تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
د. نواعم شبلي جبارين
ليست الحياة طريقًا مستقيمًا مفروشًا باليقين، بل بحرٌ واسعٌ تتقاذفه الرياح، وتبحر فيه السفن محمّلة بالأحلام والآمال. وما أكثر ما نرسم المسارات ونحسن الظن بالوجهات، ثم نفاجأ بأن الرياح لا تهبّ وفق ما اشتهته سفننا، فتنحرف بنا عن المألوف، وتختبر فينا الصبر والحكمة والإيمان.
هذه العبارة، التي تختصر تجربة إنسانية عميقة، لا تعبّر عن خيبة فحسب، بل عن قانون من قوانين الوجود: أن الإرادة الإنسانية -مهما بلغت- تظل محدودة أمام تعقيدات القدر وتقلّبات الواقع. فالإنسان يخطط، ويسعى، ويجتهد، ثم تأتي لحظة الحقيقة ليكتشف أن النتائج ليست دائمًا صورة طبق الأصل عن التوقعات. هنا، تحديدًا، يتحدد معدن الإنسان: هل ينهار أمام العاصفة، أم يعيد ترتيب أشرعته ليواصل الإبحار؟
في لحظات الانكسار، تتكشف لنا معانٍ لم تكن لتظهر في أوقات الرخاء. فكم من طريقٍ أُغلق، ففتح بابًا آخر أكثر اتساعًا! وكم من حلمٍ تأجّل، فكان التأجيل رحمةً لا ندرك حكمتها إلا بعد حين!
إن الرياح التي تعاندنا اليوم قد تكون هي ذاتها التي تدفعنا غدًا نحو شاطئ أنضج وأعمق.
إن الإيمان الواعي لا ينفي الألم، لكنه يمنحه معنى. فالتسليم ليس استسلامًا، بل إدراكٌ عاقلٌ بأن للكون نظامًا، وأن ما يخرج عن رغباتنا قد ينسجم مع مصلحتنا العليا، وإن خفيت علينا. وفي هذا السياق، يصبح الصبر قوة فاعلة، لا موقفًا سلبيًا؛ والصبر هنا ليس انتظارًا جامدًا، بل عملٌ هادئٌ، ومراجعة للذات، وتكيّفٌ ذكيّ مع المستجدات. كما أن المرونة الفكرية والنفسية هي بوصلة النجاة في بحر الحياة. فالتمسّك الأعمى بخطة واحدة قد يغرق السفينة، بينما القدرة على التعديل والتعلّم من العواصف تحفظ المسار. إن القادة الحقيقيين -في حياتهم الخاصة والعامة- هم أولئك الذين يحوّلون العثرات إلى خبرة، والخسارة إلى درس، والتأخير إلى نضج.
في النهاية، قد لا نملك اتجاه الرياح، لكننا نملك اختيار زاوية الشراع. وقد لا تتحقق كل الرغبات، لكننا نستطيع أن نحافظ على الكرامة والمعنى والأمل. فحين تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فلنجعل من الحكمة ربانًا، ومن الإيمان مرساة، ومن العمل الدؤوب طريقًا لا ينقطع.


