أخبار عاجلةمقالات

الألعاب الالكترونية تسرق الطفولة

ليلى غليون

الطفولة ذاك العالم الرائع، الذي لم تخدشه شوائب ولم تلوثه لوثات الكبار، تلك الصفحة النقية بل تلك اللوحة الخلابة المنقوشة بألوان الطيف، بالبراءة بالصفاء بالجمال بروح الحياة.
يقلب الواحد منا مخزون ذكرياته، إلى تلك الأيام الرائعة، أيام طفولته، يوم كان لكل شيء روح ومعنى وطعم حقيقي، تتذوقه لتشعر بنشوة سعادة وفرح لا يشبهه فرح، يمر أمامك شريط ذكريات تفاصيله مفقودة في هذه الأيام، يوم كان الشارع ساحة للمرح واللعب يتراكض فيه الأطفال بمرح خلف كرة قدم، يوم كان الرمل والطين مسرحًا للإبداع يصنع فيه الأطفال أشكالًا من إبداعاتهم، يوم كانت الدراجات الصغيرة البسيطة وسيلة لهم لاكتشاف العالم الصغير المحيط بهم، يوم كان الطفل يقفز بالحبل مع أصحابه. طفولة كلها حركة وبهجة وتواصل حقيقي دائم، ومشاركة حقيقية دائمة، ولعب حقيقي جماعي وجهًا لوجه، مهارات وإبداعات وخيالات طفولية تكاد تختفي من المشهد هذه الأيام، أكسبت الطفل في تلك الأيام ليس فقط نشوة اللعب، بل مناعة نفسية وجسدية ومنحته مهارات حياتية لن تستطيع منحها أي لعبة الكترونية من ألعاب هذا العالم الافتراضي.

فالطفل قبل سنوات ليست بالقليلة كان يعيش أيام طفولته بمعناها الحقيقي، كان يركض، كان يقع ثم ينهض بمفرده وبدون مساعدة أحد، يتعارك مع أترابه ثم يصالح، يغضب ثم يضحك، يغامر ويحاول ويفشل ثم يحاول فينجح، أطفال كأنهم فراشات بجمالها ورشاقتها، فقلما كنت تجد طفلًا يعاني من السمنة الزائدة أو سكري الأطفال.

اليوم تغير المشهد بصورة جذرية، فطفل اليوم يجلس لساعات طويلة أمام الشاشة، لا يتفاعل حتى مع أفراد أسرته، لأنه مشغول بعالم افتراضي وصداقات افتراضية وألعاب جاهزة لا تعد ولا تحصى، مهاراته الحركية في أدنى مستوياتها لأنه متسمر على كرسيه، مشاكل في النظر بسبب التحديق المستمر في الجهاز، مشاكل في الرقبة والظهر بسبب وضعيات الجلوس الخاطئة، مشاكل في التركيز وتشتت الانتباه، سمنة زائدة نتيجة قلة الحركة وتناول الوجبات والمسليات أثناء اللعب، ناهيك عن المشاكل السلوكية والانفعالية والأخلاقية نتيجة تأثره بالألعاب الالكترونية.

فلا أحد ينكر أن الطفولة اليوم أصبحت أسيرة في قبضة الشاشات، ومحاصرة بجهاز صغير يلتهم أوقات الطفل التهامًا، فلم يعد مشهد الطفل الذي كان يعود إلى منزله وآثار غبار اللعب في الشارع مع ابتسامة على ثغره وحمرة وردية على وجنتيه من أثر مجهود اللعب، لم يعد هذا المنظر مألوفًا، بل المألوف اليوم أن ترى الطفل وملامح الإرهاق بادية على وجهه وحمرة في عينيه مع هالات سوداء تحيط بها من كثرة التحديق والنظر في الجهاز، مشتت التركيز من كثرة استعمال الشاشة، تتحدث معه فلا يسمعك لأنه ليس معك، فعقله وتركيزه وجل اهتمامه مشغول بلعبته الالكترونية التي سرقته بعيدًا عن واقعه دون أن يشعر، بعيدًا عن أسرته رغم أنه لم يغادر غرفته.

لقد تغير شكل الطفولة، غاب عنها اللعب الحقيقي وحضرت فيها الألعاب الالكترونية والتي تدر على صانعيها الأموال الطائلة، ألعاب لم تصمم عشوائيًا، بل بخبرة وحرفية واسعة النطاق، بإشراف علماء نفس وسلوك بهدف جذب الطفل والسيطرة على دماغه، وقد نجحت في أهدافها.

وهذه الألعاب بالنسبة للطفل ليست مجرد أداة للترفيه، لقد أصبحت جزءا من الروتين اليومي لغالبية الأطفال ونمط حياة بالنسبة لهم، واستحلت مكانة اللعب الحقيقي الذي كان يعتمد أصلًا على الحركة والمهارات، بدليل اختفاء معظم الألعاب التي كانت سائدة في الماضي، ولو سألت طفلًا عنها في هذه الأيام، فلا يعرف عنها شيئًا.

إننا في هذا السياق لا يمكننا إلقاء اللوم على الطفل، فهو ضحية عالم مليء بالإغراءات، عالم متقن الصنع بألوان وحركات تخاطب رغبة دماغه من خلال الإثارة السريعة، ولكننا نوجهها رسالة تحذير للأهل والمربين التي تقع على كواهلهم المسؤولية الأولى لتحصين أبنائهم من المخاطر الجمة الناجمة عن إفراطهم بمثل هذه الألعاب، فالأسرة هي الراعية للطفل والمفروض أن الأهل على معرفة ووعي تام بخطورة الأمر، ونحن لا نقول للأهل لا تسمحوا لأطفالكم باستخدام الشاشات، فهذا ليس واقعيًا ولا منطقيًا ولن ينجحوا أصلًا في منعهم، ولكن هناك شيئًا اسمه التوازن بين العالم الافتراضي الممتع الذي يلهث خلفه الطفل وبين العالم الواقعي الذي يبني شخصية هذا الطفل، فمسؤولية الأهل أن يمنحوهم طفولة حقيقية، مسؤوليتهم تكمن في تحديد وقت للشاشات ويجب أن يكونوا حازمين في الأمر مهما ألح الأطفال ومهما اعترضوا، مسؤوليتهم تكمن في تشجيع الأطفال على الحركة والأنشطة داخل المنزل وخارجه، مسؤوليتهم تكمن بتوفير بدائل حقيقية تجذبهم وتبعدهم عن الضوء الأزرق وإلا…

مسؤوليتهم إعادة رونق الطفولة إلى مكانها، وذلك يبدأ بخطوة واحدة، وهي أن تختاروا أيها الآباء، أيتها الأمهات، لأطفالكم حياة حقيقية يعيشونها لا أن تحتاروا بالاختيار أي جهاز غالي الثمن تشترونه لهم ليباهوا به أصدقاءهم.

يجب أن تعيدوهم إلى الطبيعة، إلى الأصدقاء، إلى النشاط إلى الحركة، إلى الكتب… إلى روح الحياة، فالطفولة مرحلة واحدة فقط إذا ضاعت لن تعود، وإذا استمر حال الطفولة كما نراه اليوم، فسنجد جيلًا يعيش داخل الشاشات غارقًا فيها، جيل يعرف كل شيء عن التكنولوجيا، عن التطبيقات، عن شبكات التواصل، عن تفاصيل هذا العالم، ولكنه لا يعرف أن يكوّن صداقة، ولا يعرف كيف يحاور، لا يعرف كيف يحل مشكلة، لا يعرف أن يصنع شيئًا بيديه.

والألعاب الالكترونية لن تبقى على نفس الحال والمستوى، بل ستتطور أكثر وأكثر، وستزداد حضورًا أكثر وأكثر، ولكن الطفولة لن تتكرر. وأطفالكم ليسوا بحاجة لمزيد من الأجهزة غالية الثمن ومن أحدث ( الموديلات)، ولكنهم بحاجة لمزيد من حضوركم الحقيقي في حياتهم، وإعادة التوازن فيها يبدأ من وقت تجلسون معهم دون هواتف، من لحظات ولو كانت قليلة تشاركونهم ألعابًا مهما كانت بسيطة، من رحلة قصيرة معهم، من حوار يومي ولو لدقائق معدودة تسألونهم عن مشاعرهم عن اهتماماتهم لا عن واجباتهم الدراسية ولا عن موعد امتحاناتهم، فكونوا أنتم المكان الذي يجدون فيه ذواتهم قبل أن يبحثوا عنها في جهاز لا يشعر بهم ولا يفهمهم ولا يمنحهم إلا مزيدًا من الغياب عن واقعهم. فهم أمانة بين أيديكم وستحاسبون عليها أمام الله عز وجل.

إن هذا الجيل جيل ذكي وأذكى مما نتصور، وهو سريع التعلم ويكاد يتعامل مع العالم الرقمي بمهارة وخبرة أكثر من الكبار، والواقع يشهد على ذلك، ولكنه بحاجة لأرض خصبة يزرع فيها طفولته الحقيقية، فكونوا أنتم أيها الآباء أيتها الأمهات، تلك الأرض الخصبة، فالأجهزة الالكترونية لن تمنحهم هذه الطفولة، بل بالعكس لقد سلبت رونقها، ولن تكون بأي حال من الأحوال تلك الأرض. اقتربوا من أطفالكم أكثر وأكثر قبل أن يكبروا وقد سرقتهم تلك الأجهزة، فأنتم بالنسبة لهم وطن صغير يعودون لأحضانه كل حين، فليس في الدنيا أمان يشبه صدر الأمهات ولا سند يشبه ظهر الآباء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى