معركة الوعي (65): حديث في الثوابت (1)
حامد اغبارية
في هذه الأجواء القاتمة التي استسلمت فيها “قلاعٌ” كان يظن البعض أنها لا يمكن أن تطأطئ أو تنحني أو ترفع الراية البيضاء حتى سلّمت رقبتها للمقصلة الصهيونية، وأصبحت كل أوراقها ومستقبلها تحت السيطرة، وفي أجواء أصبح فيه الاندماج والأسرلة بل وحتى الارتماء في أحضان الصهيونية وقياداتها نوعا من الأعمال الوطنية وإنجازا من الإنجازات السياسية، وذكاء خارقا للجدران وعابرا للحصون، في هذه الأجواء التي أراها انتكاسة خطيرة ومحطة من أسوأ المحطات التي حُفرت في سجلّ شعبنا المقهور، وفي سجلّ الداخل الفلسطيني على وجه الخصوص، بات من الضروري التأكيد على الثوابت، التي هي مفتاح الفصل بين الحق والباطل، أو بين الاستسلام للواقع وبين صناعة الواقع وتغييره.
ولعل أحد الفضلاء كان قد طرح سؤالا مهما ذات يوم قائلا: نحن طوال الوقت نتحدث عن الثوابت والالتزام بالثوابت… فما هي الثوابت؟
سؤالٌ ذو وجاهة فعلا وحقا تجدر محاولة الإجابة عليه. فما هي الثوابت التي نتحدث عنها؟
بداية لا بد من التأكيد على أن “الثوابت” بالنسبة لجميع مكوّنات الطيف السياسي والإيديولوجي في الداخل ليست ثابتة، بقدر ما إنها ليست واضحة بالنسبة للكثيرين، وربما كان هذا مُريحا لبعض التيارات التي تركت الباب مفتوحا أمام تحديد الثوابت، وهذا بحد ذاته – في نظري على الأقل- يشكّل مصيبة سياسية وفكرية لها علاقة بالماضي والحاضر والمستقبل وصياغة الهوية وتحديد الانتماء، ذلك أن الأصل في الأمة أن تكون ثوابتها واضحة محدّدة يعْلمُها الجميع ويدافع عنها الجميع بنفس المستوى وبنفس العنفوان وبنفس الحُرقة وبنفس القدر من المسؤولية وبنفس المستوى من البذل والعطاء والتضحية. هكذا يجب أن تُفهم المسألة…
على ضوء الواقع السياسي والفكري والهوياتي والانتمائي للداخل الفلسطيني، بل وللشعب الفلسطيني في كل مواقعه الجغرافية، فإن هناك ثوابت فلسطينية (وطنية)، وهي ثوابت محصورة محدودة، وهناك ثوابت عربية (قومية) وهي كذلك محصورة محدودة، وهناك ثوبت إسلامية (عقائدية) وهي ثوابت ممدودة لا محصورة ولا محدودة. ولعلك ستجد أن هذه الثوابت بفلسطينيتها وعروبيتها وإسلاميتها ثلاثة أنواع: ثوابت على الأرض، وثوابت في فهم القضية، وثوابت في مستقبل القضية. وستجد أيضا أن الوطنية والقومية والإسلامية تلتقي في الكثير من الثوابت، لكنها تختلف وربما تتنازع وأحيانا تتصادم في ثوابت أخرى. وهذا يقتضي التفصيل، والشرح، والتنبيه، والإشارة.
ولأن الـ “ثابت” في معناه المعجمي والاصطلاحي هو الذي يثبُتُ ولا يتغير ولا يطرأ عليه تبديل مهما تعاقبت عليه الفصول، ومهما تعاقب عليه الليل والنهار، وأيا كانت الظروف والطوارئ والأحداث التي يمكن أن تقتحم المسيرة. فالثابت يبقى مستقرا مكانه، يسعى الناس إلى تأكيده وملاءمة أنفسهم لمتطلباته، ولا يسعى هو إلى ملاءمة نفسه لقدرات الناس وطاقاتهم، أو لظروف طارئة، أو جراء وهن، أو ضعف أو بلاء أصاب الناس. الأصل أن يبقى الثابت ثابتا وأنَّ الناس هم الذين يتغيرون. لكنك ترى بين ظهرانينا من يتلاعب بهذه الثوابت وينزع عنها صفة الثبات والديمومة بحجة أن الزمن تغير أو أن الظروف والواقع لا يسمحان، حتى باتت دائرة المناورة التي يلعبون فيها ضيقة، حتى وكأني أرى حبل تضييق الدائرة يلتف حول أعناقهم ويقطع أنفاسهم رويدا رويدا، ويأخذ ما تبقى لهم من شرف أو كرامة.
نعم… حان الوقت أن توضّح أمورٌ كثيرة، وأن يقال ما لم يُقل قبل ذلك، وأن توضع النقاط الثابتة فوق حروف الثوابت ليحيى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. حان الوقت لشيء من كشف الغطاء عن بعض المفاهيم المنقوصة أو المغلوطة أو المشوهة (عن سبق إصرار) التي انتابت ثوابت الشعب والأمة.
وأظنني قد ذكرت في مقال سابق أن الكثيرين؛ سواءً كانوا أشخاصا أو أطرافا أو هيئات وأحزابا وحركات وتجمعات ونُخبا يزعمون أنهم يفهمون ثوابت القضية ويعرفونها، وبناء على هذا الفهم هم يتحركون ويعملون. وهذا بالضبط هو بيت القصيد، وهنا مربط الفرس. فلو أن شعبنا اتفق مبدئيا وبداهة على حزمة الثوابت بكليّـتها وشموليتها (كما سيأتي) وعدم انفكاك بعضها عن بعض ولا تجزئتها ولا تبديل سلم أولوياتها لما كانت هناك مشكلة أصلا، وما كان أي داع ولا دافع لهذا الحديث أساسا.
فأول باب يُدخل منه إلى الثوابت هو ثابت فَهْم القضية، فهو الضابط لسائر الثوابت، وهذا ما سأفصّل فيه في المقال القادم إن شاء الله تعالى. (يتبع)



