أخبار وتقاريردين ودنيامقالات

إن الله كلفني أن أصرف عنه الدعاء

الشيخ عبدالله عياش- عضو حركة الدعوة والاصلاح

من يسمع هذه الجملة يُنكرها بادي الرأي، لأن المسلم مأمور بالتوجه إلى الله في الدعاء، فكيف يصح أن يُصرف عنه الدعاء سبحانه؟! وكيف يقول قائلٌ: هذه مهمتي، بل إن الله كلفني بها؟! وتزول الغرابة عندما تعلم أن صاحب هذه المقولة هو المحدَّث المُلهَم عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وقصد بها رضي الله عنه أن يُنصف المظلومين من الظالمين، ولا يحوجهم أن يسألوا الله ذلك.

نعم، هذه وظيفة ولي أمر المسلمين، يقيم العدل ويمنع الظلم، فلا تسمع أحدًا ينادي: اللهم إني مغلوب فانتصر، بل ستُرفع الأكف إلى الله تدعو لحاكمها بطول العمر، وقد تحقق ذلك فعلًا في عهد الفاروق رضي الله عنه، فقد جاءه رجلٌ من اليمن فسأله عمر: كيف تركت الناس وراءك؟ فقال: تركتهم يسألون الله تعالى أن يأخذ من أعمارهم ويزيد في عمرك!

هكذا كان الحال في ديار المسلمين يومًا، أما في زماننا فشعوب الأمة لم يُنصفها ولي أمرها من الظلم الداخلي، ولم يمنع عنها الظلم الخارجي، بل كان هو بنفسه سيفًا مُسلَطًا على رقابها، سِلمًا لأعدائها حربًا على أوليائها! أكف الضراعة مرفوعة إلى الله دومًا تدعو عليه بالهلاك والزوال!

ذكر ابن الداية في كتابه (المكافأة وحسن العقبى) أن أبا الحسن بن المدبر وكان كاتبًا يتولى خراج مصر في زمن الخليفة العباسي المتوكل على الله، جاءته امرأة تشفع في زوجها بعدما حُبس، فقالت له: يا أيها السيد، إنّّا مائةُ عيِّل على فلان، وقد ضاع شمله بسبب حبسه، فاتق دعوة تصعد إلى الله منا فيك. فقال لها كالمستهزئ: أمّا إذ عزمتم على هذا فليكن في السحر فإنه أنجع له! فلم تمر إلا أيام حتى أُخذ ابن المدبر هذا وحوسب ونوقش وأوقف في الطريق مَهينًا ذَليلًا يراه الناس. فكان أول من مر به تلك المرأة، فقالت له: جزاك الله عنا خيرًا يا فلان، لقد جربنا نصيحتك فوجدناها نافعة -تقصد الدعاء في السحر- فبكى وأبكى من حوله، واستمر في الحبس إلى أن مات فيه زمن أحمد بن طولون.

فيا ليت ولاة أمور المسلمين يتعظون، وليتهم كذلك يعلمون أنه لو حسنت سيرتهم بإقامة الدين وتطبيق الشريعة والحكم بالعدل؛ فلن يكون أحد من أمة الإسلام أكثر منهم أجرًا، قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى: “العادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجرًا من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام، لأنهم يقومون بجلب كل صلاح كامل، ودرء كل فساد شامل”.

ويفصل في موضع آخر ما أجمله في هذا الموضع فيقول تعليقًا على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ”، قال: “فبدأ به لعلو مرتبته، وأجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، وأن الولاة المقسطين أعظم أجرًا وأجلّ قدرًا من غيرهم؛ لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فيا له من كلامٍ يسير وأجرٍ كبير”. ولذلك كان الفضيل بن عياض يقول: لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان!

ثم يقول العز بن عبد السلام رحمه الله مبيّنًا أن العكس صحيح كذلك، وأن الحكام الظلمة هم أعظم الأمة وزرًا: “وأما ولاة السوء وقضاة الجور، فمن أعظم الناس وزرًا وأحطهم درجة عند الله، لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام، فإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة فيأثم بها ألف إثم أو أكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك الكلمة من مصالح المسلمين، فيا لها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة”. ولذلك اشتد خوف المؤمنين من هذا المنصب، فقيل لعمر بن الخطاب لما طُعن: المسلمون يرضون عبد الله بن عمر خليفة من بعدك، فقال: حسب آل الخطاب أن يدان منهم رجل واحد بالخلق كلهم!

فالحكام يوم القيامة في مستويين بينهما مراحل ومنازل، فالمقسط العادل لا أحد أعظم أجرًا منه، والظالم الفاجر لا أحد أعظم وزرًا منه، فيا لها من نعمة للمؤمن يرقى بها إلى أعلى المراتب، ويا لها من نقمة على الفاجر يهوي بها إلى أسفل سافلين.

وإن الناظر إلى واقع أمتنا اليوم، يعلم يقينًا أن أبرز ما ينقصها قائد رباني يجمع شتاتها ويوحد كلمتها وينهض بأعبائها ويحمي ثغورها ويغيث منكوبها ويسترد كرامتها، فأمة  الإسلام لا ينقصها علماء ولا عباقرة، ولا أعداد ولا موارد، فهي ملأى من هذه الخامات، ولكنها مشتتة أيدي سبأ؛ لا عقد يجمعها ولا راية توحدها، كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية غاب عنها راعيها. وقد قيل: وألف ثعلبٍ يقودها أسد، خيرٌ من ألف أسدٍ إن لم تُقَد. فما أحرانا أن نلح على الله بالدعاء أن يمنّ علينا بإمام عادل، فاللهم ولِّ أمورنا خيارنا، ولا تولِّ أمورنا شرارنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى