أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

قواعــــــــــــد الميثاق (6)

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
لما كانت علاقة الإنسان بالحياة علاقة ابتلاء بمعانيه المحضة الدَّالة على معاني الامتحان والاختبار، أي اختبارنا في الحياة الدنيا، وذلك في مدلولاتها الثلاثة، في المدلول الشعائري أي العبادات بمفهومها الرحب، والمدلول الكوني أي الكون وما فيه وتسخيره للإنسان، والمدلول الاجتماعي أي العلاقات الاجتماعية والانسانية بمفهومها الرحب، على اعتبار أنّ الابتلاء هو المظهر العملي لعلاقة العبودية بين الله والإنسان، برسم أن الانسان في الفلسفة الاسلامية هو محور هذه الحياة، ولذلك تعمل الفلسفة الاسلامية المشتقة من عقيدة التوحيد على الوصول بهذا الانسان إلى غايتين أساسيتين، بقاء هذا الانسان المكرم بقاء ماديا ومعنويا، والارتقاء به الى المستوى الذي يليق به وبمكانته في هذا الوجود ( أنظر فلسفة التربية الاسلامية ج1/ ماجد عرسان الكيلاني رحمه الله تعالى ).
علاقة العدل والإحسان
وبناء على هذا التصور يكون العنف الموجّه إلى الإنسان من امتهان لكرامته وحط من قيمته واحتقار لذاته وقتله، مناف لتحقيق غايتي البقاء والارتقاء ومعرقل لهما، بل وفيه تعالِّ على الله خالق هذا الانسان ومكرمه، ولأننا نؤمن بسرمدية الإنسان وأنَّ موته محطة في رحلته الأبدية فإنَّ من يقوم بالاعتداء على هذا الأنسان عمليا يعتدي على صانعه الذي هو الله تعالى خالق كل شيء، وتتعاظم جريمة ممتهن كرامة الانسان وقاتله وتزداد يوم نعلم أن هذا الانسان المكرم يعيش على هذه الارض في دوائر خمسة، هي مناط وجوده وفقا للرؤية الاسلامية، وهذه الدوائر تكمن في علاقته مع الله باعتبارها علاقة العبودية، ومع الكون باعتبارها علاقة التسخير، ومع أخيه الانسان باعتبارها علاقة العدل والاحسان، ومع الحياة بسياقها الزمني، أي عدد السنين التي يعيش، باعتبارها علاقة الابتلاء، ومع الآخرة التي هي المآل باعتبارها علاقة المسئولية والجزاء. في هذا السياق يكون الاعتداء على الإنسان في رؤيتنا الأولية كبيرة كما المفهوم الشرعي، خاصة يوم أن نفهم فلسفة العلاقة القائمة بين الإنسان وخالقه والكون بما فيها الأرض التي هي محطُّ أفعاله وامتحانه.
بناء على ما سبق من رؤية للإنسان ومكانته ومحوريته فإن منطق الابتلاء النازل عليه يتم ضمن ثنائية علاقاته مع الله وأخيه الانسان، وتتم هذه العلاقة على أساس من الولاء والعبودية والطاعة مع الله، وعلى أساس من العدل والاحسان مع أخيه الانسان، والذي حدد هذه العلاقة، الله خالق هذا الانسان وذلك في قوله تعالى ” ِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ-النحل 90. إذ العلاقة بيننا في الداخل الفلسطيني- وعموم الخلق- قائمة على أساس من العدل باعتباره يحقق الانصاف، والاحسان باعتباره يحقق الفضل والمعاملة الحسنة، وعندما تهتز هذه القيم وتُخترق فإن الظلم يحل محلهما إذ تقوم الحياة على ثنائية الخير والشر والابتلاء بهما، إذ الابتلاء غايته تخليص الإنسان من أوهاق التعصب والعلو والافتئات والكذب بكل مستوياته، والبلطجة والخنا والخيانة ونفي الآخر وادعاء الصِدقية المطلقة، وهذا كله من أجل تحقيق وانتقاء العناصر الانسانية المناسبة للإنسان تمهيدا لمرحلة الخلود السرمدية التي تومئ إليها الآية القرآنية ” وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ- الرعد٢٢.
إذا وجد القانون غاب العنف
ولذلك كانت الحاجة ماسة لوجود قانون يحتكم الناس إليه لتسيير معاشهم الدنيوي، وفي رؤيتنا الشرعية لتحقيق دورهم العمراني في الحياة التي يعيشون، والسرمدي في جنات ونَهَر عند مليك مقتدر، فالقانون معناه حماية الافراد من جانب، وتخليهم طواعية عن حماية أنفسهم من ناحية ثانية، وبذلك يتحول هؤلاء الناس الى مجتمع سوي فعبر ناظمهم المتمثل بالقانون تتعزز بينهم أواصر وقيم يحميها هذا القانون ويتحول المجتمع بذاته الجمعية إلى ضامن يحمي بعضه بعضا، برسم ما اتفقوا عليه من تنزيل للقانون في حيواتهم وهو الذي يفصل بينهم بالعدل ويوم يتخلى المجتمع “الجمعي” عن حماية أفراده، تتحول الحياة إلى غابة ويعودون ليتحاكموا إلى شريعة الغاب وإذا كانت وظيفة القانون تسيير شؤون الناس سلما فمن مهماته الاساس منع الاحتكام لقانون الغاب، وأخذ كل فرد القانون ليده وكأنه فوق القانون أي فوق الناظم المتفق عليه بين الناس كافة، هو إيقاف العنف ومنعه بين الناس ليكون الحل بالسلم لأنه حين تسيطر القوة الجسدية فلا شريعة ولا قانون، وحيث يسيطر العلم والفهم تكون الشريعة والقانون، ولا سلطان للعنف وعبادة الجسد وعندئذ يعلو صوت العقل والمنطق ليكون الفيصل بين مجتمع العنف واللاعنف، بين اللاشرعية والشرعية (أنظر: جودت سعيد : الدين والقانون رؤية قرآنيه).
يقول جودت سعيد في كتابه الآنف الذكر “إذا وجد القانون يغيب العنف، وإذا وجد العنف يغيب القانون. علينا أن نجتهد كثيراً حتى يصير هذا الشيء – الذي هو واضح وخفي في آن واحد – واضحاً ويزول عنه الخفاء بحيث يتحول إلى واضح وبدهي، جميعاً، ولقد ذكر القرآن كيف ينخدع الإنسان بصوره الذهنية ( أهوائه ) ويتخذها إلهاً، وكأن صورته الذهنية هي الحقيقة الحقيقية، ويشبههم القرآن بالأنعام بل أضل سبيلاً، لأن الأنعام تسير حسب غرائزها لا حسب معرفة الخير والشر، فالإنسان الذي صار عارفاً الخير من الشر إذا تخلى عن ذلك يُفسد أكثر من الأنعام، ثم يضرب مثلاً بحركة الظل، وكيف أن صورنا الذهنية تخطئ في فهم أوضح شيء وهو الشمس، إلا إن خطأنا في الفهم لن يغير نظام الفلك، بل نحن الذين سنتغير . والله تعالى يقول: “وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ “-المؤمنون 23/71. ويقول: “أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً. أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً”- (الفرقان 25/43-45).

من قواعد الميثاق
وثمة حاجة الى تحقيق توازن في حياتنا بين رغباتنا وما نتطلع ونتشوف إليه وبين واقعنا المُعاش وسبل تدبير هذا المعاش وشؤون الحياة، إذ ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
ونحن بحاجة الى إيجاد التوازن بين القيم الوافدة بما تتلبسه من أخلاقيات مادية وعملية، وما يحركها من ثورة المعلومات والتكنولوجيا وبين قيمنا الاصيلة بما تحتويه من موروث تربوي وفكري وقيم واخلاق وكرامة وعدل وصبر وإحسان وتعاون.
وأساس العلاقة بين أبناء المجتمع في داخلنا الفلسطيني مؤسسُّ على العدل والإحسان، إذ بالعدل يتم الإنصاف وبالإحسان يتم التفضل والزيادة في المعاملة الحسنة ومنارتنا قول الله تعالى “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ –النحل 90.
ونبتغي بالعدل والاحسان تحقيق كرامة الناس والارتقاء بهم حضارة وثقافة ومنزلة.
ونعتقد أنَّ ذمة المسلمين واحدة يسعى بذمتهم أدناهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “ذمة المسلمين واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا- (الصرف: التوبة او الحيلة، الذمة: العهد والأمان والحرمة والحق).
ونعتقد بحرمة الظلم مهما كان نوعه ومصدره ونراه مرفوض شرعا وعٌرفا وقانونا وعقلا وأخلاقا وفي الحديث “اتقوا دعوة المظلوم وان كان كافرا فإنه ليس دونها ودون الله حجاب”.
حقوق الناس في الداخل الفلسطيني تكمن في جلب الخير إليهم ودفع الضير والضرر عنهم.
ومنظوماتنا التي نعتمدها لبناء تصوراتنا لواقعنا وحاضرنا ومستقبلنا مؤسسة على قيمنا واخلاقنا الراسخة وهويتنا الاسلامية بسياقاتها الشرعية والحضارية وعلى موروثاتنا الحضارية.
والقوى السياسية في الداخل الفلسطيني ومعها كل القوى المجتمعية على اختلاف مسمياتها تعتبر السلم الأهلي والسلم المجتمعي قضية مقدسة لا يجوز المساس بهما أبدا.
المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني يرى بالدم الفلسطيني دم حرام لا يجوز المساس به وكل خلاف بين الاطراف يجب حله في الأطر المتعارف عليها بين أهلنا في الداخل الفلسطيني.
والاصلاح بين الناس مؤسس على اساس من ديننا وشرعنا الحنيف وعلى اساس من القيم والعادات غير المنافية لأصول ديننا وعلى القانون والوازع الديني والضميري.
ومن اعتبر نفسه انه فوق القانون فهو خارج عن صفوف مجتمعنا ونعتبره معول هدم لنا حق مناصحته ومنابذته ومن ثم اتخاذ الإجراءات الحامية لمجتمعنا منه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى