلت إلى رحمة الله تعالى، وهكذا أدت هذا الدور السامق، ولم تدّعِ في يوم من الأيام: وجود مجتمع ذكوري متسلط، أو وجود مجتمع أبوي عنيف، ولم تُنَظّر في يوم من الأيام لفكر نسوي منحرف حتى تنال حقها النسائي، ولم تدْعُ إلى مقولات مستوردة مستهجنة وملغومة، كالقول “إن المرأة تملك حق التصرف المطلق بجسدها”، والقول غمزًا ولمزًا ما يسمى “شرف العائلة”، ولم تندلق في فكرها وتدعو إلى الشذوذ الجنسي والتحول الجنسي وإباحة الزنا في يوم من الأيام، ولم تمدّ يدها إلى صندوق غربي داعم يفرض عليها فكرَه وأجندتَه. لقد تحررت الخنساء من كل ذلك، وما كانت بحاجة له إطلاقًا حتى تبدع في حراكها النسائي الإسلامي العروبي، الذي صنع منها الشاعرة والناقدة والسياسية والمدافعة عن حماها، والمتمسكة بقيمها وفكرها وثوابتها الإسلامية العروبية.
2ـ وهذه هند بنت عتبة؛ زوج أبي سفيان، كانت سيدة قومها بمكة قبل الإسلام، وكانت صاحبة دور اجتماعي ورأي سياسي ونشاط عسكري وخطاب توعوي وإعلامي، ثم جاء الإسلام واستثمرت هند كل مؤهلاتها لمحاربة الإسلام إلى حد أنها بقرت بطن حمزة سيد الشهداء، في أُحُد ولاكت كبده، ثم بعد أن تبين لها أنها كانت على باطل في كل ذلك أسلمت وحسُن إسلامُها، ثم استثمرت كل مؤهلاتها لنصرة الإسلام الذي رفع منزلتها أرفع مما كانت عليه قبل الإسلام، وأعلى من شأنها، من امرأة ذات حراك نسائي بمكة إلى امرأة ذات حراك نسائي في مسيرة كل الأمّة، فكان لها الموقف المشهور يوم أن جاءت مع النساء يبايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اشترط عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يزنين كجزء من تلك البيعة، قالت هند متعجبة: أوَتزني الحرة؟! بمعنى أن المرأة الحرة لا تزني أصلًا.
ثم كان لهند الدور المشهور في معركة اليرموك، وهكذا كان لها هذا الانتقال التاريخي من حراك نسائي قبَلي إلى حراك نسائي في مسيرة أمة، ومن حراك نسائي في حدود مكة إلى حراك نسائي عالمي وصل مداه حتى أكناف الشام في تلك الأيام، ومن حراك نسائي محدود الدور والتصور والتأثير إلى حراك نسائي اجتماعي سياسي فكري توعوي إرشادي تتحدث باسم النساء، مدافعة عن قيَم النساء وأعراضهنّ وفكرهنّ وسلوكهنّ، ولها على ذلك شواهد كثيرة يطول ذكرها. وهكذا أدت هند الدور النسائي الناشط في بعده الإسلامي العروبي، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تتساءل: هل المرأة مخلوق إنسي أم شيطان؟!
ومن الذي ألهم هند هذا الدور؟! إنها قيمها وفكرها وثوابتها الإسلامية العروبية، التي أكدت في أحد عناوينها أنه ما أكرم المرأة إلا كريم، وما أهان المرأة إلا لئيم، وأن النساء شقائق الرجال، وأن النساء لباس للرجال والرجال لباس للنساء، وأن خير الناس هو خيرهم لأمّه وزوجه وابنته وأخته، وأن المرأة الأمّ أحق الناس بحُسن الصُّحبة، ثم الرجل الأب، وما كانت هند في يوم من الأيام بحاجة إلى مصطلحات دخيلة مستوردة ومدفوعة الثمن بين المانح المنتج والمستهلك القابض حتى تقول لها من هي كامرأة، ومن هي كناشطة نسائية، وما هي حقوقها، وما هو الدور المنتظر منها، بل إن انتماءها الإسلامي العروبي أجابها عن كل هذه الأسئلة، وملأها فهمًا وفكرًا وإدراكًا لشخصيتها الإسلامية العروبية، ثم لكينونة هذه الشخصية، ودور هذه الشخصية المتكامل مع دور الرجل، بهدف بناء الأسرة المتكاملة، والبيت المتكامل، والمجتمع المتكامل، والأمة المتكاملة، والحضارة المتكاملة. وهكذا ظلت هند حتى انتقلت إلى رحمة الله تعالى دون أن تقيل أو تستقيل.
3- كان الحراك النسائي الراشد في مسيرة أمهات المؤمنين؛ بداية من خديجة رضي الله عنها، وصولًا إلى سائرهن، وفي مسيرة سائر الصحابيات وما أكثرهن! ثم في مسيرة سائر التابعيات وما أكثرهن! ثم في مسيرة تابعات التابعيات وما أكثرهن! ثم في مسيرة سائر النساء من السلف والخلَف من انتمائنا الإسلامي العروبي وما أكثرهن! ثم في مسيرة الحراك النسائي المعاصر، وما أكثر النساء فيه! وقد أنجب هذا الحراك النسائي الإسلامي العروبي على مدار تاريخه الطويل عشرات الآلاف من النساء، ما بين المرأة الفقيهة، أو عالمة الأنساب، أو الطبيبة، أو الحكم في سوق عكاظ، أو الحكم في سوق التجارة، أو الشاعرة، أو الكاتبة الناقدة، أو الإعلامية، أو سيدة الأعمال، أو السياسية أو الفنانة في كل عوالم الفن، أو المحاضرة الجامعية، أو العضو في مجلس نواب، أو الوزيرة من ضمن طاقم حكومة، أو الناشطة الاجتماعية، أو العاملة رئاسة أو عضوًا في جمعية نسائية حرة، أو الباحثة في شتى العلوم.
وقبل كل شيء أنجب هذا الحراك النسائي الإسلامي العروبي الأمّ المدرسة، والزوجة السند، والبنت البارّة، والأخت الغالية، والأسرة المتحابّة، والبيت المتماسك، والمجتمع المتكافل، والأمة الخيرية. وأنجب هذا الحراك النسائي الإسلامي العروبي، في دوره المتكامل مع حراك الرجال، التاريخ المجيد الإسلامي العروبي، والحضارة التقدمية العالمية الإسلامية العروبية. ولا تزال مسيرة هذا الحراك النسائي الراشد مستمرة حتى الآن، متمسكة بقيمها وفكرها وثوابتها الإسلامية العروبية.
وكامتداد لقيم وفكر وثوابت هذا الحراك النسائي الراشد الضاربة جذوره في عمق التاريخ والحضارة الإسلامية العروبية، تواصَلَ دور الحراك النسائي الراشد في الداخل الفلسطيني ما قبل نكبة فلسطين وما بعدها، واستمرارًا لهذا الدور في الداخل الفلسطيني، تبلور دور الحراك النسائي الراشد في مسيرة الحركة الإسلامية منذ بداية السبعينات فصاعدًا حتى تم حظرها إسرائيليًا في أواخر عام 2015، فوقع الحظر الإسرائيلي على الحراك النسائي الراشد، وعلى كل ما قام به من جمعيات نسائية، ولجان نسائية، ومؤسسات نسائية، وإعلام نسائي، ومشاريع نسائية، وما أكثر كل هذه المنجزات! .
4- وقع هذا الحظر الإسرائيلي على جانب هذا الحراك النسائي الراشد بما عُرف باسم الحراك النسائي في الحركة الإسلامية الشمالية، فظل هناك الحراك النسائي في الحركة الإسلامية الجنوبية.
ثم إن هذا الحظر الإسرائيلي وقع على أدوات عمل هذا الحراك كالجمعيات والمؤسسات، وبقيت قيَم هذا الحراك وفكره وثوابته، ولذلك ظلت قيَم هذا الحراك النسائي الراشد وفكره وثوابته منزرعة في عقول وقلوب مساحة واسعة من المجتمع النسائي في الداخل الفلسطيني، وبقىي النشاط الشعبي، بكلّ أساليبه المشروعة، مستمرًا لترسيخ هذه القيم والفكر والثوابت. وهذا يعني أن النشاط النسائي الإسلامي العروبي الفلسطيني سيبقى. وواهِمٌ من يظن أن ساحة المجتمع النسائي في الداخل الفلسطيني قد فرُغت أو أنها مستباحة للاستفراد بها من قبل مبادرات الفكر النسوي المنحرف، ومخططات الصناديق المانحة الغربية والصهيونية.
5- هذا الحراك النسائي الإسلامي العروبي كان ولا يزال واضحًا لا غموض فيه منذ أكثر من 1400 عام. فهو حراك يقوم على مبدأ التكامل بين الرجل والمرأة، وليس على مبدأ التصادم بينهما.
6- وهو حراك يقوم على مبدأ المودة والرحمة كعلاقة دائمة تجمع بين الرجل والمرأة والأبناء والبنات، وليس على مبدأ العداوة والشقاق بينهم.
7- وهو حراك يقوم على مبدأ أن جسد المرأة كجسد الرجل، فلا يملك أي منهما جسده ملكًا مطلقًا يخوّله حق التصرف المطلق بهذا الجسد، بل إن جسد أي منهما هو أمانة يجب أن يحافظ عليها، وحتى يحافظ عليها فيجب أن ينضبط هذا الجسد بكل مكوّناته بقِيمنا وفكرنا وثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية، مطهَّرًا من الزنا والشذوذ الجنسي.
8- وهو حراك يسترشد بفكر الأمة النابع من هويتها الإسلامية العروبية الفلسطينية، فليس هناك شيء اسمه الفكر النسوي في مقابل الفكر الرجولي، ولا كان هناك قطيعة بين هذين الفكرين، أو حرب ضروس بينهما قابلة أن تهدم الأسرة ثم المجتمع ثم الأمة.
9- وهو حراك يتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة، فهناك الجسد، وهناك الروح، وهناك العقل. ولا بد من تغذية الروح بما يتوافق مع هذه الفطرة، وكذلك العقل.
ولا بد من تغذية الجسد بما يتوافق مع هذه الفطرة. فأقرّت قيمنا وفكرنا وثوابتنا منهج العبادة ليكون غذاء الروح، وأقرت منهج العلم ليكون غذاء العقل، وأقرت منهج الحلال في الطعام والشراب واللباس والزينة والمسكن، ومنهج الحلال في المعاملة والعلاقة الجنسية؛ لتكون كل هذه الأبواب غذاء الجسد. وفي المقابل، رفض هذا الحراك كل ما يتناقض مع هذه الفطرة الإنسانية السليمة، فرفض هذا الحراك الشعوذة بادّعاء أنها عبادة، ورفض هذا الحراك الهرطقة بادعاء أنها علم، ورفض هذا الحراك كل مطعم ومشرب وملبس وتواصل جنسي يتناقض مع الفطرة الإنسانية السليمة، وبناء عليه، رفض هذا الحراك، من ضمن ما رفض، الزنا والشذوذ الجنسي والتحول الجنسي، ولفت انتباهنا هذا الحراك أنه لا يوجد لواط ولا سحاق ولا تحوّل ولا زنا في سلوك كل الحيوانات التي خلقها الله تعالى، وهذا يعني أن هذه السلوكيات الجنسية المنحرفة تدفع بمنزلة الإنسان حتى تكون دون منزلة الحيوان ودون الفطرة السليمة.
10- وهو حراك عصامي يأبى على نفسه أن يكون تبعًا للصناديق المانحة؛ سواء كانت غربية أو عربية أو صهيونية، لأنها تعطي بيد وتفرض أجندتها باليد الأخرى، ولذلك يعتمد هذا الحراك، بعد توكّله على الله تعالى، على قدراته المالية الذاتية وإن قلّت، ويتمسك بالقاعدة التي تقول: إذا كانت اللقمة من الفأس كانت الفكرة من الرأس.
11- وهو حراك صادق مع نفسه وواضح للعامة يأبى على نفسه التلوّن، بمعنى أنه يأبى على نفسه أن يواصل شن هجومه على الرأسمالية الاستعمارية الإباحية، وأن يمد يده في اللحظة ذاتها إلى الصناديق المانحة لهذه الرأسمالية المتوحشة، كما وقع في هذا التلوّن الكثير من أبواق الفكر النسوي المنحرف وجمعياته. وقد وعدت أن أكتب عن هذا الموضوع، وسأكتب في الوقت المناسب.
13- وهو حراك ثابت وراسخ وأصيل لا تكسره الزعازع والأنواء، وها هو يمتد في كل الحاضر البشري، وها هي عشرات الآلاف من النساء ويزيد بدأن يعتنقن الإسلام ويلتحقن بهذا الحراك ما بين أمريكا وأوروبا وغيرهما.



