معركة الوعي (30).. الذيــــن قالــــوا “لا”! (9)

حامد اغبارية
مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.
إنها غزّة- قاهرة الغزاة ومخزن الصمود (3-3)
غزة بوابة القدس. هكذا تعامل الاحتلال الانجليزي حين هاجمت قواته غزة في الأول من تشرين الثاني 1917، يوما واحدا قبل صدور وعد بلفور المشؤوم، بينما عينُه على القدس. فقد كان الانجليز يعلمون جيدا أن السيطرة على غزة ستمهد لهم الطريق إلى المدينة المقدسة، ولذلك حشدوا من القوات العسكرية والآليات ما لم يسبق لهم أن حشدوه في معارك سابقة. وقد ذكرتُ في المقال السابق أن غزة صمدت أمام الهجوم الانجليزي سبعة أيام كلفت الاحتلال خسائر كثيرة. ولولا قطع الإمدادات عن القوات التركية التي أبلت بلاء حسنا في تلك المعركة، ولولا خيانات داخلية أشرتُ إليها هناك، لتمكنت غزة من صد ذلك الهجوم كما فعلت في معارك سابقة.
جاء في كتاب “خمس سنوات في تركيا” للجنرال الألماني “ليمون فون ساندرس” الذي كان يشرف على تدريب القوات التركية: “… وكان الفارّون من الجيش التركي عرباً لبَّوْا دعوة الشريف حسين والتحقوا بالثورة العربية الكبرى وانخرطوا في صفوف الجيش العربي الذي تأسس في أوائل 1917″، بل إن قسما منهم التحق بقوات أللنبي مباشرة، وقاتلوا أهلهم وإخوانهم في الدين والوطن مع أشد الناس عداوة للعرب والمسلمين. وكان الانجليز بقياد أللنبي قد رأوا أن السيطرة على غزة لن تتحقق إلا إذا سيطروا على مدينة بئر السبع. فقد كان خط دفاع القوات العثمانية يمتد من غزة إلى بئر السبع، تلك المدينة التي شهدت معركة طاحنة كاد العثمانيون أن يدحروا خلالها القوات الانجليزية لولا قلة العتاد وقطع الإمدادات وقلة المؤونة. وقد تكرر المشهد مع مدينة العقبة، التي كلفت الانجليز ثمنا باهظا قبل أن يتمكنوا من السيطرة عليها. وقد اعترف أللنبي شخصيا أنه لولا خيانة العرب وانضمام قوات الحسين بن علي (بقيادة ابنه فيصل الأول) إلى القوات الانجليزية لما تمكن من السيطرة على بئر السبع والعقبة، ومن ثم غزة.
وقد أشارت مصادر تاريخية عدة إلى أن الأتراك قاتلوا بشراسة منقطعة النظير، والأهم من ذلك أن قاتلوا بشرف وتعاملوا مع العدو بشرف، بعكسي الانجليز الذين تعاملوا بنذالتهم المعهودة. وقد ورد في تقرير ميداني للقوات الانجليزية: “إن الأتراك كانوا شديدي الاحترام للأطباء والممرضات (الانجليز)، فلم يعتدوا عليهم رغم أنهم كانوا أمامهم في ساحة المعركة”.
في 1923 وصل أللنبي إلى غزة لتدشين مقبرة الجنود الانجليز الذين دفنوا هناك، فقال مقولته الشهيرة: ” كانت غزة من فجر التاريخ إلى يومنا هذا بوابة الفاتحين”.
وإنه لولا صمود غزة حتى يومنا هذا لكانت قضية الأمة المعروفة باسم “الصراع على فلسطين” بين المشروع الصهيوني مدعوما من حكومات العالم كلها وبين شرفاء الأمة، قد شطبت من أجندة التاريخ. وهذا باعتراف الاحتلال الإسرائيلي قبل غيره. فكلما ظن الاحتلال ومن لف لفه ودار في فلكه أنه قد اقترب من تحقيق الحلم قامت غزة لتقول له ولغيره “لا”.. فطالما أن غزة على قيد الحياة وعلى قدر الدور التاريخي فإن حلمكم لن يتحقق.
في 1992 قال رئيس الوزراء الإسرائيلي يتسحاك رابين: “أتمنى أن أستيقظ يوماً من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر”. لماذا؟ لأن غزة كانت مصدر الصداع المزمن الذي لا يزال الاحتلال يعاني منه إلى اليوم. وكان صداعا تكلفته باهظة إلى درجة دفعت أريئيل شارون إلى اتخاذ قرار بالفرار من غزة نهائيا عام 2005. فقد أذاقت غزة قواته مُرّ العذاب وجعلت جنوده يحلمون بالكوابيس في منامهم وفي يقظتهم، حتى أن هناك جنودا كانوا يفرون من الخدمة لمجرد أن يقال لهم إنهم سيخدمون في جبهة غزة.
لم يبتلع البحر غزة، ولم يتحقق حلم رابين ولا أحلام الذين جاءوا من بعده. بل ظلت غزة تنبض بالعنفوان والصلابة والصمود والعزة والأنفة التي عُرفت عنها على مدار التاريخ.
ومثلما عاشت غزة في عصور سابقة خيانات أولى القربى الذي حاولوا إضعاف قوتها خدمة لأعداء الأمة، فإنها عاشت ولا تزال في أيامنا ذات المشهد، ولم يكن محمد دحلان هو النموذج الوحيد لهذه الخيانة، بل خانتها سلطة رام الله، خاصة في زمن محود عباس، إلى درجة دفعت عزام الأحمد، أحد صبية الاحتلال العاملين عند السلطة أن يدعو إلى قطع الهواء عن غزة. وقد فعلها حسني مبارك ويفعلها السيسي اليوم وتفعلها سائر أنظمة العار العربية، التي تكره غزة وتتآمر على إسقاطها ودفعها إلى الاستسلام، بُغضا لتاريخها المجيد، وكراهية لرايتها الإسلامية النظيفة التي رفعتها طوال الوقت. لكن غزة بقيت غزة برجالها ونسائها وبحرها ورمالها. وكما رحل الذين سبقوهم فسيرحل هؤلاء وستبقى غزة نموذجا فريدا في التاريخ للصمود والصبر والتصدي لكل محاولة لكسر عزة أهلها. ولو أن هؤلاء عقلوا دروس التاريخ لقبّلوا غزة من جبينها ولأقبلوا عليها إقبال الملهوف على مغيثه. لكنه القدر.
من غزة تفجرت الانتفاضة الأولى عام 1987، فلقنت الدنيا كلها معاني الرجولة الممزوجة بدماء أطفالها ونسائها قبل رجالها.
وكما حدث في مواقع أخرى من الجغرافيا الإسلامية، كالجزائر مثلا في أوائل التسعينات، فقد احتشدت محافل الإجرام في فسطاط الشر ضد غزة عام 2006، بعد أن قال الفلسطيني كلمته واختار لقيادته الصوت الإسلامي، وكأنه يقول للعالم كله إن كل ما مساعيهم وخططهم وبرامجهم وأموالهم طوال سبعة عقود من الاحتلال الصهيوني وطوال قرن من التآمر على الأمة قد ذهبت هباء.، فقد فشلتم في تغيير اتجاه بوصلة هذا الشعب.
كانت سلطة دايتون هي أداة أعداء الأمة في الوقوف في وجه إرادة الشعب الفلسطيني. وإذا بغزة تعيش واحدة من أصعب صفحات تاريخها، في صراع دامٍ افتعلته قوات دايتون في غزة تموز 2007، أدى إلى سيطرة حركة حماس على القطاع سيطرة تامة، لتبدأ غزة مرحلة جديدة من اختبارات الصمود والأنفة والعزة.
وقد عاشت غزة فعلا منذ ذلك الوقت، ولا تزال إلى هذه اللحظة، محطات دامية في ثلاث حروب شنها الاحتلال عليها، لتسطّر ملحمة من ملاحم الصمود الأسطوري رغم كثرة الأعداء من الداخل والخارج، ورغم ضيق ذات اليد، اللهم إلا من صدور امتلأت إيمانا وأنفة وكبرياء وإرادة، لم تفلح كل تلك الحروب في كسرها بل زادتها ثباتا وعنفوانا.
ولقد رأينا صمود غزة على صفحات وجوه أولمرت وبيرتس ويعلون ونتنياهو وبراك وليبرمان وجانتس. فإن وجوه هؤلاء يوم لقنتهم غزة دروسا في العزة والصمود قد عبرت عن حقيقة هذه البقعة الصغيرة في علوم الجغرافيا، الكبيرة في علوم الإرادة، في كونها أكثر منطقة جغرافية في العالم بمعطيات فريدة من حيث المساحة وعدد السكان تتمكن من الصمود 14 سنة في وجه حصار تشارك فيه قوى الاستكبار وعملائها من العرب والفلسطينيين، دون أن تتمكن من إحداث اختراق أو زحزحة غزة عن كبريائها قيد أنملة.
لأنها غزة التي قالت “لا” لكل أنواع الطواغيت على مدار تاريخها، فإنها استُهدفت ولا تزال، لأنها حقا بوابة القدس.
وأما ما يحدث لغزة وفي غزة فإنه من قدر الله تعالى، وما يمارسه المجرمون ضد غزة هو أيضا من قدر الله، وإن من قدر الله ألا تنكسر غزة وألا تطأطئ وألا ترفع راية بيضاء حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. سيرحل الغزاة، وستُطوى صفحة الخيانات، وستبقى غزة تقول “لا”، حتى يتمنى الذين تمنَّوْا إغراقها في البحر لو أن البحر ينشق كما انشق لموسى (عليه السلام) ويبتلعهم. يتبع.


