الدور الروسي في سورية… من إنقاذ الأسد إلى التخلي عنه

منذ تدخّلها عسكرياً مباشرةً في مجريات الصراع في سورية أواخر عام 2015، بدا واضحاً أن أهداف روسيا كانت أكبر من مجرد الدفاع عن نظام بشار الأسد الذي كان يتلقى في ذلك العام ضربات من كل اتجاه كادت تسقطه لولا الطيران الروسي الذي بدّل معطيات المعادلة حينها.
انخرط الروس في الصراع وذهبوا إلى أقصى مدى، فتعزيز الحضور الروسي في شرقي المتوسط كان المحرك الرئيسي لهم، وقد منحهم بشار الأسد كل شيء يريدونه من أجل حمايته هو ونظامه.
كان التدخّل الذي وصل إلى حد التوحش في قصف المدنيين السوريين، إعلاناً واضحاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن خيوط اللعبة السورية باتت بيده وحده.
روسيا تنقذ الأسد عام 2015
وقتلت الضربات الروسية آلاف السوريين من مدنيين وعسكريين في الفصائل التي كانت تقاتل الأسد، ودمّرت مرافق حيوية وبنى تحتية في البلاد، ولم تتورع عن تجريب أسلحة جديدة في سورية على مدى سنوات.
وأقامت موسكو قواعد عسكرية عديدة في سورية، أبرزها مركز التوجيه والقيادة لكل القوات الروسية في سورية هي قاعدة حميميم في ريف اللاذقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ووصل نفوذها إلى أقصى الشمالي الشرقي في مدينة القامشلي في المثلث الحدودي السوري التركي العراقي حيث أقامت قاعدة في مطارها مرتبطة بحميميم.
ووضعت يدها على الكثير من مقدرات البلاد الاقتصادية وأبرزها ثروة الفوسفات في البادية. وتحكّمت بكل مفاصل القرار السوري السياسي والعسكري والاقتصادي والأمني، فلم يكن للأسد ونظامه دور فاعل في المحافل الإقليمية والدولية من دون غطاء روسي واضح.
المقاتلات الروسية أعادت الكثير من الأراضي لسيطرة نظام الأسد البائد الذي شعر في عام 2020 أنه الطرف المنتصر وبدأ يتصرف على هذا الأساس.
سياسياً، دعمت موسكو مسار أستانة لسحب البساط من تحت مسار دولي يقوم على القرار 2254 الذي وضع خريطة حل للقضية السورية لم تضغط موسكو على الأسد لتطبيقها، فبقيت هذه القضية معلقة نحو 9 سنوات كاملة سال خلالها الكثير من دماء السوريين وهجر الملايين منهم بلادهم.
في عام 2023 وعلى وقع حربهم ضد أوكرانيا، بدأ الروس مسعى للتقريب بين تركيا ونظام الأسد لوضع ترتيبات أمنية وتفاهمات تبقيه في السلطة مقابل تنازلات للمعارضة.
ولكن الأسد تعنّت هذه المرة مستنداً إلى انفتاح عربي عليه بدأ بعد زلزال ضرب الشمال السوري في فبراير/شباط من ذلك العام، ومدفوعاً برفض إيراني، وهو ما كان الفيصل في بداية تبدل في الموقف الروسي إزاء الأسد مهّد الطريق أمام إسقاطه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
تحوّل موقف موسكو تجاه سورية
لم يتدخّل الروس إلى جانب الأسد عندما بدأت عملية “ردع العدوان” أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2024. سيطرت الفصائل السورية على مدينة حلب كبرى مدن الشمال بعد يومين من بدء العملية وفُتح الطريق إلى حماة ومن ثم حمص وسط البلاد. في السابع من ديسمبر 2024 بدا واضحاً أن سقوط نظام الأسد في دمشق مسألة وقت لا أكثر فأنقذت موسكو حليفها الأسد بنقله إلى موسكو ومنحته “اللجوء الإنساني”، منهية بذلك حقبة آل الأسد التي امتدت 54 سنة.
معركة “ردع العدوان” التي جرت خلال 11 يوماً فقط حملت إشارات إلى وجود تنسيق ما بين إدارة العمليات العسكرية للفصائل السورية المهاجمة وبين الجانب الروسي إما بشكل مباشر أو عن طريق الوسيط التركي، فالإدارة التي تسلّمت البلاد في الثامن من ديسمبر 2024 لم تظهر أي موقف عدائي للروس، بل ساعدت نقاط المراقبة الروسية في البلاد على العودة بسلام إلى قاعدة حميميم التي لم تتعرض لأي هجمات أو مضايقات.
وقال الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي قاد عملية “ردع العدوان” التي أسقطت الأسد، في تصريحات تلفزيونية منتصف العام الحالي، إن المفاوضات مع الجانب الروسي بدأت مع وصول الفصائل إلى مدينة حماة في الخامس من ديسمبر 2024، مشيراً إلى أنه “مع دخولنا حمص انسحب الروس كلياً من المعركة بموجب الاتفاق” الذي سهّل إسقاط نظام الأسد بعد ثلاثة أيام.
فرض التبدّل الكبير الذي جرى في سورية على الجانبين الروسي والسوري واقعاً سياسياً مختلفاً كلياً، فتغلّبت لغة المصالح المشتركة على لغة العداء، فموسكو لها مصالح في شرقي المتوسط ذات طابع استراتيجي لا تريد التفريط بها، ودمشق لا يمكنها معاداة دولة كبيرة لها أوراق مهمة في اللعبة السورية حاسمة لجهتي الفوضى أو الاستقرار، فضلاً عن حاجة سورية الاقتصادية لروسيا. وتبادل المسؤولون في البلدين الزيارات والتي تُوّجت بزيارة وُصفت بـ”التاريخية” من قبل الشرع إلى موسكو، منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والذي وضع فيها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين علاقات بلديهما على مسار جديد يواكب التحولات الجيوسياسية في المنطقة.
ويرى المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي والمقيم في موسكو، طه عبد الواحد، أن “التدخّل الروسي خريف عام 2015 لم يكن مرسوماً له أن يمتد كثيراً”، مشيراً إلى أن “محاولات موسكو لحل سياسي في سورية بدأت في عام 2016 مع حسم معركة حلب، وتواصلت بالفعل مع فصائل سورية معاصرة من أجل حل سياسي”.
ويضيف: “الأسد لم يتجاوب مع جهود موسكو التي لم تكن لديها خيارات. كان الروس يريدون إجراء تغيير في سورية عبر الحل السياسي إلا أن الأحداث جرّتهم من معركة إلى أخرى”. ويشير إلى أن عدم تجاوب الأسد مع مطالب موسكو بالانفتاح على تركيا ولقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “كان السبب الرئيسي المباشر في تخلي الروس عنه”، مضيفاً: “أنا على ثقة أن الروس كانوا سعداء بنهاية عهد الأسد، وبداية عهد جديد يضمن مصالحهم في سورية”.
وبرأيه، ستكون هناك “علاقات جيدة” بين موسكو ودمشق على المستوى الرسمي، مضيفاً: “ليس بهذه السهولة تقبُّل السوريين فكرة أن تكون روسيا شريكاً استراتيجياً بعد هذه العقود في دعم نظام الأسد. الأمر يتطلب بعض الوقت”.
وحول قراءته للموقف الروسي من القضية السورية منذ عام 2015، يرى الباحث في مركز “الحوار” للدراسات أحمد القربي، أن “ذاك الموقف جاء متّسقاً مع رؤية روسية عارضت ثورات الربيع العربي التي بدأت في عام 2010”.
ويضيف: “تدخّلها عسكرياً عام 2015 إلى جانب نظام الأسد جاء تكريساً لهذا الموقف. فكرة الربيع العربي كانت تنظر إليها موسكو تهديداً لأمنها وذلك لخشيتها من انتقالها إلى دول مجاورة لها”. ويشير إلى أن التدخّل الروسي “قلب الموازين العسكرية في سورية لصالح النظام البائد، ومع تدخّل روسيا في أوكرانيا تغيّرت أولويات موسكو في ظل سياسة أميركية اعتمدت فصل الملفات في العالم”.
ويعتقد القربي أنه “كانت هناك صفقة أدت إلى سقوط نظام الأسد بغض النظر عن تفاصيلها”، مشيراً إلى أن “مكاسب روسيا في سورية لم تتأثر اسَتراتيجياً، فقاعدة حميميم ما تزال موجودة”، مستدركاً: “النفوذ الروسي في مؤسسات الدولة السورية تراجع”.
ويرى أن زيارة الشرع إلى موسكو “تؤكد أن روسيا ليست عدواً بالنسبة للإدارة السورية الجديدة”.



