أخبار وتقاريرمقالاتومضات

ما كان على البيت الأبيض ورقة توت حتى تسقط عنه!

الشيخ رائد صلاح

كان الأمر واضحًا، ثم ازداد وضوحًا بعد خطة ترامب، وازداد كل عاقل في الأرض قناعةً بأن إقامة كيانٍ سياسيٍّ باسم إسرائيل كان مشروعًا أوروبيًا- أمريكيًا قبل أن يكون مشروعًا صهيونيًا.

وقد كتب الكثير من العلماء في التاريخ المعاصر والدراسات الدينية عن ذلك، وأقاموا مئات الشواهد في أبحاثهم التي تؤكد ذلك، ولذلك ما بالغنا، وما بالغ غيرُنا، يوم أن قلنا إن البيت الأبيض لا يدعم المؤسسة الإسرائيلية، بل يحافظ على وجودها وتفوّقها كما يحافظ على أية ولاية أمريكية، ومن تحصيل الحاصل أن كان ولا يزال يقدم للمؤسسة الإسرائيلية الدعم المالي والسياسي والعسكري والإعلامي على اعتبار أنه يقدم هذا الدعم لإحدى ولاياته الأمريكية، ولذلك لا عجب أن يكشف ترامب، بعد أيام من إعلان خطته، أنه كان قد قال لنتنياهو عن هذه الخطة إنها فرصة لتحقيق النصر.

وهذا يعني أن ترامب لم ينظر إلى هذه الخطة على اعتبار أنها تسوية من ضمن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بل نظر إليها على اعتبار أنها انتصار إسرائيلي، وهذا ما كان يسعى إليه ترامب قبل نتنياهو.

ثم لا عجب أن يصرّح ترامب، على المكشوف؛ بعد إعلانه عن خطته، أن المؤسسة الإسرائيلية فقدت الكثير من الدعم الدولي، وسيعمل على إعادة هذا الدعم، على اعتبار أن المؤسسة الإسرائيلية يوم أن فقدت هذا الدعم الكثير، فهذا يعني في حسابات ترامب أن إحدى الولايات الأمريكية فقدت هذا الدعم، ويجب أن يعمل على إعادة هذا الدعم لها.

ولذلك لا أظن أن وزير الخارجية الإسرائيلية؛ ساعر، قد ضحك علينا عندما قال إن خطة ترامب لم تُفرض على المؤسسة الإسرائيلية بل كانت بمبادرة من المؤسسة الإسرائيلية، مما يؤكد أن الخلاف بين البيت الأبيض والمؤسسة الإسرائيلية — إن كان في يوم من الأيام وإن ظهر في هذه الأيام — فهو خلاف داخلي، كأنه خلاف بين ولاية نيويورك أو ولاية واشنطن وبين البيت الأبيض.

وكما تتم تسوية هذا الخلاف مع ولاية نيويورك أو ولاية واشنطن داخليًا، تتم تسوية هذا الخلاف مع المؤسسة الإسرائيلية، على اعتبار أنها ولاية أمريكية في حسابات البيت الأبيض. وهذا يعني أن البيت الأبيض كان ولا يزال شريكًا في تحمّل المسؤولية عن كل ما وقع على غزة خلال هذين العامين من حصار وتجويع وإبادة وتهجير، وإنّ المأزق الأساس الذي يحول دون وصول القضية الفلسطينية إلى حل عادل يعطي للشعب الفلسطيني حقه الكامل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس المباركة؛ إن المأزق الأساس الذي يحول دون ذلك هو البيت الأبيض، إلى جانب وجود إجماع بين كل معسكرات المؤسسة الإسرائيلية بشتى مسمياتها: اليمين واليسار وما بينهما، على رفض مبدأ قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس المباركة.

ولأن البيت الأبيض هو كذلك، فإن من يطالبه بتوفير الإمكانيات المطلوبة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس المباركة، كمن يطالب بهذا الطلب سموتريتش وبن غفير.

فهو البيت الأبيض الذي كان ولا يزال مقتنعًا، حتى النخاع، بأن إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس المباركة لا يتوافق مع دوره المثابر على الحفاظ على وجود المؤسسة الإسرائيلية وعلى دوام تفوقها، ومن يقل غير ذلك فهو يضحك على نفسه ويضحك علينا؛ سواء كان فلسطينيًا أو عربيًا أو مسلمًا أو أعجميًا.

وكل اليوميات التي مرّت على الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤكد ذلك.

وهكذا لا يزال البيت الأبيض هو الخصم والحكم مع غزة بخاصة، ومع شعبنا الفلسطيني بعامة، ومن حاول في يوم من الأيام أن ينظر إلى البيت الأبيض على أنه الحكَم، وأن يغضّ الطرف عن أنه الخصم، فقد ضلّل نفسه، سواء كان فلسطينيًا أو عربيًا أو مسلمًا أو أعجميًا، وكان حاله كحال من نظر إلى السراب فـظنّه ماء، ولمّا اقترب منه لم يجده شيئًا.

وهكذا كانت القضية الفلسطينية، ولا تزال، تنتقل من خطة للبيت الأبيض إلى خطة أخرى للبيت الأبيض، إلى خطة ثالثة ورابعة وخامسة بلا توقف للبيت الأبيض.

ولا تزال القضية الفلسطينية عالقة في عين العاصفة وفي مهب الريح بلا حل، ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي قائمًا، ولا تزال المعاناة تشتد على الضفة الغربية وغزة والقدس والمسجد الأقصى، ولا يزال اللاجئ لاجئًا، ولا يزال حق العودة طُموحًا لا يتحقق، ولا تزال التغريبة الفلسطينية على حالها كأنها وقعت بالأمس، ولا يزال الوهَن الرسمي العربي والإسلامي يقول مسليًا نفسه: كل الأوراق بيد أمريكا.

وهذا يعني أن البيت الأبيض ليس عاجزًا عن فرض حل عادل للقضية الفلسطينية يوفّر لشعبنا الفلسطيني إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس المباركة، بل إن البيت الأبيض لا يزال برفض ذلك ويحبط كل سعي يوصل إليه، حتى لو حظي بإجماع كل الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وحتى لو اعترفت كل دول الأرض بالدولة الفلسطينية قبل قيامها، بما في ذلك بريطانيا؛ مفتاح نكبة فلسطين، فسيبقى البيت الأبيض هو الوصي على المؤسسة الإسرائيلية، وهو الكفيل لها على اعتبار أنها مشروع أوروبي- أمريكي قبل أن يكون مشروعًا صهيونيًا.
ولو أُعطيتُ فرصة لتقديم اقتراح لإدارة جائزة نوبل للسلام، لكنتُ إقترحتُ عليها أن تثبت لنفسها الحق بسحب أي جائزة نوبل للسلام كانت قد أعطتها لأية شخصية من البشرية، ثم تبيّن لاحقًا، ولو بعد عشرات السنين، أن هذه الشخصية ما كانت تستحق جائزة نوبل للسلام التي كانت قد أُعطيت لها.
ولو قبلت إدارة جائزة نوبل للسلام اقتراحي هذا، لكنتُ إقترحت عليها أن تُقيم سنويًا حفل سحب جائزة نوبل للسلام من أية شخصية كانت قد أُعطيت لها ولا تستحقها.
ثم لو قبلت إدارة جائزة نوبل للسلام اقتراحي الثاني، لكنتُ إقترحتُ عليها أن تُقيم حفلًا خاصًا، وأن تُعلن فيه عن سحب جائزة نوبل للسلام من الرئيس الأمريكي كلينتون الذي أُعطيت له هذه الجائزة على اعتبار أنه كان الراعي لاتفاقية “أوسلو”، وقد ثبت لكل عاقل في الأرض أن هذه الاتفاقية كانت ملغومة سلفًا، وغالب الظن أن البيت الأبيض كان يعلم ذلك، وأن كلينتون كان يعلم ذلك، وقد سقط آخر قناع عن هذه الاتفاقية. وها هي كانت، ولا تزال، تجرّ الويلات على القضية الفلسطينية وشعبنا الفلسطيني، وهذا حال غزة، وحال الضفة الغربية، وحال القدس والمسجد الأقصى المباركين شواهد على ذلك.
ثم لتعلم إدارة جائزة نوبل للسلام أنها ستنتحر، في حسابات كل أحرار وحرائر الأرض، لو أعطت جائزة نوبل للسلام لترامب أو لو فكّرت أن تعطيه هذه الجائزة، بل الأعدل في حسابات أهل الأرض أن تمنحه (فضيحة نوبل للحرب) على اعتبار أنه المهندس والراعي لنكبة غزة التي أبكت عيون كل أهل الأرض، بما في ذلك عيون الكثير من الشعب الأمريكي إلا عيون البيت الأبيض وبطانته الصليبية- الصهيونية. وها هي خطة ترامب تؤكد ما أقول، فوفق نص هذه الخطة الذي كشفته وكالة (سي بي إن سي) الأمريكية، والذي تضمّن 20 بندًا، ها أنذا أسجّل هذه الملاحظات:
1. ها هو ترامب يقول في البند الثالث من هذه الخطة: “ستنتهي الحرب فورًا”، وهذا يعني أن ترامب يعترف أنها حرب وليست مجرد اجتياح عسكري إسرائيلي لقطاع غزة. وهذا يعني أنه يعترف أنه بمقدوره أن يوقف هذه الحرب الكارثية، ولكنه لم يوقفها حتى الآن. وهذا يعني، بالمفهوم المخالف، أنه كان معنيًا باستمرار هذه الحرب وما جرى على غزة من حصار وتجويع وتهجير وإبادة.
2. يقول ترامب في البند السابع من هذه الخطة: “بمجرد قبول هذه الاتفاقية سيتم إرسال المساعدات كاملة إلى قطاع غزة فورًا…”. وهذا يعني أن ترامب يعترف أن هناك حصارًا على غزة، وأن هذا الحصار دمّر شبكة المياه والكهرباء والصرف الصحي، وفرض الشلل الكلي أو الجزئي على المستشفيات والمخابز.
فأين كان البيت الأبيض من كل ذلك؟ وأين كان ترامب من كل ذلك؟! ولو عدنا إلى تصريحات البيت الأبيض قبل أشهر، لوجدنا أنه كان ينكر وجود مجاعة في غزة في بعض تصريحاته المتقلّبة.
3ـ يقول ترامب في البند الثامن من هذه الخطة: “سيتم إدخال المساعدات وتوزيعها على قطاع غزة، دون تدخل من الطرفين، عبر الأمم المتحدة ووكالاتها والهلال الأحمر…”. وهذا يعني أن ترامب يعترف أنه كان هناك تدخل في توزيع المساعدات، رغم شحّها في غزة. ومن الواضح لترامب أن الذي دسّ أنفه في توزيع تلك المساعدات الشحيحة هو الطرف الأمريكي- الإسرائيلي. وهذا يعيدنا إلى ما أطلق عليه البيت الأبيض “مؤسسة غزة الإنسانية” التي قُتل على أعتابها المئات من طالبي المساعدات من جياع غزة ومرضاها ومشرّديها.
4. يقول ترامب في البند الثامن من هذه الخطة: “وسيخضع فتح معبر رفح في كلا الاتجاهين…”
وهذا يعني أن ترامب كان من المبارِكين لإغلاق معبر رفح الذي يخضع للسيادة المصرية بالكامل. ولكن الذي حدث أن السيسي المتسلّط على مصر اليوم لم يملك إرادةً لفتح معبر رفح المصري، وهكذا صمت، وكان صمته مساهمًا في استفحال الكارثة الإنسانية في غزة.
5. يقول ترامب في البند التاسع من هذه الخطة: “ستُدار غزة في ظل حكومة انتقالية مكوّنة من لجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية… بإشراف هيئة انتقالية دولية جديدة هي (مجلس السلام) برئاسة الرئيس دونالد ترامب، مع أعضاء ورؤساء دول آخرين سيتم الإعلان عنهم، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير”!!
وهكذا يواصل ترامب عبر هذا البند دور اللورد بلفور. فإن كان هناك وعد بلفور عام 1917، فها نحن أمام وعد ترامب عام 2025، ومأساة الشعب الفلسطيني مستمرة ما بين وعد بلفور ووعد ترامب.
وهذا هو ترامب، عبر هذا البند، يستبق دور الدجال الذي لم يظهر بعدُ، والذي سيعلن عن نفسه أنه رجل السلام عند ظهوره، وهكذا ينافسه ترامب على هذا الادعاء المزيّف، وها هو يعلن عن نفسه أنه سيكون مختار مجلس السلام على غزة!! ثم ها هو، عبر هذا البند، يحاول إحياء العظام وهي رميم، بمعنى أنه يحاول إحياء الانتداب البريطاني المشؤوم سيء الصيت، بواسطة احتضان توني بلير كـعضو في مجلس سلام ترامب!! فيا للكوارث التي تنتظر شعبنا الفلسطيني إن تمّ هذا الأمر.
6. يقول ترامب في البند الرابع عشر من هذه الخطة: “سيقدّم الشركاء الإقليميون ضمانًا لضمان امتثال حماس والفصائل لالتزاماتها، وأن غزة الجديدة لا تشكّل أي تهديد لجيرانها أو شعبها”!!
فإذا كان ترامب سيشترط الضمان سلفًا كي تمتثل حماس وسائر الفصائل بهذه الخطة، فلماذا لم يطالب ترامب ضمانًا سلفًا كي تلتزم المؤسسة الإسرائيلية بهذه الخطة؟!
والجواب واضح كما أظن، لأن ترامب يعتبر نفسه هو الطرف الثاني في هذه الخطة مقابل حماس وسائر الفصائل الفلسطينية، ولذلك لم يطلب الضمان من نفسه سلفًا كي يلتزم هو بهذه الخطة.
7. يقول ترامب في البند الثامن عشر من هذه الخطة: “وسيتم إطلاق عملية حوار بين الأديان قائمة على قيم التسامح والتعايش السلمي…”.
فواعجبًا من هذا البند!!
هل قاله ترامب وهو يعلم أن سلاحه الأمريكي قد دمّر معظم مساجد غزة والبعض من كنائسها خلال هذين العامين؟! أم أن المعلومات تصله عن غزة انتقائية وبالقطارة؟! بمعنى أن مَن حوله يحجبون عنه ما يرون أنه من المناسب حجبه عنه، ويطلعونه على ما هو مناسب، وفق حساباتهم فقط؟! أم أن ترامب يعلم كل شاردة وواردة في غزة، فليكن ما يكون حاله، فهو يدعو إلى حوار أديان على حساب دمار مساجد غزة وكنائسها، ويدعو إلى تعايش سلمي على حساب دمار غزة وتهجيرها؟! ولكن عمر البيت الأبيض، قياسًا إلى عمر غزة، هو كعمر طفل في الروضة إلى جانب عمر رجل راشد، فأنّى لهذا الطفل؛ البيت الأبيض أن يتجبّر على هذا الرجل الراشد؛ غزة؟! فهي غزة التي سبقت البيت الأبيض في بداية وجودها، وستسبق البيت الأبيض في امتداد وجودها.
الصفحة 1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى