في اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة.. المجتمع الدولي هو المعاق الأكبر
الشيخ كمال خطيب
ضمن القائمة الطويلة من الأيام التي أعلنت عنها الأمم المتحدة من كل عام يوم الأم ويوم العمال ويوم المرأة ويوم الطفل ويوم المعلم، فإنه اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة “المعاقين” والذي يتم إحيائه يوم 3/12 من كل عام، وقد مرّ علينا الأسبوع الماضي.
إن إعلان هذا اليوم وتخصيصه ليس من أجل التخلص من رواسب أفكار افلاطون (كان يعتبر أنه لا مكان لأصحاب الاعاقات في المجتمع وأنه لا بد من التخلص منهم لأنهم عبء على المجتمع) ولا من أجل شطب أي معلم من معالم نازية هتلر الذي أمر بقتل أصحاب الاعاقات في المجتمع الالماني لأن هؤلاء لبنة ضعيفة وهشّة في مجتمع أراده أن يكون صلبًا قويًا، ولكن تخصيص ذلك اليوم للفت الانتباه إلى شريحة من المجتمع ما زالت تهمّش ويساء إليها وتهضم حقوقها وينظر إليها نظرة انتقاص بل وازدراء في مجتمعات ودول تدعي الحرية وترفع شعار حقوق الانسان والمساواة، بل إنها من أشهر الديمقراطيات في العالم، وذلك على الرغم مما لا يمكن إنكاره من خطوات حثيثة سعت إليها وعملت لتحقيقها في مجال حقوق الإنسان. ولقد رأيناها قبل سنوات مظاهرات الصم والبكم في شوارع تل أبيب تطالب بحقوق مهضومة، ورأيناها مظاهرة آلاف العجزة وأصحاب الاعاقات الحركية على الكراسي المتحركة يغلقون مفارق الطرق الرئيسية في القدس وتل أبيب بسبب الإهمال المتعمد والسلب الممنهج لحقوقهم، ومثل هذا حصل ويحصل في دول كثيرة.
# نحن الرواد في خدمة ذوي الإعاقات
نعم لقد خلق الله سبحانه الإنسان على أحسن هيئة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} آية 4 سورة التين. ولقد جعل الله الانسان مكرمًا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم} آية 70 سورة الإسراء. {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} آية 6-8 سورة الانفطار. لكن هذا لا يتعارض مع حكمة له سبحانه في أن يحرم بعض الناس من بعض صفات ومزايا أعطاها باقي خلقه سواء كان ذلك في أجسادهم “إعاقة جسدية” أو في عقولهم “إعاقة عقلية”. ولأنهم كذلك فإنه سبحانه جعل لهم خاصية في التعامل الدنيوي والأخروي تتلاءم مع حجم البلاء الذي نزل بهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يعقل”. وإنه الله جلّ جلاله الذي قال {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} آية 60 سورة النور. وقد قال الله تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} آية 286 سورة البقرة. {يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر} آية 185 سورة البقرة.
وعلى هذا الهدي كان تعامل المسلمين مع هذه الفئة والشريحة من الناس، فها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لجنوده المحاربين في جبهات القتال، فإنه نهى عن قتل من كان أعمى أو زمنًا – صاحب مرض مزمن – أو شيخًا فانيًا ومثلهم من كان به مرض مقعد أو سبب معوّق.
بينما هي عشرات الحالات قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق النار وإعدام وقتل فلسطينيين من ذوي الاحتياجات الخاصة وأصحاب الإعاقات الجسدية والعقلية دون مراعاة لظروف هؤلاء. فالمعاق الفلسطيني مجرم في نظرهم ومخرب لتبرير قتله، بينما المجرم الإسرائيلي الحقيقي فإنهم يصفونه بالجنون ويشككون في قدراته العقلية والنفسية من أجل تبرئته كما في حالة المجرم دينيس روهان الذي أحرق المسجد الأقصى المبارك بل إنها حالات كثيرة.
لقد اعتنى المسلمون بهذه الشريحة من الناس فأنشأت الدولة الإسلامية الأموية والعباسية وما بعدها دورًا لرعاية المعاقين “بيمارستان” وكانت تستند في الإنفاق عليها وتشغيلها على نظام الوقف الخيري، فتوقف لها العقارات والأراضي والأموال، ولقد أنشأ الوليد بن عبد الملك منها الكثير وخصص لها الأطباء وكانت للعلاج والمعاش أي للإقامة فيها، وجعل الوليد بن عبد الملك للمجذومين والعميان الأرزاق ومنعهم من التسول وسؤال الناس، بل إنه جعل لكل مُقعد خادمًا ولكل ضرير قائدًا كما قال ذلك الإمام المقريزي.
# عوامل وقائية لمنع الإعاقات
مع قناعتنا نحن المسلمين بأن الإعاقة هي بلاء، ولكن شريعة الإسلام العظيم سعت واجتهدت في وضع ضوابط يمكنها التقليل والتخفيف من مظاهر وحالات الإعاقة في المجتمع، فقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم الشباب الذي يرغب بالزواج بالاغتراب بالنكاح. وقد ثبت علميًا وبالدليل القاطع أن الزواج من القريبات نسبًا قد يكون سببًا في أمراض وإعاقات عند الأبناء نظرًا لتشابه في العوامل الوراثية عند الزوجين، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اغتربوا ولا تضووا” أي لا تضعفوا ولا تهزلوا. وقال صلى الله عليه وسلم: “لحيّ من أحياء العرب كانوا يتزاوجون فقط من حيّهم فظهرت فيهم الأمراض – يا بني فلان إنكم ضويتم فاغتربوا”. وقال كذلك: “غرّبوا النكاح”. ولهذا كذلك حرّم الإسلام الخمر والمخدرات والدخان لما لهم من آثار صحية على جسم الانسان وأنها ستقود إلى أمراض وأوبئة بسببها يتحول الانسان الصحيح إلى صاحب إعاقة وهذا لا يحتاج إلى شرح، فحول وفي محيط كل واحد منا أمثلة كثيرة من الأقارب أو الجيران أو المعارف. ولقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم وحذّر لأسباب وقائية من حمل واستخدام أي وسيلة يمكن أن تؤدي إلى جرح أو إصابة تتحول إلى إعاقة فقال: “إذا مرّ أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصلها” حتى لا تجرح المارة في السوق فتأذيهم. وقال كذلك صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق”. نعم إنه الرسول صلى الله عليه وسلم معلم الناس الخير، يحبب إلينا إزالة كل ما يمكن أن يكون سببًا في إيذاء الناس إذا كان في طريقهم.
وإن أسباب الحذر هذه والوقاية لتندرج تحتها اللوائح والقوانين التي تحول دون وقوع حوادث الطرق وإصابات العمل، وضرورة الالتزام بها مثل السرعة القصوى للسيارة وعدم تجاوزها أو استخدام الأحزمة الوقائية أو استخدام أحذية خاصة ولبس الخوذات المخصصة للعمال في ورشات العمل أو تجريم من يتكلم بالهاتف أو يرسل الرسائل النصية خلال قيادة السيارة، فهذه ولا شك من أسباب الأمان والحماية للتقليل من حوادث الطرق والعمل وبالتالي التقليل من الإصابات وإعاقات تنجم عنها.
# رفع الحالة المعنوية لأصحاب الإعاقات
ليس لأن أصحاب الإعاقات وذوي الاحتياجات الخاصة يجب أن يكونوا محل وفي موقع شفقة واستعطاف عليهم، فهذا لا يكون في المجتمع السليم ولكن في المجتمع الذي يعاني هو بنفسه من إعاقات تربوية وأخلاقية وثقافية في أبنائه، فإن من هؤلاء من يسيؤون التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة بالقول أو الفعل أو حتى بالنظر، لذلك جاءت تعاليم الإسلام لكبح جماح هؤلاء وردع هذه الإعاقات في نفوسهم، فقال في هذا الله جلّ جلاله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} آية 13 سورة الحجرات. وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} آية 11 سورة الحجرات. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”. وقال كذلك: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه”. لا بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب وظهر ذلك على ملامحه لمّا رأى وسمع زوجته عائشة رضي الله عنها تشير إلى فلانة أنها قصيرة، فقال: “لقد قلت كلمة لو خلطت بماء البحر لخلطته” أي لعكّرته بعد صفاء في إشارة إلى عظم خطئها في إشارتها إلى تلك المرأة بقصر القامة. لا بل إنه القرآن الكريم قد سجّل ووثّق آية بل سورة اسمها سورة “عبس” فيها عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم في سلوك سلكه مع الرجل الأعمى عبد الله بن أم مكتوم {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} آية 1-4.
أين هذا من مجتمعات كثيرة منا نحن العرب والمسلمين ما تزال تنظر إلى ذوي الإعاقات وذوي الاحتياجات الخاصة نظرة ازدراء، لا بل إنها المجتمعات الأوروبية صاحبة شعارات حقوق الإنسان ومن خصصت يوم 3/12 يومًا للتذكير بهؤلاء، فإن فيها مؤسسات تحتضن أطفالًا ولعلّهم أصبحوا رجالًا قد ولدوا بعاهات جسدية وعقلية ولكن أهلوهم رفضوا تقبلهم فخرجت الأم من مستشفى الولادة تاركة طفلها الذي ولد بإعاقة للمستشفى الذي يقوم بدوره بنقله إلى دور رعاية خاصة بهؤلاء فلا يراهم أهلوهم بعدها أبدًا ولا هم يرونهم.
إن من أدب الإسلام إذا رأى المسلم مريضًا أو صاحب عاهة فلا يشمت فيه ولا يزدريه وإنما أن يحمد الله. إنه عافاه مما ابتلى به غيره، فهكذا كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري”. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذّر بلهجة قاسية من يشمتون بأصحاب البلاء والعاهات لمّا قال: “لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك”. لا بل إنه أكثر من ذلك لمّا اعتبر الاسلام أن وجود هؤلاء في البيت يمكن أن يكون من أسباب الرزق والرحمة والبركة تنزل على أصحاب هذا البيت وقد صبروا على البلاء، وزيادة على ذلك فإنهم قد أُكرموا وقاموا بحق صاحب العاهة إن كان هو الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت، لا بل إن إكرام أصحاب الإعاقات في الأمة هو من أسباب النصر كما قال صلى الله عليه وسلم: “إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم”.
# معاقون في أجسادهم عظماء في همهم
فهذا الأحنف بن قيس فصيح العرب وخطيبهم وقد ولد قصير القامة أحنف الساقين – والحنف هو انفراج الساقين إلى الخارج عند الركبتين. وهو الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم فامتدحه قائلًا له: “إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، الحلم والأناة”.
وذات يوم لقيه رجل فاحتقره وقد رأى قصر قامته وانفراج ساقيه وهو الذي كان صيته وشهرته في الفصاحة والخطابة قد ملأت جزيرة العرب، فقال له الرجل: “أن تسمع بالمُعَيدي خير من أن تراه” أي كأنه يقول له كنت احترمك وأعجب بفصاحتك قبل أن أراك، وها أنت بهذا الشكل أمامي فلقد نزلت مكانتك في نظري. فقال له الأحنف: ماذا ذممت مني يا أخي؟ فقال له الرجل: الدمامة وقصر القامة. فقال له الأحنف: لقد عبت عليّ ما لم أؤمر فيه ولم يؤخذ فيه رأيي، يا أخي الإنسان بأصغريه قلبه ولسانه”.
وإنه التاريخ الإسلامي والتاريخ الإنساني ليزخر ويحفل بالكثيرين من ذوي الإعاقات والاحتياجات الخاصة ممن تصدروا المشهد وتبوأوا أسمى المراتب في كل المجالات والميادين ولم تقعدهم إعاقتهم عن القيام بواجبهم، بل تقدموا على غيرهم من الأصمّاء.
فهذا عبد الله بن أم مكتوم، الصحابي الجليل الذي فيه نزلت آيات سورة “عبس وتولى” فقد كان واليًا على المدينة المنورة، بل إنه كان يحمل لواء معركة يوم القادسية واستشهد فيها. وهذا موسى بن نصير فاتح الأندلس ولمّا عوقب على استمرار اندفاعته شمالًا نحو أوروبا قال: “لو أطعتموني لوصلت بكم إلى القسطنطينية” مع أنه كان أعرجًا لكنه كان صاحب رأي وحزم، وهذا الزمخشري صاحب التفسير المشهور وكان برجل واحدة، وهذا مصطفى صادق الرافعي أديب العربية الكبير وكان أصمًا، بل وهذا الفيزياء الشهير ستيفن هوكنج اسطورة القرن في إعاقته وأسطورة الكون في عبقرتيه في الفيزياء وغيرهم كثيرون كثيرون.
# المجتمع الدولي صاحب الإعاقة الكبرى
إنه ومع ضرورة الوقوف عند هذه الشريحة من المجتمع بما يليق بها ويتلاءم مع حاجاتها، لكن ليس من خلال الدندنة الإعلامية والفرقعات في البيانات التي تصدرها الجمعيات والمؤسسات الدولية يوم 3/12 وقريبًا منه، وإنما الواجب أن يكون هذا من خلال منطق وعدالة قضية هؤلاء في كل الدول وفي كل المجتمعات.
فالذين يتحدثون بل ويتشدقون عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق المرضى وحقوق كبار السن فإننا نراهم ينخرسون وهم يرون كل هذه الشرائح تنتهك إنسانيتها وتداس كرامتها في سوريا واليمن والعراق وغزة وفي بلاد الروهينغا والإيغور وفي بلاد كثيرة.
إن المجتمع العالمي كله اليوم مصاب بالإعاقة والعجز أمام مشهد عشرات آلاف الإعاقات في الشعب السوري جراء الحرب الدموية التي يقوم بها بشار الأسد على شعبه، وترتكبها الميليشيات الطائفية هناك، لا بل إنها روسيا المجرمة بما تفعله قنابل طائراتها خلال قصفها للشعب السوري في قراه ومدنه.
ليس أن المجتمع الدولي مصاب بالإعاقة والعجز فقط، بل إنه قد يصبح بلا ضمير وبلا إحساس حينما نراه يتفاعل مع كلبة وقطة وبطة وقعت ضحية لحرب من الحروب كما حدث في حرب الخليج، بينما هم ملايين العرب والمسلمين قد أصبحوا في ميزانهم مجرد أصفار ليصدق فيهم قول الشاعر:
قتل امرئ في غابة قضية لا تغتفر
وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
إنها أمتنا التي يجب أن لا تستجدي هؤلاء ولا تطلب منهم الإحسان والشقة، وإنما وفي هذا الزمان فإن الحقوق تنتزع انتزاعًا لأن العالم المنافق والمعاق لا يعبأ بالضعفاء. نعم إنها مرحلة وستتجاوزها أمتنا بإذن الله تطوي فيها صفحة العجز والضعف والتبعية لتنطلق إلى صفحات المجد والعزة والرفعة، من خلالها ينعم ليس فقط أصحاب الاحتياجات الخاصة بحقوقهم وانسانيتهم بل إنها الخلائق كل الخلائق والإنسان كل الإنسان سيجد إنسانيته المهانة وكرامته المهدورة في ظلال شريعة الإسلام ودولة الإسلام، وإنه كائن وقريبًا بإذن الله تعالى.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون



